تجلس 10 نساء في مدينة طانطان التي تلقب بلؤلؤة صحراء المغرب القرفصاء داخل خيمة تقليدية في بيت إحداهن، مجتمعات حول كومة رمال يتسلين في جوف الليل بمزاولة لعبة “السيك” الشعبية الصحراوية الشهيرة.
وتقبل النساء على وجه الخصوص في مناطق الصحراء على ممارسة لعبة “السيك” التقليدية التي يتخذنها هواية تلازمهن في ليالي الصحراء الطويلة، مزجيات أوقاتهن الفارغة وموطدات علاقاتهن مع الصديقات والجارات ضمن نسيج مجتمعي متماسك لأهالي “البيضان”.
ففي ديسمبر (كانون الأول) من عام 2023 صدقت لجنة التراث في العالم الإسلامي التابعة لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة “إيسيسكو”، على إدراج لعبة “السيك” بصفتها تراثاً غير مادي باسم المغرب.
قواعد اللعبة
تتلخص قواعد لعبة “السيك” في توفير ثماني عصي يبلغ طول الواحدة منها من 30 إلى 40 سنتيمتراً، وتكون مصنوعة من القصب عادة أو من الخشب، فضلاً عن “إكسسوارات” تؤثث فضاء اللعبة من حجارة صغيرة أو عصي صغيرة.
وتسمى العصا الواحدة “السيك” التي تكون بوجهين داخلي وخارجي، فالداخلي يكون ملوناً والخارجي أملس، وتمارس النساء اللعبة هذه في مكان تتوسطه كومة رمال على شكل ظهر دابة تسمى “البْرا”.
وتلقي إحدى اللاعبات اللائي يكون عددهن أحياناً كبيراً قد يصل إلى 16 امرأة من الفريقين معاً، سبع عصي على المربع الرملي المرسوم بخطوط متوازية، لكن من دون تحريك القطع إلا بهدف إسقاط ست عصي على جانب واحد، بينما تبقى عصا واحدة مختلفة وهذا هو هدف “السيك”.
أما في حال سقوط كل العصي على جانبها الداخلي، تنال اللاعبة ما يسمى “الحجابة”، وهي في قواعد اللعبة تساوي “السيك” أربع مرات، باستثناء ما إذا تم إلغاء “الحجابة” بما يسمى في اللعبة “الحمار”، إذ تسقط ثماني عصي على الجانب الخارجي مع بقاء اثنتين، وفي هذه الحال تحوز اللاعبة المنافسة على “بكرة”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي هذه المرحلة من اللعبة الشعبية يحق للاعبة تحريك عصيها بعدد النقاط التي حصلت عليها، ويمكنها إعادة اللعب إذا حققت رقماً يعادل أربعة، وهكذا تجري أطوار اللعبة في أجواء من المتعة والتنافس الجميل.
وفرضت التطورات التي طاولت المجتمع الصحراوي استبدال كومة الرمل أحياناً بطاولة مزينة من الخشب، لكن من دون أن تفقد اللعبة قواعدها التقليدية التي اشتهرت بها منذ غابر الأعوام.
وظائف سلوكية واجتماعية
يعلق الباحث في الألعاب التقليدية ورئيس جمعية “أم ديار” للتراث والألعاب التقليدية في مدينة كلميم بوزيد الغلى على الموضوع بالقول، إن “السيك” لا تُعرف فقط في صحراء المغرب بل أيضاً في بعض بلدان شمال أفريقيا، موضحاً أن “قواعد وطرق ممارسة اللعبة الشهيرة عند أهل تونس تكاد تشتبه مع نظيرتها في جنوب المملكة”.
وفي شأن الوظائف السلوكية والاجتماعية التي تخلفها ممارسة لعبة “السيك” في أقاليم الصحراء، قال الغلى إنها تدعم المهارات الذاتية خصوصاً عنصر التركيز الذهني والعقلي، فهي لعبة تستوجب جرعة عالية من التركيز للفوز بها. وأوضح أن لعبة “السيك” أيضاً تكرس الروح الجماعية باعتبار أنها تتطلب وجود فريقين اثنين، كل فريق يضم أربعة أو خمسة أو حتى ثمانية أشخاص، مما يخلق جواً من الحماسة وروح اللعب الجماعي. واعتبر أنها تنمي لدى الصحراويات مشاعر الفرح والبهجة وإشاعة أحاسيس التآلف بينهن، من خلال هذه المجالس التي تضم مثل تلك الألعاب التراثية الشعبية التي لا تزال تحافظ على رونقها على رغم مرور الأعوام العديدة.
وأكمل الباحث في الألعاب التقليدية بأن “السيك” وأخواتها من هذه الألعاب في أقاليم الصحراء بالمغرب عنصر فاعل في تماسك المجتمع البيضاني، من خلال نسج علاقات إيجابية تملؤها التسلية النظيفة وروح المرح، وترسيخ الروابط بين الجارات والعائلات التي تجتمع ليس فقط لمزاولة هذه اللعبة، لكن أيضاً لاحتساء كؤوس الشاي وتجاذب أطراف الحديث عن آلامهن وآمالهن الشخصية والأسرية.
وخلص الباحث إلى أن “السيك” تعد لعبة عابرة للحدود والثقافات المحلية بدليل أنها ما زالت صامدة أمام التطورات التكنولوجية، وبقيت محافظة على أسرارها وقواعدها وتم تعويض الكومة الرملية باللوحة الخشبية فقط، مبرزاً أن صمودها يؤشر على صلابة التراث الأصيل لسكان الصحراء بفضل المحافظة عليه من طرف الأفراد والجمعيات وإقامة المهرجانات الخاصة بمثل هذه الألعاب التقليدية.
أسرار انجذاب الصحراويات
وتقبل النساء في الصحراء أكثر من الرجال على ممارسة لعبة “السيك” على وجه الخصوص، مما يطرح السؤال عن أسباب ودوافع هذا الاهتمام النسائي بهذه اللعبة التقليدية الشعبية تحديداً أكثر من غيرها.
وهنا قالت فوزية لغلم رئيسة جمعية نسائية محلية بمدينة الداخلة بالصحراء إن تركيبة أو تشكيلة اللعبة في حد ذاتها تدفع النساء إلى الإقبال على لعبة “السيك”، ذلك أنها تتطلب وجود عدد كبير من النساء سواء المشاركات في اللعبة أو حتى المتفرجات والمشاهدات. وأضافت “هذا التواجد النسائي الكثيف داخل حدود بيئية وأسرية محترمة وآمنة تحبذه النساء عموماً، وخصوصا الصحراويات”، وتابعت أن اللعبة تجذب النساء لأنها جماعية ونسائية خالصة، مما يجعل الحماسة استثنائية والتفاعل مشوقاً.
ومضت في حديثها بالقول إن النساء أيضاً يجدن في هذه اللعبة فرصة التحدث بحرية أكبر بعيداً من “رقابة الرجال”، مما يجعلهن أكثر تحرراً في ممارسة اللعبة مع ترديد بعض الأهازيج التراثية الصحراوية، أو إطلاق شعارات وعبارات حماسية عند الفوز، أو عبارات مستفزة في دائرة الأدب والاحترام ضد الفريق المنافس لإرباكه وجره إلى خسارة اللعبة.
ولم يفت المتحدثة ذاتها الإشارة إلى أن أحد أسباب انجذاب المرأة الصحراوية إلى هذه اللعبة التقليدية الجميلة، كونها فضاء لملاقاة الصديقات والجارات، وأيضاً مناسبة لتعليم الفتيات الصغيرات أصول وقواعد اللعبة حتى تمتد زمنياً وجغرافياً، ولا تنقرض بذهاب الأمهات والجدات”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية