أدى طول أمد الصراع المسلح الذي يدور في السودان بين الجيش وقوات “الدعم السريع” منذ الـ15 من أبريل (نيسان) 2023 إلى تفاقم الأزمة الصحية وخصوصاً استهداف المنشآت، مما أدى إلى خروج 80 في المئة من المستشفيات والمراكز في مناطق النزاع النشط عن الخدمة، فضلاً عن تأثر المؤسسات الصحية البعيدة بصورة حادة.
ملايين النساء وهن الأكثر تضرراً، لا سيما الحوامل اللائي يعانين غياب مقومات الصحة الإنجابية، التي أدت إلى وفيات الأمهات وإصابتهن بالتسمم نتيجة لموت الجنين قبل أن يولد، علاوة على فقر الدم بسبب انعدام التغذية الجيدة وافتقادهن الفيتامينات المقوية مما تسبب في إضعاف بنيتهن وعدم تحمل أشهر الحمل، إلى جانب من يفاجئها المخاض أثناء النزوح أو في معسكرات الإيواء، إذ لا تتوفر وسيلة لإنقاذ حياتها في ظل انعدام الممرات الآمنة وتوقف شبكات الاتصالات والإنترنت وعدم وجود سيارات الإسعاف.
هذه الأوضاع السيئة قادت النساء في مناطق الصراع، فضلاً عن القرى والمدن النائية إلى العودة للوسيلة القديمة في الولادة التي تعرف بـ”ولادة الحبل” والقابلة التقليدية التي تستخدم خبرتها المتوارثة في التوليد، إذ تعد سلاحاً ذا حدين، فإما الولادة الآمنة أو الموت بسبب تعقيداتها التي قد تصاحب ولادة متعثرة نتيجة للختان الفرعوني.
تحديات وأخطار
وكانت منظمة الصحة العالمية وصندوق الأمم المتحدة للسكان وشركاء آخرون حذروا منذ اندلاع الحرب من أن الهجمات المستمرة على المرافق الصحية ستؤدي إلى تداعيات كارثية على القطاع الصحي، لا سيما استهداف المستشفيات المتخصصة في الولادة التي تقدم الخدمات في الصحة الجنسية والإنجابية والاستشارات في تنظيم الأسرة، إذ أكدت إحصاءات منظمة الصحة العالمية الحديثة وجود أكثر من 4 ملايين امرأة في سن الإنجاب من بينهم نحو 500 ألف حامل، وجميعهن افتقدن الرعاية الصحية وتعرضن لتحديات وأخطار بالغة. في الوقت نفسه أشار صندوق الأمم المتحدة للسكان في تقاريره إلى أن هناك ما يفوق الـ27 ألف قابلة تم تدريبهن في مدرسة القابلات بأم درمان وتخرجن دايات قانونيات ينتشرن في ولايات السودان.
إلى ذلك تعمل منظمة الصحة العالمية مع وزارة الصحة السودانية على استعادة خدمات الولادة في المستشفيات، لكن الحاجة ستظل ماسة لتأمين وضع النساء الحوامل في العاصمة الخرطوم والجزيرة ودارفور وكردفان والنيل الأزرق وكل الولايات التي تؤوي نازحات.
معاناة مستمرة
في هذا الصدد قالت القابلة حليمة أبو التي تعمل في مجال التوليد منذ 50 عاماً، “قد لا يصدق كثر أنه في ظل تطور الصحة الإنجابية والمتابعة عبر الأجهزة الحديثة، فضلاً عن رعاية الحوامل ومراحل نمو الجنين والكم الهائل من استشاريي النساء والتوليد، لا تزال (ولادة الحبل) موجودة بسبب العادات والتقاليد، خصوصاً في ولايات دارفور وجنوب كردفان، لا سيما تعدد القبائل واختلاف الثقافات، إذ إنني واحدة من القابلات اللاتي عملن في التوليد بالحبل في المدن والقرى النائية نسبة إلى تنقلي برفقة زوجي الذي كان يعمل في قطاع السكة حديد في سبعينيات القرن الماضي، إذ كنت أمارس بصورة واسعة وآمنة هذا النوع من الولادة على رغم آلامها وطول مدتها، فضلاً عن أنني في تلك الفترة لم أر إحدى النساء توفيت بسبب قابلة تقليدية”.
وأضافت أبو، “من وجهة نظري فإن القابلة السودانية قديرة ولديها خبرة في إنقاذ الأم ومولودها، خصوصاً بعد فتح المدارس وتدريب القابلات التقليديات ليصبحن قانونيات يحملن صندوقاً به معدات طبية بمثابة ترخيص، فضلاً عن أن الحرب الدائرة حالياً أدت إلى سوء الأوضاع الصحية وزادت من الطلب على القابلة في كلتا الحالين، التي تقوم بمهمتها بسهولة، وأحياناً تكون الولادة مستعصية وتحتاج لإجراء عملية قيصرية ونضطر إلى نقل المرأة إلى المستشفى على رغم أخطار الطريق، وخصوصاً في ولايات دارفور التي عملت بها، لكن تحصل أحياناً مضاعفات تكون ضحيتها المرأة الحامل، وهذه ظروف فرضتها الحروب الأهلية، وحتى الآن المعاناة مستمرة بسبب الحرب الحالية، فضلاً عن أن القابلة بات لها دور في النظافة والصحة العامة في المنازل”.
وأردفت القابلة السودانية، “على رغم تقدمي في السن فإني أقوم بواجبي، إذ لا أزال قادرة على ممارسة هذه المهنة، خصوصاً أنني أقيم في ولاية تشهد تدهوراً مريعاً في الخدمات الصحية، ويتم استدعائي في أوقات كثيرة”.
تفعيل التوعية
من جانبها أوضحت الباحثة المجتمعية اعتماد الرشيد أن “انهيار المنظومة الصحية بسبب الصراع الممتد في السودان والعجز في حماية النساء الحوامل وتصاعد معدلات الوفيات، خصوصاً أثناء النزوح أو في المخيمات التي غالباً ما تكون في مناطق بعيدة وصحراوية، إذ إن كل التوقعات محتملة، لا سيما العودة إلى دايات الحبل، وفي الحقيقة هذا النوع من الولادة لم يندثر، خصوصاً في دارفور وجنوب كردفان حيث ترفض المرأة الذهاب إلى المستشفيات، علاوة على أنها كانت تنتشر في سهول البطانة وفي الولايات الشمالية”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابعت، “في تقديري أن العودة إلى ولادة الحبل ستكون سبباً أساسياً في ارتفاع نسبة الوفيات باعتبارها ولادة غير آمنة، فضلاً عن الأدوات البدائية التي تستخدم في هذه الولادة، وهي لا تتعدى شيفرة الحلاقة، إلى جانب التلوث والأمراض المهبلية كالالتهابات الناتجة من عدم التعقيم، إضافة إلى الطريقة المتبعة في التوليد باستخدام حبل متين يربط في أعلى الغرفة ويتدلى إلى أسفل لتمسك به المرأة المخاض وهي جالسة على ركبتيها تساعدها القابلة الشعبية التي تستخدم عضلاتها وخبرتها المتوارثة عن جداتها لإنقاذ امرأة سيئة الحظ ترفض الخروج عن المألوف، إذ يجتمع حولها النسوة، وبعض الرجال المقربين يدعون لها بسلامة الخلاص ويترقبون خروج المولود”.
ولفتت الباحثة المجتمعية إلى أن “الحرب المستعرة ستقود إلى عواقب لا تحمد عقباها وستعود المجتمعات السودانية إلى مفاهيم ما قبل الاستعمار، لذلك لا بد من تفعيل فرق توعوية في القرى، وتقديم خدمات في الصحة الجنسية والإنجابية لحماية النساء من العنف القائم على النوع الاجتماعي”.
وفيات متصاعدة
في السياق ذاته اعتبرت عضو لجنة أطباء السودان والناشطة في حقوق الإنسان سيدة عراقي، أن “نسبة وفيات الأمهات في الولايات التي حدثت بعد الحرب تقريبية بسبب صعوبة الرصد والتوثيق وعدم التواصل مع الأطراف المعنية نتيجة للوضع الأمني الذي تعيشه مناطق النزاع، لكن من أهم الأسباب الرئيسة في الوفيات الرجوع للولادة في المنازل بسبب إغلاق المستشفيات المتخصصة التي تقدم إرشادات المتابعة وعمليات الولادة الطبيعية والقيصرية على أيدي أطباء النساء والتوليد، مما دفع الحوامل إلى اللجوء للقابلات”.
وبينت عراقي أن نزوح الحوامل المتكرر بعد سيطرة قوات “الدعم السريع” على أجزاء واسعة من البلاد إلى مناطق لم تكن مستعدة للتعامل مع هذه الحالات زاد من الوفيات وسطهن، بينما سطر لبعضهن النجاة من الموت”.
وضع كارثي
في ولاية جنوب دارفور أوضحت مسؤولة الصحة الإنجابية صهيبة مبارك أن “وضع الحوامل كارثي ومصيرهن غامض نظراً إلى صعوبة الوصول إلى المستشفيات القليلة التي تعمل بسبب عدم توفر وسائل الحركة إلى جانب عدم توفر سيارات الإسعاف في الولاية عند تحويل الحالات الحرجة إلى المستشفى المرجعي في نيالا، فكل هذه الظروف قادت للعودة إلى الولادة بواسطة قابلة غير مدربة”.
وواصلت مبارك، “من المؤسف أن هناك عدداً كبيراً من الوفيات بسبب النزف الحاد بعد الولادة في المنازل، الذي يكون مصحوباً بارتفاع في حرارة الجسم، إلى جانب أن معظم الحوامل مصابات بالملاريا والكوليرا والتيفوئيد، ويصعب تدارك الحال في ظل شح الأدوية المنقذة للحياة، لا سيما أنه عند وصولها تكون في وضع حرج بل على حافة الموت”.
ونوهت مسؤولة الصحة الإنجابية أن “ملايين الحوامل في السودان يعشن ظروفاً إنسانية صحية قاسية وأصبحن يعتمدن بصورة مخيفة على القابلات، وأتوقع إزاء هذه الأزمة المتفاقمة أن تصبح الولادة أكثر صعوبة، لذلك من الضروري تفعيل دور تنظيم الأسرة”.
قابلات قانونيات
يحفظ التاريخ دور قابلات قانونيات عملن على محاربة ولادة الحبل، أبرزهن رائدة التمريض دنيا العطبراوية التي اكتسبت الخبرة من مس وولف البريطانية التي كانت تتنقل على ظهر حمار أبيض في القرى بحثاً عن فتيات يعملن في مجال التوليد والتمريض وختان الإناث، إذ بدأت التدريب بالقابلات التقليديات عام 1918، ومن بعدها واصلت المسيرة مس رايت التي أشرفت على افتتاح أول مدرسة للقبالة بأم درمان عام 1924، تلتها مدرسة القرويات بالخرطوم بحري، وكانت أول عميدة لها دار الجلال عبدالله، فضلاً عن أن أول مدرسة ولائية كانت بمدينة الأبيض في غرب السودان، وأول قابلة سودانية هي البتول محمد عيسى، وبعد الاستقلال عام 1956، تم استيعاب غالب دايات الحبل ليصبحن قانونيات، ومنهن حواء على البصير وحواء محمد صالح ورضينا مرسال وآمنة سرور ومنى الحاج، وغيرهن ممن استفادت ولايات السودان من خبراتهن، إلى جانب قابلات من الصومال واليمن والسعودية وجزر القمر وليبيا.
والآن في ظل معاناة النساء الحوامل بسبب ما تشهده البلاد من ظروف استثنائية، فإن ولادة الحبل تحتاج وقفة من القضاء.
نقلاً عن : اندبندنت عربية