تعيش فرنسا حالياً وضعاً سياسياً مضطرباً، يفرض تحديات كبيرة على الرئيس إيمانويل ماكرون لإيجاد حلول سريعة وفاعلة لتشكيل حكومة مستقرة. في هذا السياق، جاء تعيين فرانسوا بايرو رئيساً للوزراء كخطوة تسعى إلى تحقيق توازن سياسي وسط مشهد معقد، إذ يواجه البرلمان الفرنسي انقسامات عميقة بين اليمين واليسار والمعسكر الرئاسي.

تم تعيين بايرو، الحليف التاريخي لماكرون، بعد تسعة أيام من سقوط حكومة ميشال بارنييه نتيجة تصويت على مذكرة لحجب الثقة، حصلت على دعم من نواب اليسار واليمين المتطرف في الرابع من ديسمبر (كانون الأول) الجاري.

من هو فرانسوا بايرو؟

فرنسوا بايرو، البالغ من العمر 73 سنة، زعيم حزب “الحركة الديمقراطية” (موديم) وعمدة مدينة بوه، من الشخصيات السياسية البارزة في الساحة السياسة الفرنسية.

ولد بايرو في الـ25 من مايو (أيار) عام 1951 في منطقة بوردير في بيرينيه الأطلسية، وينحدر من عائلة مزارعين.

وبدأ مسيرته السياسية في منطقة بيرينيه الأطلسية، حيث تم انتخابه مستشاراً عاماً ثم نائباً في الجمعية الوطنية، إلى جانب توليه منصب عمدة مدينة بوه بين عامي 2014 و2020 وكان رئيساً لمجموعة بلديات بوه-بيرينيه.

وتم تعيينه عام 1993 وزيراً للتعليم الوطني، وفي 1998 أصبح رئيساً لحزب الاتحاد من أجل الديمقراطية الفرنسية. وعام 2002 ترشح للانتخابات الرئاسية، وعام 2017 تم تعيينه وزيراً للعدل ثم في 2020 عيّنه ماكرون على رأس الهيئة العليا للتخطيط.

رجل التسويات

رداً على سؤال، ما هي الظروف السياسية التي أدت إلى تعيين بايرو وما الذي يجعله “مناسباً”؟، يجيب المحلل السياسي نبيل شوفان أن “بايرو حليف مخلص لماكرون لكنه أيضاً منتقد قوي له، لذلك ربما ينجح في التحدث إلى كل من الاشتراكيين والجمهوريين وحتى المعسكر الرئاسي”.

ويشير إلى أن بايرو على رغم قربه من ماكرون فإنه ليس المفضل لدى سيد الإليزيه الذي يرى أن بايرو سيكون متحرراً جداً من رغباته، فيما يبحث ماكرون عن رئيس وزراء متعاون بين الحين والآخر، مما يفسر على حد قول المحلل النقاشات الصعبة جداً وأجواء التوتر والغضب التي سادت اجتماعات بايرو مع ماكرون صباح تعيينه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويؤكد شوفان أن اتخاذ تدابير عادلة ومناسبة لاستعادة حيوية البلاد وازدهارها، وتحقيق العدالة الاجتماعية والمصالحة بين الفرنسيين هي من صلب اهتمامات رئيس حركة “موديم” منذ أن كان مرشحاً رئاسياً عنها لثلاث مرات، وانسحب في المرة الأخيرة عام 2017 لمصلحة إيمانويل ماكرون في مواجهة ما سماه “الخطر الأسوأ في تفشي اليمين المتطرف”، مما ساعد يومها ماكرون للوصول إلى الإليزيه بعد قبوله بالتحالف مع بايرو وتلبية بعض متطلبات المصلحة العامة التي كان بايرو يروج لها كقانون إضفاء الأخلاق على الحياة العامة، لا سيما النضال الحازم ضد تضارب المصالح.

ويوضح شوفان أن الإليزيه رأى في بايرو القدرة على تشكيل حكومة يحتشد خلفها أكبر عدد ممكن من القوى السياسية يجنبها مصير حكومة بارنييه، وهي مهمة صعبة على حد تعبيره، تحتاج إلى مخطط ناجح مثل بايرو.

ويعتقد شوفان بأن بايرو يستطيع إيجاد مسار للتسوية في مواجهة جمعية وطنية ثلاثية الأقطاب، وهو كان أول من طالب النواب من اليمين واليسار والوسط بالعمل معاً، مما يعطي رؤيته اتساقاً معيناً مع ما يجري اليوم، فالرجل تاريخياً ليس يمينياً ولا يسارياً وليس من كتلة الرئاسة لذا يمكن اعتباره فعلياً أول رئيس وزراء وسطي في الجمهورية الخامسة، مما يمثل عودة  للقيم الآمنة، بعيداً من تطرف أو حتى جموح اليمين واليسار.

فضلاً عن ذلك، يضيف شوفان أن بايرو يمتلك هوية سياسية ليست على الإطلاق مطابقة لهوية إيمانويل ماكرون، هي المسيحية الاجتماعية، وهو وعلى رغم تمتعه ببرنامج سياسي قريب من اليمين كما يتهمه اليساريون، فإن الرجل دعا في مناسبات عدة إلى التصويت لليسار كما حصل حين نافس فرانسوا هولاند في الرئاسيات عام 2012، وكل ذلك يكسب الرجل قدرة على إرضاء محتمل لكل من اليمين المحافظ واليسار الاجتماعي.

ويلفت شوفان إلى أن بايرو في أول تعليق له يوم انتخابه قال أمام الكاميرات قبل صعوده إلى السيارة تعليقاً على تسميته “أخيراً المتاعب بدأت”، في إشارة واضحة إلى صعوبات ستكون موجودة مع الإليزيه من أجل تحقيق برنامجه الانتخابي الذي يمكن تلخيصه بتعزيز العدالة والنزاهة والمصالحة بين الفرنسيين وبين الفرنسيين والمنتخبين.

ويضيف أن “بايرو أظهر أنه شديد الحذر، ويميل إلى فتح نقاش بدلاً من القبول أو الرفض في شأن إصلاحات عدة، فهو في وقت لا يعارض بحزم زيادة سن التقاعد، إلا أنه أكد مراراً أنه يمكن إدارته، كما أنه حين عارض اعتماد قانون الهجرة الذي روج له سلفه بارنييه ووزير الداخلية برونو روتايو لكسب ود اليمين المتطرف، اعتبر أن الوقت لم يكن مناسباً لاقتراحه، كما أنه رفض من قبل الانضمام إلى حكومة غابرييل أتال، فرئيس الحركة الديمقراطية يحرص على الحفاظ على استقلاله الأيديولوجي، لذا يمكن تلخيص مشروعه دائماً بأنه يريد جعل الناس من هويات سياسية مختلفة يعملون معاً، من دون أن يفقد كل منهم هويته من خلال جعلهم متقاربين، وإن بدا الأمر طوباوياً، لكنه على أية حال لا يشبه أبداً إيمانويل ماكرون الذي يحاول دائماً جعل الجميع في معسكره”.

التحديات الرئيسة

وفي اعتقاد شوفان، يواجه رئيس الوزراء الجديد كثيراً من التحديات أهمها الصمود لفترة أطول من حكومة ميشال بارنييه وتجنب الرقابة، من خلال الاستماع إلى اليسار واليمين وتكوين تحالفات منهما تعمل معاً، إلى جانب اقتراح موازنة تكون قابلة للحياة، وفي الوقت الحالي، فإن حزب “فرنسا الأبية” هو الوحيد الذي أكد بالفعل أنه سيصوت لمصلحة إسقاط الثقة عن حكومة بايرو، بينما يبدي الاشتراكيون قبولاً حذراً، وإذ يرفضون الدخول في هذه الحكومة، فإنهم وجهوا رسالة إلى رئيس الوزراء الجديد يطلبون فيها التخلي عن سن القوانين من دون تصويت النواب، ثم ضمان أن حكومته “لن تضع نفسها بأي شكل من الأشكال تحت تبعية حزب التجمع الوطني”، وهما أمران أديا إلى الإطاحة بحكومة ميشال بارنييه.

 

ويؤكد شوفان أن الموازنة ستكون أول وأهم اختبار لبايرو ونوابه الذين كثيراً ما رحبوا بتعزيز العدالة الضريبية، وضغطوا من أجل فرض ضرائب أعلى على “الأرباح الزائدة”، كجزء من أهداف حزبهم الاجتماعي، مما يعني أن فرانسوا بايرو سيجازف بإثارة غضب الماكرونيين وقسم من الجمهوريين، لكنه سيرضي اليسار بالتأكيد.

الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية

في هذا الإطار، يقول شوفان إن رئيس الوزراء الجديد  أعرب يوم تسلّم السلطة مع سلفه ميشال بارنييه في ماتينيون أن لا أحد يعرف صعوبة الوضع السياسي المتعلق بالموازنة أكثر منه، وهو يعتبر موضوع العجز والديون الذي سيتعين عليه أن يقدم حلولاً له في موازنة العام المقبل في جمعية وطنية منقسمة بشدة، مشكلة أخلاقية، وليس مالية فحسب.

وشدد المحلل السياسي على أن بايرو يبحث عن خفض الديون والعجز، وهو موضوع لا يحظى بشعبية، وهو يعتقد بأن “مستقبل فرنسا معرض للخطر إذا واصل الفرنسيون العيش على الديون”، مشيراً إلى أن بايرو يمتلك استراتيجية للتعافي في مواجهة ديون “كوفيد” ويؤيد الشركات الصغيرة والمتوسطة التي يتفق بدعمها مع الرئيس إيمانويل ماكرون، ولم يختلف معه في عناوين كإصلاح قانون العمل وإصلاح التدريب المهني مع الدعوة إلى حماية العمال الأكثر ضعفاً.

وبحسب شوفان، فهو يدعو اتحاد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة إلى “الاعتماد السريع للموازنة” و”ترجمة تدابير التبسيط التي طال انتظارها إلى أفعال”.

وبخصوص تحفظاته على إصلاح المعاشات التقاعدية، اعتبرها شوفان بمثابة توضيح للمسافة التي يستطيع فرانسوا بايرو أن يقطعها عن رئيس الجمهورية، فلقد وصف الإصلاح بأنه سيئ الإعداد والشرح وينتقد تمريره من دون تصويت، ولقد أوصى بتعديل يتعلق بزيادة طفيفة للغاية في مساهمات أصحاب العمل لتمويل الإصلاح.

وفي ما يتعلق بالإصلاحات الاجتماعية يشير شوفان إلى أن فرانسوا بايرو الذي انتخب رئيساً للجبهة الديمقراطية المتحدة عام 1998، يحلم بتحرير الوسط من اليمين، ويدعو إلى خط سياسي وسطي مستقل عن حزب التجمع الجمهوري، مما يعارض فكرة الحزب الواحد، ويميل إلى إصلاحات تدرب المجتمع الفرنسي على ثقافة الائتلافات والحوارات بين أبناء الشعب وممثليهم، ومن ثم العمل على تعايش الفرنسيين ومعالجة مشكلة الانقسام من جذورها، بالتالي يتوقع أن يعطي الرجل أولوية إلى إصلاح بعض القوانين الاجتماعية والمدارس والجامعات والإعلام ومراكز الدراسات والابتكار ودعم الاستثمارات فيها.

 

وعن السناريوهات المقبلة، يقول شوفان إنه إذا ما أراد بايرو الاستمرار في ماتينيون لفترة أطول من ثلاثة أشهر فإن عليه الانغماس في الحوارات والنقاشات والمفاوضات الدائمة مع كل الأطراف السياسية في الداخل، مما يعني عدم تفرغه للتدخل في السياسات الخارجية لفرنسا، وهي فرصة جديدة أمام الإليزيه للحفاظ على استقلالية مقبولة في اتخاذ القرارات على المستوى الأوروبي خصوصاً عدا الموازنة، وبعض الإصلاحات القانونية المتعلقة بالنزاهة السياسية والعدالة المجتمعية، وهو كان انتخب من قبل لعضوية برلمان ستراسبورغ، ودافع من مقعده عن رؤيته لـ”أوروبا الشعب وبناء المجتمع الذي يعتبره ضرورياً في عالم تغير حجمه”.

تحديات حكومة فرانسوا بايرو

ويرى الباحث والمحلل السياسي محمد رجائي بركات من جهته أن فشل بارنييه في الحصول على غالبية برلمانية وتمرير حكومته، وضع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في موقف صعب، فلم تبقَ أمامه خيارات كثيرة. وأوضح بركات أن ماكرون حاول تعيين رئيس وزراء ينتمي إلى الحزب الاشتراكي، لكنه لم ينجح في ذلك، مما دفعه في النهاية إلى اختيار فرانسوا بيرو، المعروف بانتمائه إلى اليمين المعتدل أو يمين الوسط.

وأشار بركات إلى أن الوضع الاقتصادي في فرنسا حالياً يشهد تراجعاً ملحوظاً وأن استمرار غياب التوافق بين الأحزاب في شأن الملفات المدرجة على جدول أعمال البرلمان قد يؤدي إلى تفاقم الأوضاع. كما حذر من احتمال فشل فرانسوا بيرو في إدارة شؤون البلاد إذا استمر هذا الجمود السياسي.

وفي السياق ذاته، أكد بركات أن فرنسا فقدت كثيراً من تأثيرها، سواء داخل الاتحاد الأوروبي أو على المستوى الدولي، مما يعكس تراجع مكانتها على الساحة العالمية، كما أن غياب الاستقرار في فرنسا يضعف من دورها وتأثيرها داخل دول الاتحاد الأوروبي، وكذلك في الملفات الدولية المطروحة على الساحة، مثل الأزمة الأوكرانية وقضايا الشرق الأوسط.

ويضيف أن مستقبل العلاقات الفرنسية مع الولايات المتحدة الأميركية، بخاصة في ظل قرارات ترمب تجاه حلف شمال الأطلسي ودول الاتحاد الأوروبي، يتطلب نوعاً من التفاهم والتنسيق بين الدول الأعضاء في الاتحاد.

ويؤكد بركات أن التعامل مع القرارات الأميركية المستقبلية سيؤدي حتماً إلى تأثيرات اقتصادية ومالية في دول الاتحاد الأوروبي، إلى جانب تأثيرها في الموقف الأوروبي الموحد حول الأزمة الأوكرانية. ويرى أن اتباع الاتحاد الأوروبي، بصورة أو بأخرى، للمواقف والقرارات الأميركية، يضعف دور فرنسا ودور الاتحاد الأوروبي على الساحة الدولية، وفق تعبيره.

ويشير محمد رجائي بركات إلى أن التعامل مع الإصلاحات السياسية والاقتصادية سيكون تحدياً كبيراً أمام فرانسوا بيرو، إذ سيجد صعوبة في إقناع البرلمان والجهات المعنية بتبني خطط محددة لتحسين الأوضاع الاقتصادية. ويعود ذلك، وفقاً لبركات، للحاجة الملحة إلى تأمين مبالغ ضخمة لسد العجز في الموازنة الفرنسية، مما قد يؤثر سلباً في توجهات رئيس الوزراء وبرامجه المستقبلية.

ختاما، وفي ظل التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه فرنسا، يبقى نجاح فرانسوا بايرو مرهوناً بقدرته على تجاوز العقبات السياسية والاقتصادية، وقيادة حكومة توافقية قادرة على جمع أطراف المشهد السياسي المنقسم، ومع ذلك يبقى السؤال مطروحاً، هل يستطيع بايرو تحقيق الاستقرار المطلوب وتنفيذ الإصلاحات اللازمة وسط هذا الوضع المعقد؟. 

نقلاً عن : اندبندنت عربية