مع موافقة المحكمة العليا الأميركية على تحديد الحكم النهائي في تحدي تطبيق “تيك توك” لقانون من شأنه حظر عملياته في الولايات المتحدة أو بيعه لشركة أميركية، تعود معركة طويلة الأمد بين أنصار حرية التعبير المنصوص عليها في الدستور الذين اصطفوا للإبقاء على التطبيق، وأنصار دولة الأمن القومي الذين يرون في “تيك توك” تهديداً للأمن القومي الأميركي. ومع تدخل الرئيس المنتخب دونالد ترمب قبل أيام بإعلانه أنه سينظر في حظر تطبيق “تيك توك”، الذي وصفه بأن لديه في قلبه “مكان دافئ تجاهه”، يصبح مستقبل “تيك توك” في أميركا مرهوناً بقرار المحكمة، إذ ترفض شركة “بايت دانس” الشركة الأم لـ”تيك توك” بيعه حتى الآن، لكن حظره قد يكون نذير شؤم باضمحلال تأثيره حول العالم.

بريق أمل

 خلال السادس من ديسمبر (كانون الأول) الجاري بدأ العد التنازلي لحظر تطبيق “تيك توك” في الولايات المتحدة بين المؤثرين في شبكة الإنترنت، وساد الخوف بين صانعي المحتوى والمبدعين استعداداً لخسارة وجودهم على تلك المنصة عبر دعوة معجبيهم إلى متابعتهم على “يوتيوب” و”إنستغرام”، بسبب الحكم الصادر خلال هذا اليوم من محكمة الاستئناف في العاصمة واشنطن برفض تعطيل القانون الصادر عن الكونغرس بحظر التطبيق.

 لكن بارقة أمل ظهرت أخيراً حينما وافقت المحكمة العليا الأميركية الأربعاء على الاستماع إلى تحدي “تيك توك” لقانون حظر عملياته في الولايات المتحدة، مما يضع القضية على مسار سريع بصورة استثنائية من شأنه أن يحسم القضية نهائياً خلال الشهر المقبل، قبل أن يتولى الرئيس المنتخب دونالد ترمب السلطة في البيت الأبيض.
وبتخصيص المحكمة العليا ساعتين للمرافعة الشفوية خلال الـ10 من يناير (كانون الثاني) 2025 سينظر القضاة إلى الأسئلة الأهم محل الخلاف في القضية، إذ يضعون حماية الدستور لحرية التعبير في مواجهة تأكيدات الحكومة على أن تطبيق “تيك توك” يشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي. وربما يأتي الحكم بعد ذلك خلال أي وقت، إذ يتوقع أن تصدر المحكمة الأمر القضائي قبل دخول القانون الذي وافق عليه الحزبان الجمهوري والديمقراطي، حيز التنفيذ خلال الـ19 من يناير 2025، أي قبل يوم واحد من تولي ترمب منصبه.

دور ترمب الخفي

غير أن لقاء ترمب والرئيس التنفيذي لشركة “تيك توك” شو زي تشيو في منتجع “مارالاغو” بولاية فلوريدا خلال اليوم نفسه الذي طلب فيه تطبيق “تيك توك” من المحكمة العليا النظر في قضيته، على أساس أنه ينتهك التعديل الأول من الدستور في شأن ضمان حرية التعبير، يثير تساؤلات حول الدور الذي لعبه ترمب وبخاصة بعدما صرح بأنه سيحاول الاحتفاظ باستخدام الأميركيين للتطبيق، وأنه سيلقي نظرة على الأمر لأن لديه مكاناً دافئاً في قلبه لـ”تيك توك”، مشيراً إلى أن التطبيق عزز دعمه من قبل الناخبين الشباب خلال الانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

كما أن جيف ياس أحد الداعمين الرئيسين لترمب هو المؤسس المشارك والمدير الإداري لمجموعة “ساسكويهانا” الدولية، التي تعد من أكبر المستثمرين في “بايت دانس” وهي الشركة الأم المالكة لتطبيق “تيك توك” الذي يستخدمه نحو 170 مليون أميركي.
ومن المحتمل أن يكون اهتمام ترمب المعلن ولقاءاته بمسؤولي الشركة أسهم في تحرك المحكمة العليا بسرعة غير عادية، عبر موافقتها على النظر في القضية بعد يومين من تقديم “تيك توك” طلب النظر فيها بصورة طارئة في خرق لممارساتها المعتادة، إذ لم تطلب المحكمة من إدارة بايدن الرد على الطلب بل تعاملت معه باعتباره التماساً يسعى إلى المراجعة.
كما أن المحكمة التي عين ترمب ثلاثة من بين قضاتها التسعة خلال ولاية حكمه الأولى، أرجأت خلال الوقت ذاته اتخاذ قرار في شأن ما إذا كانت ستمنع موقتاً قانون الحظر أو البيع أثناء استمرار التقاضي، إذ يمكن للقضاة تعليق الإجراء إلى ما بعد المرافعة الشفوية أو السماح بدخوله حيز التنفيذ كما هو مخطط له، وهو ما يفسره الخبراء القانونيون بأنه يشير إلى أن المحكمة قد تصدر حكماً قبل الموعد النهائي المحدد خلال الـ19 من يناير 2025 بموجب القانون، مما يعني أن القضية ستحل قبل تنصيب ترمب خلال الـ20 من يناير 2025.

مخاوف الأمن القومي

لكن إذا حدث ذلك وصدر الحكم لمصلحة “تيك توك” على اعتبار أن القانون ينتهك التعديل الأول من الدستور، ستكون دولة الأمن القومي الأميركية تعرضت للطمة قوية، فقد وقع الرئيس جو بايدن على القانون الربيع الماضي بعدما دق المشرعون في الكونغرس من كلا الجانبين ناقوس الخطر في شأن الأخطار التي تهدد الأمن القومي الأميركي، وقالوا إن إشراف الحكومة الصينية على الشركات الخاصة مثل “تيك توك” من شأنه أن يسمح لها بالحصول على معلومات حساسة عن الأميركيين، أو نشر الدعاية السياسية والتأثير في آراء الناخبين على رغم أنهم لم يشاركوا علناً أدلة على حدوث ذلك.
وأبدى كبار الساسة الأميركيين ملاحظات مهمة حول ما تتبعه الحكومة الصينية نفسها على أراضيها بحظرها المنصات الأميركية مثل “فيسبوك” و”يوتيوب” في الصين، كما أن “تيك توك” نفسه غير مسموح به هناك ما يشير إلى تناقض كبير في مواقف بكين.

نفوذ كبير

ومنذ وصول “تيك توك” إلى الولايات المتحدة عام 2018 أصبح ظاهرة ثقافية تمارس نفوذها على كل جانب تقريباً من جوانب الحياة الأميركية، إذ يلجأ المستخدمون وبخاصة الأجيال الأصغر سناً إلى التطبيق للحصول على الأخبار والترفيه والتسوق، منجذبين بمحرك التوصيات الذكي الذي يجمع مقاطع فيديو قصيرة للمستخدمين في موجز رئيس.

غير أن التطبيق أصبح مثيراً للجدل لأنه يعزز الإدمان على استخدامه بسرعة، كما أنه يقيس اهتمامات المستخدمين عبر احتساب عدد الثواني التي يقضونها في كل مقطع فيديو، ويمكن أن يجمع معلومات أوسع عن فئات المستخدمين وأعمارهم وأماكن سكنهم وعملهم، مما يثير مخاوف أمنية نظراً إلى ملكيته الصينية وخطر استخدام الحكومة الصينية التطبيق لنشر معلومات مضللة سرية.
ولهذا أمرت المحكمة الطرفين بتقديم مذكرات متزامنة خلال الـ27 من ديسمبر الجاري لمعالجة ما إذا كان القانون المعروف رسمياً باسم “قانون حماية الأميركيين من التطبيقات الخاضعة لسيطرة الخصوم الأجانب”، ينتهك التعديل الأول من الدستور.

إنكار التهديد

ومنذ أعوام تحاول “تيك توك” تهدئة المخاوف الأمنية للحكومة الأميركية من خلال اقتراح يعرف باسم “مشروع تكساس”، والذي يهدف إلى فصل بيانات المستخدم الأميركية الحساسة عن بقية عمليات الشركة، لكن المسؤولين الحكوميين في واشنطن قالوا إن الاقتراح غير كاف.
وخلال مداولات محكمة الاستئناف الأخيرة في واشنطن شددت مذكرة مقدمة من “تيك توك” على أن الغالبية العظمى من المحتوى الذي يتشاركه المبدعون والمستخدمون على المنصة ليس له أية آثار جيوسياسية، لأن سكان الولايات المتحدة يستخدمون التطبيق بصورة أساس لتبادل الأفكار حول التسلية والأنشطة اليومية مثل الترفيه والصحة والطبخ.

وعلى رغم اعتراف “تيك توك” بأن المنصة تتضمن أيضاً محتوى اجتماعياً وسياسياً كوسيلة متزايدة لمناقشة الأحداث والقضايا السياسية الجارية وبخاصة بين الشباب تحت سن 30 عاماً، فإن هذا لا يشكل مصدر تهديد للأمن القومي الأميركي بل يزيد من مصالح حرية التعبير التي ستكون على المحك هنا.
وبينما يدعو القانون “بايت دانس” إلى بيع التطبيق لشركة غير صينية أو إجبار “غوغل” و”آبل” ومنصات أخرى على التوقف عن دعم التطبيق داخل الولايات المتحدة، قالت الشركة الأم إنه لا يمكن بيع “تيك توك” لأسباب قانونية وتكنولوجية ومالية. وأكدت أن “بايت دانس” مملوكة في غالبيتها لمستثمرين عالميين، ولأن البيع من المرجح أن تمنعه ​​بكين.

لكن الحكومة الأميركية ردت بأن البيع ممكن في الواقع، وشككت محكمة الاستئناف الأميركية في الحجة القائلة بأن الصين ستمنع البيع على اعتبار أن تشريع الكونغرس يؤكد ممارسته لسلطاته الدستورية، وليس هناك حاجة للنظر في تفضيلات دولة أخرى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حرية التعبير

ومع ذلك لا يزال “تيك توك” يراهن على الفوز بالقضية، إذ اعتبر في ملف قدمه للمحكمة أن القانون الذي أقره الكونغرس بمجلسيه ووقعه الرئيس بايدن هو تقييد هائل وغير مسبوق لحرية التعبير، من شأنه أن يسكت خطاب عدد من الأميركيين الذين يستخدمون المنصة للتواصل في شأن السياسة والتجارة والفنون وغيرها من الأمور. وتوقع المتحدث باسم “تيك توك” مايكل هيوز أن تجد المحكمة حظر التطبيق غير دستوري حتى يتمكن أكثر من 170 مليون أميركي من ممارسة حقوقهم في حرية التعبير.

واكتسب “تيك توك” دفعة من التأييد حين حث عدد من المدافعين عن الحريات المدنية المحكمة العليا على عدم السماح للحكومة الأميركية بتقييد حرية التعبير بناء على ما وصفوه بالضرر التكهني، وعدَّ مدير الحريات المدنية في مؤسسة الحدود الإلكترونية ديفيد غرين، الذي انضم عبر مذكرة قانونية إلى دعم موقف “تيك توك”، أنه لا ينبغي للحكومة الأميركية أن تكون قادرة على تقييد حرية التعبير دون إثبات بالأدلة بأن الأدوات التي يستخدمها “تيك توك” ضارة، بصورة خطرة خلال الوقت الحاضر.
وفي مواجهة المطالبين بالإبقاء على “تيك توك” اجتذبت القضية اهتماماً رفيع المستوى، إذ قدم زعيم الأقلية الجمهورية الحالية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل مذكرة ودية، وصف فيها طلب “تيك توك” الطارئ بوقف تنفيذ القانون بأنه “غير سليم”، وحث المحكمة على السماح بدخول شرط التخارج حيز التنفيذ خلال الـ19 من يناير 2025، “لأن الحق في حرية التعبير المنصوص عليه في التعديل الأول من الدستور لا ينطبق على وكيل مؤسسي الحزب الشيوعي الصيني” في إشارة إلى الحكومة الصينية، ولأن “قانون الخصوم الأجانب الذي استُند إليه كان النتيجة المدروسة والمتعمدة للتشريع الذي من شأنه أن يحقق كل صور التدقيق”.
وقبل ذلك، اعتبر قضاة محكمة الاستئناف أن التعديل الأول موجود لحماية حرية التعبير في الولايات المتحدة، وأن الحكومة تصرفت هنا فقط لحماية هذه الحرية من دولة أجنبية معادية، وأن قرار الكونغرس يتسق مع الممارسة التنظيمية الراسخة، ويخلو من الهدف المؤسسي لقمع رسائل أو أفكار معينة.

أرباح وخسائر

وتمثل الولايات المتحدة أكبر سوق لـ”تيك توك”، ولهذا فإن خروج التطبيق من أميركا من شأنه أن يلحق الضرر بمستقبل “بايت دانس” ويضع الشعبية العالمية للتطبيق موضع تساؤل، وينذر بما هو أسوأ من قبل عدد من البلدان الأخرى وبخاصة الأوروبية التي ما زالت تتشكك حول “تيك توك”، والتدخلات التي يمكن أن تصاحبه.

وستكون تلك ثاني أكبر ضربة للتطبيق بعدما حظرت الهند “تيك توك” بعد صراع مع الصين عام 2020، والتي كانت خلال ذلك الوقت أكبر سوق للمنصة مما جعل التطبيق يختفي عن نحو 200 مليون مستخدم.

وإذا تم حظر التطبيق، فإن الشركات الأميركية الصغيرة التي تستخدم “تيك توك” للتسويق ستخسر أكثر من مليار دولار من الإيرادات خلال الشهر التالي للحظر، بحسب ما تقول الشركة الأم “بايت دانس”، وسيخسر الأشخاص الذين يصنعون مقاطع فيديو باستخدام التطبيق ما يقارب 300 مليون دولار من الأرباح، إذ يعتمد عديد من منشئي المحتوى عبر الإنترنت داخل الولايات المتحدة على عائدات الإعلانات من “تيك توك” في معيشتهم، ويستخدم عديد من الأميركيين الآخرين وبخاصة الشباب والمراهقين “تيك توك” كجزء من ترفيههم اليومي.

لكن الحظر أيضاً من شأنه أن يفيد مادياً المنافسين الحاليين لـ”تيك توك”، إذ حاولت على مدار الأعوام الماضية شركات التكنولوجيا الأميركية مثل “ميتا” (مالكة “فيسبوك” و”إنستغرام”) و”غوغل” (تمتلك “يوتيوب”) إزاحة “تيك توك” من السوق الأميركي، لكن التطبيق احتفظ بموطئ قدمه. وإذا اضطرت “بايت دانس” إلى بيع “تيك توك” في أميركا فسيربح المشترون عائدات “تيك توك” المستقبلية بعد تغيير اسم التطبيق في الولايات المتحدة.

مصير مجهول

وعلى رغم حال التفاؤل التي تسود المسؤولين عن “تيك توك” إزاء الحكم المتوقع من المحكمة العليا، فإن التكهن بالقرار النهائي غير مضمون نظراً إلى أن المحكمة العليا الأميركية أبدت اهتماماً كبيراً خلال الآونة الأخيرة بتطبيق مبادئ حرية التعبير على منصات التكنولوجيا الأميركية العملاقة، لكنها توقفت أيضاً عن إصدار أحكام نهائية، وتشددت مع تطبيق التعديل الأول من الدستور حول حرية التعبير على الأجانب، وحكمت بأنهم بصورة عامة لا يتمتعون بالحماية الدستورية، وفي الأقل في ما يتعلق بالخطاب القادم من الخارج.

وما يزيد من مشكلة “تيك توك” تلك النظرة السلبية التي تواجه التطبيق من الأكاديميين المتخصصين في دراسة وسائل التواصل الاجتماعي، إذ جاءت تلك المنصة في المرتبة الأخيرة من حيث الحاجة إلى إجراء تحسينات بين وسائل التواصل الاجتماعي الأربع الأكثر انتشاراً في أميركا، وهي “إكس” (تويتر سابقاً) و”فيسبوك” و”يوتيوب” و”تيك توك” التي خضعت لدراسات تقييم.
وعلى رغم أنها المنصة الأسرع نمواً في العالم فإن دراسة أجريت العام الماضي كشفت عن ظهور مقاطع فيديو من إنشاء المستخدمين، تضمنت 20 في المئة منها معلومات مضللة، أي واحد من بين كل خمسة مقاطع وفقاً للأستاذ المساعد للإعلام والاتصال في جامعة أريزونا دام كيم.
ويسلط عديد من الباحثين الضوء على افتقار “تيك توك” إلى الشفافية، إذ كان واضحاً أن قدرته محدودة للغاية من الناحية العملية على القيام بذلك، وتعد عمليات التزييف العميقة المدعومة بالذكاء الاصطناعي على وجه الخصوص مشكلة متنامية على “تيك توك”، وهو أمر تمكنت شبكات التواصل الاجتماعي الأخرى من مراقبته وتحجيمه كما يقول أستاذ قانون الأعمال والأخلاق في جامعة إنديانا سكوت شاكلفورد.
وبعد أن أصبح “تيك توك” في المرتبة الثانية الأكثر شهرة في العالم بعد “غوغل” فحسب، فإن مدى وصوله وتأثيره المتزايد ظل دائماً يثير الحاجة إلى عمل جاد استباقاً لتحسين سلامة المحتوى، وبخاصة بعدما واجه انتقادات هائلة على الصعيد الدولي لعدم قدرته على إخماد المعلومات المضللة المتعلقة بالانتخابات داخل ألمانيا على سبيل المثال، حينما زُيفت حسابات “تيك توك” لشخصيات سياسية بارزة خلال الانتخابات الوطنية الأخيرة هناك.

نقلاً عن : اندبندنت عربية