كان الاقتصاد الروسي في أعقاب الحرب يغذي الإنفاق الاستهلاكي ويزيد من أرباح الشركات لأكثر من عامين، ولكن في الأوان الأخيرة، أدى الصراع إلى ازدياد التضخم وأسعار الفائدة، مما أدى إلى إلحاق الضرر بالنتائج النهائية للشركات، وترك وراءه مجموعة من الـ”أوليغارشيين” والمديرين التنفيذيين الروس الساخطين.
ولكن بدلاً من إلقاء اللوم على الحرب في بيئة الأعمال العدائية، فإن النخبة التجارية في روسيا تنسب استياءها إلى محافظة البنك المركزي في البلاد إلفيرا نابيولينا، بعدما رفعت سعر الفائدة الرئيس للبنك إلى مستوى قياسي في محاولة غير مثمرة حتى الآن للحد من التضخم، مما أدى إلى ارتفاع كلف الاقتراض.
إلى ذلك، نقلت مجلة الأعمال الروسية “آر بي سي” أخيراً عن الملياردير أليكسي مورداشوف المسيطر على شركة صناعة الصلب “سيفيرستال”، قوله إن “أسعار الفائدة التي يفرضها البنك المركزي تشكل تحدياً خطراً للغاية لتنمية الاقتصاد والصناعة”، متسائلاً “هل هذا هو الدواء الصحيح؟ آمل ألا يتبين أن الدواء أكثر ضرراً من المرض”.
استياء الشركات والضغوط الاقتصادية
استياء الشركات هو أحد أعراض الضغوط الاقتصادية المتزايدة التي تواجه روسيا تحت قيادة الرئيس فلاديمير بوتين، فبفضل مبيعات النفط والإنفاق العسكري الضخم، كان الاقتصاد صامداً بصورة مدهشة، ولكن الصراع أدى أيضاً إلى تضخيم الاختلالات الاقتصادية، ودفع التضخم إلى الارتفاع، وأدى إلى أزمة عمالية عميقة، وتسببت العقوبات الأميركية الإضافية الأخيرة في هبوط حاد للروبل (العملة الروسية) في حين تعمل الشركات المحلية على تقليص خطط التوسع.
وقالت المسؤولة السابقة في البنك المركزي الروسي ألكسندرا بروكوبينكو، إن “النخبة تقاتل من أجل البقاء، وعلى رغم بقائها موالية لبوتين، تشعر بالاستياء بصورة متزايدة”، مضيفة “أصبحت نابيولينا هدفاً ملائماً”.
واليوم سعر الفائدة القياسي في روسيا محدد عند 21 في المئة، فيما لا يزال التضخم مرتفعاً عند تسعة في المئة، وأدت أسعار “الزبدة” المرتفعة إلى موجة من سرقات المنتج في محال السوبر ماركت في جميع أنحاء روسيا، وارتفعت أسعار الفودكا أيضاً.
وفي غرف الاجتماعات الروسية، ومع ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم بالتوازي، تتقلص الهوامش مع ارتفاع الكلف، وأخيراً ألقت شركة “أم تي إس” أكبر شركة للهاتف المحمول في روسيا، اللوم في انخفاض صافي أرباحها في الربع الثالث من هذا العام بنسبة 90 في المئة تقريباً على الكلف المتزايدة المرتبطة بخدمة مدفوعات الفائدة.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قالت شركة “روسنفت”، أكبر شركة منتجة للنفط في روسيا، إنها ستضطر إلى تأخير تحديث مصافيها، مستشهدة بأسعار الفائدة المرتفعة.
موجة من الإفلاسات
وتتزايد المخاوف من موجة من الإفلاسات أيضاً، فوفقاً لإحدى الجمعيات الصناعية، يواجه أكثر من 200 مركز تسوق في روسيا خطر الإفلاس بسبب أعباء الديون المتزايدة، في حين تقول إن ما يقارب ثلث شركات الشحن الروسية تخشى الإفلاس العام المقبل.
وكان الحليف المقرب لبوتين ورئيس شركة الدفاع الحكومية الروسية “روستيك”، سيرغي تشيميزوف، من بين أكثر أعضاء النخبة صراحة، إذ وصف مستوى أسعار الفائدة بأنه “كابح خطر للنمو الصناعي الإضافي”.
وقال لوكالة “إنترفاكس” للأنباء إن “الحصول على قرض بسعر فائدة مجنون بمثابة انتحار للشركات، وهذا هو الطريق إلى الإفلاس”.
وطالب قطب الأعمال أوليغ ديريباسكا، وهو منتقد دائم للبنك المركزي، في وقت سابق من هذا العام بخفض سعر الفائدة إلى خمسة في المئة، “حتى تتمكن البلاد من التنفس” على حد وصفه.
وفي منتدى اقتصادي عقد أخيراً، طلب رئيس الرابطة الوطنية لخدمات النفط والغاز فيكتور خايكوف، من جمهور غفير أن يرفعوا أيدي هؤلاء الصناعيين الذين خفضوا بصورة كبيرة استثماراتهم في التطوير التكنولوجي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، ورفع الجميع أيديهم، ومع تزايد ردود الأفعال العنيفة ضد نابيولينا، دعا البعض إلى إقالتها.
وفي وقت سابق من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، اقترح زعيم ثالث أكبر حزب في مجلس الدوما الروسي سيرغي ميرونوف، إقالة نابيولينا ومحاسبتها شخصياً على المشكلات التي يعانيها الاقتصاد، في حين اقترحت جماعة الضغط “الاتحاد الروسي للصناعيين ورجال الأعمال” منح الحكومة الإشراف على بعض جوانب السياسة النقدية.
وقال ميرونوف، وفقاً لما أورده موقع “بيل” الروسي المستقل والمتخصص في الشؤون الاقتصادية، إنه “في الواقع، يتعين على نابيولينا أن تختار ما بين الحفاظ على استقلالية البنك المركزي أو مواجهة غضب شريحة كبيرة من مجتمع الأعمال الروسي”.
نابيولينا حليفة بوتين لأكثر من عقدين
وعلى رغم تصاعد الضغوط، يرى مراقبو الكرملين أن الرئيس فلاديمير بوتين لن يلجأ إلى تغيير محافظة البنك المركزي أو تعديل السياسة النقدية، إذ تعد نابيولينا، من أبرز حلفاء بوتين لأكثر من عقدين وركيزة أساسية في فريقه الاقتصادي، وفي بداية الحرب اتخذت إجراءات طارئة، أسهمت في استقرار “الروبل” وكسب الوقت لوصول حزم التحفيز الحكومية إلى القطاعات المتضررة من الاقتصاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ودافعت نابيولينا بشدة عن السياسة النقدية الصارمة، مشددة على أنها السبيل الوحيد لمواجهة ارتفاع الأسعار، وقالت في تصريحات لها خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، “التضخم المرتفع يعوق النمو الاقتصادي المستدام”، مضيفة “الاعتقاد أن التضخم المرتفع يمكن السيطرة عليه ضمن نطاق معين هو مجرد وهم خطر”.
الإنفاق الحربي سيترفع إلى 130 مليار دولار
حتى الآن، حافظ بوتين على مسافة من هذه المعركة الاقتصادية، مفضلاً توجيه قادة الأعمال إلى تجاوز التركيز على السياسة النقدية وحدها، إذ قال في اجتماع الإثنين الماضي “الاقتصاد أكبر من مجرد سعر الفائدة”، وبحسب المراقبين، يبدو أن الرئيس الروسي، الذي يحمل في ذاكرته تداعيات الأزمة الاقتصادية العميقة في تسعينيات القرن الماضي مع معدلات تضخم قياسية، يعطي الأولوية لاستقرار الأسعار.
من جانبه، قال المتخصص في الشأن الاقتصادي بشؤون روسيا في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية غانيس كلوغ، إلى صحيفة “وول ستريت جورنال”، إن “نابيولينا تتمتع بدعم كامل من بوتين، وهي مستعدة لدفع الاقتصاد الروسي نحو الركود إذا اقتضى الأمر ذلك لضبط معدلات التضخم”.
وعلى رغم أن اعتراضات النخب التجارية قد لا تؤثر في قرارات نابيولينا، فإنها تعكس التأثير العميق للحرب في خطط الأعمال الطويلة الأجل، التي باتت تتسم بقدر كبير من عدم اليقين.
“سياسة الصنبورين”
وتقول المسؤولة السابقة في البنك المركزي الروسي، بروكوبينكو، إن “الشركات والبيروقراطيين الروس يعملون وفق أفق تخطيطي قصير للغاية، وإذا كانت لديهم خريطة طريق لعام 2026 أو 2030، فقد يكونون على استعداد لتحمل التحديات القصيرة الأجل، بما في ذلك سياسات نابيولينا للحد من التضخم، ولكن في غياب هذا المنظور الطويل الأجل، يتزايد الإحباط”.
ومن المؤكد أن المحللين لا يتوقعون أزمة فورية من شأنها أن تحد من قدرة بوتين على شن الحرب، على رغم تنامي الأخطار الاقتصادية، فقد تمكنت روسيا من التغلب في الغالب على القيود الغربية المفروضة على مبيعاتها النفطية، ولا يزال الإنفاق الحربي مستمراً من دون هوادة، فقد بلغ أعلى مستوى له منذ انهيار الاتحاد السوفياتي هذا العام، ومن المقرر أن يرتفع إلى نحو 130 مليار دولار في العام المقبل، أو أكثر من ستة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ومع ذلك، فإن هذا يعني أن الصدام بين النخبة التجارية والبنك المركزي محكوم عليه بالاستمرار.
وتتوقع مجموعة الأبحاث “روسيا” أن تواصل السلطات الروسية ملاحقة ما تسميه سياسة “الصنبورين”، ففي حين يحاول البنك المركزي تبريد الاقتصاد من خلال رفع أسعار الفائدة، أو تشديد صنبور السياسة النقدية، تعمل الحكومة على تسخين الاقتصاد من خلال ضخ الأموال، وتخفيف صنبور الإنفاق في الموازنة.
وقالت المجموعة في تقرير صدر أخيراً إن “هذه الإستراتيجية لا تعالج الضغوط التضخمية بصورة فعالة، مما يشكل تحدياً لجهود الاستقرار الاقتصادي الأوسع نطاقاً”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية