كانت معظم شعوب العالم القديم تحدد انصرام السنة الماضية وبدء السنة الجديدة وفقاً لتبدل الفصول وتحديداً مع قدوم فصل الربيع، سواء في مارس (آذار) أو في أبريل (نيسان). فتكون بداية العام الجديد احتفاء بانبعاث الحياة وعودة الطبيعة إلى النشاط الربيعي وزرع الأرض وقطاف مزروعات وأزهار واحتفاء بالتكاثر بعد سبات الشتاء البارد والغاضب بالمطر والثلوج.

وجد القدماء على اختلاف حضاراتهم وأديانهم في الربيع بداية لدورة حياة جديدة وللحياة في العام الجديد، وهكذا كان الأمر في التقويمين الروماني والبابلي اللذين سيطرا على التقاويم لعشرات القرون، وكذلك لدى شعوب المشرق العربي من الكنعانيين والآراميين والعبريين والأموريين والعيلاميين، ولدى الشعوب في شرق آسيا سواء البوذية منها أو الهندوسية. وكان سبب هذا التقويم الطبيعي ارتباط معيشة وحياة تلك الشعوب بتبدل الفصول والمناخ وارتباطها بالزراعة والإثمار والإزهار. وبقي موعد الاحتفال ببداية السنة الجديدة يجري على هذا الترتيب حتى نحو عام 153 قبل الميلاد، فأراد الرومان أن تتزامن بداية السنة مع تولي القناصل مناصبهم في يناير (كانون الثاني)، الذي كان الشهر المخصص للإله “يانوس” (Janus) إله البدايات والنهايات والماضي والمستقبل. وهذا الانتقال من الربيع إلى الشتاء كبداية للعام الجديد لم يكن بلا مقاومة من الشعوب التي لم تجد في برد الشتاء البداية الطبيعية لزمن السنة المقبلة.

وكان مارس آخر شهر في السنة السامية القديمة، وكان عدد أيامه 30 يوماً. وورد ذكره في التقاويم الآشورية والبابلية والعيلامية والكنعانية المكتشفة في نقوش يعود بعضها إلى القرن الـ11 قبل الميلاد، وفيها يظهر أن تلك الشعوب كانت تخص أكثر أيام آذار بالخير والبركة، فإما يكون أول شهر في السنة أو آخر شهر في السنة التي تبدأ في أبريل.

وكان آذار يفتتح السنة المالية في الدولة العثمانية، منذ عام 1205 هجري، أي 1791 ميلادي، عندما استقدم السلطان سليمان الثالث الدفتردار مورالي عثمان لتنظيم الشؤون المالية للدولة اعتباراً من ذلك اليوم.

أما اليوم، فقد أصبح آذار عند أبناء اللغات السامية الذين يتبعون تقويم السنة الشمسية، سواء كان يوليانياً أم غريغورياً، الشهر الثالث من أشهر السنة. وفي التقويم الروماني، وهو أصل التقويم الأوروبي العالمي اليوم، كان “مارس” هو الأول في سنتهم المنسوبة إلى رومولوس مؤسس روما الأسطوري، والمكونة من 10 أشهر يبلغ كل منها 34 يوماً. وسمي هذا الشهر باسم الإله مارس، إله الحرب والزراعة، وهو الإله الذي كان لا يقتصر على شؤون الزراعة والمراعي، لأنهم كانوا يضيفون إلى خصائصه سيادة الشمس والعواصف الجوية وبدء الحروب بعد هدنات الشتاء البارد والقارس، لذا كانوا يقيمون تذكارات واحتفالات لهذا الإله احتفاء بقدوم العام الجديد، أهمها تجديد النيران على مذبح الإله مارس.

تبديل بدايات العام

يمكن القول إن بداية السنة في الربيع كانت مرتبطة بعلاقة الإنسان بالطبيعة والزراعة، ونقلها إلى يناير كان مرتبطاً بالسياسة والتنظيم الإداري في روما، وبالدين المسيحي الجديد الذي أراد ربط بداية العام الجديد بالشهر الذي ولد فيه السيد المسيح. لذلك فإن ديسمبر (كانون الأول) وهو الشهر الـ12 في التقويم الحالي لا يزال يحمل معناه القديم باللاتينية أي “العاشر”، وقد حافظ على اسمه ورقمه منذ كانت السنة الرومانية تبدأ بمارس حين كان هذا الشهر عاشراً فيها.

في زمن الإمبراطورية الرومانية بدأت السنوات في التاريخ الذي دخل فيه كل قنصل المنصب للمرة الأولى. ربما كان هذا في الأول من مايو (أيار) قبل 222 قبل الميلاد، والـ15 من مارس من 222 قبل الميلاد إلى 154 قبل الميلاد، والأول من يناير من عام 153 قبل الميلاد.

 

في عام 45 قبل الميلاد، عندما دخل التقويم اليولياني الجديد ليوليوس قيصر حيز التنفيذ حدد مجلس الشيوخ الأول من يناير كأول يوم من السنة. في ذلك الوقت كان هذا هو التاريخ الذي تولى فيه أولئك الذين كانوا سيشغلون مناصب مدنية مناصبهم الرسمية، وكان أيضاً التاريخ السنوي التقليدي لعقد مجلس الشيوخ الروماني. ظلت هذه السنة المدنية الجديدة سارية المفعول في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية شرقاً وغرباً، أينما استمر التقويم اليولياني في الاستخدام.

وجاء في كتاب “أحاديث الأشهر” للمعلم والمؤرخ اللبناني فؤاد أفرام البستاني أن كلمة “كانون” سامية الأصل استعملها البابليون والآراميون للدلالة على شهري الشتاء وفصل الشتاء بكامله. ومن معاني “كانون” بالسريانية والعربية، الموقد. ويسمي أهل الشام كانون الأول (ديسمبر) بـ”فحل الشتاء” بسبب شدة الزمهرير ووفرة العواصف. ولهذا كثر نصحهم بالاستقرار في البيوت وعدم السفر لتجنب العواصف المفاجئة والثلوج المتراكمة القاطعة للمواصلات في المناطق العالية. ويحتفل أهل الشام في هذا الشهر وفي الـ25 منه بعيد ميلاد السيد المسيح بحسب ما جرى في التقويم الروماني الساري حتى اليوم في أنحاء كثيرة من العالم، ويحتفلون في الـ26 منه بتهنئة العذراء على الولادة، وفي الـ27 بتذكار قتل أطفال بيت لحم بأمر من هيرودس.

وفي اليوم السادس من الشهر التالي أي يناير يحتفل المشرقيون بتذكار وصول المجوس إلى بيت لحم وسجودهم للمسيح وتقديم هداياهم من البخور والمر والذهب، بحسب المؤرخ البستاني.

وصار يناير أول شهر من السنة الشمسية منذ إصلاح التقويم الروماني القديم بتقويم يوليوس قيصر أو التقويم اليولياني، وتكرس في التعديلات التي قام بها البابا غريوريوس في ما يسمى التقويم الغريغوري الذي تسير عليه اليوم معظم دول العالم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما سبب التعديل الذي جاء به التقويم اليولياني (Julian Calendar) على التقويم الروماني القديم فهو أن يوليوس قيصر أراد في عام 45 قبل الميلاد إصلاح التقويم بحساب السنة الشمسية الذي لم يكن دقيقاً في التقويم الروماني، فجعل السنة 365.25 يوم. ولتحقيق هذا الحساب أُضيف يوم إلى فبراير (شباط) كل أربع سنوات وسميت السنة التي يكون فيها الشهر مؤلفاً من 29 يوماً بالسنة الكبيسة. ثم في عام 1582 أجرى البابا غريغوريوس الـ13 التقويم الغريغوري كإصلاح للتقويم اليولياني، وكان الهدف الأساس جعل السنة التقويمية تتطابق مع السنة الشمسية، ومنع التأخير التدرجي للأعياد والمواسم السنوية. ومع ذلك لا يزال التقويم اليولياني سارياً في بعض الكنائس الأرثوذكسية الشرقية على رغم التعديل البابوي.

ويقابل كانون الثاني في السنة الغربية “جانفي” أو “يناير”، الذي ثُبت كأول شهر في السنة في أوروبا منذ عام 1564. ومن اللاتينية “جانواريوس” أو “جوناريوس”، ومنه اسم هذا الشهر في العربية عند أبناء المغرب وسائر أفريقيا الشمالية حتى مصر إذ يسمونه “يناير”. وهو منسوب إلى الإله الروماني “جانوس” أو “يانوس”. وكان يانوس أقدم ملوك بلاد اللاتين أو “لاسيوم”، وقد أحسن وفادة الإله “ساترون” أو “زحل” المطرود من السماء. فكانت مكافأته المعرفة المستقبلية، وكان الماضي والآتي أمام عينيه على مستوى واحد، ومن هنا فإن تماثيله ترسم وتنحت على شكل شخص بوجهين متقابلين، يتأمل أحدهما في أحداث العهود السابقة ويتوقع الآخر ما ستكشف عنه الأيام المقبلة. أما الغربيون فيمثلون الشهر المذكور بتوأم ملتصق، يستند أحدهما إلى عكاز متأهب للرحيل، بينما يحمل الآخر مفتاح العام الجديد.

في الزمن الحاضر

ما زالت السنة الفارسية الجديدة تأتي في عيد “النيروز” الذي يبدأ مع الاعتدال الربيعي في الـ21 من مارس، وتعني كلمة نيروز “اليوم الجديد”. وفي التقاليد الفارسية ذكروا هذا العيد وتفاصيله الوافية إذ كانت تقام حفلات تستمر ستة أيام خصص لكل يوم منها نوع من الاحتفال، وتُتبادل الهدايا فيها ويوزع الملك كثيراً منها على أرباب دولته. وقد استمر الاحتفال بهذه الذكرى بعد الإسلام لدى الفرس والأكراد، ولا يزال حتى اليوم جزءاً من التقاليد الزرادشتية والإيرانية، ويحتفل به في إيران وأفغانستان ودول آسيا الوسطى، ويعدون فيه مائدة “هفت سين” تحوي سبعة عناصر تبدأ بحرف السين، مثل التفاح والسمسم والثوم، ويشعلون النيران ويقفزون فوقها لتطهير النفس رمزياً ثم يرتدون الملابس تماثلاً مع تجديد الطبيعة وبداية الربيع وعودة الحياة.

تنقل التقويم المصري القديم بين السنة القمرية ثم الشمسية، وكانت السنة تتألف من 12 شهراً، كل شهر منها 30 يوماً، وأضيفت خمسة أيام “نسيئة” في نهاية السنة لتتطابق مع الدورة الشمسية أي 365 يوماً. وكانت السنة المصرية القديمة تبدأ مع ظهور نجم “الشعرى اليمانية” (Sirius) الذي يرتبط بفيضان نهر النيل. وقد كان ظهور هذا النجم دقيقاً في كل عام مما جعله من أثبت التقاويم القديمة. أما البابليون فقد اعتمدوا على دورات القمر، مما جعل سنتهم تتكون من 12 شهراً قمرياً أي 354 يوماً تقريباً. وأضافوا شهراً كل بضع سنوات لضبط السنة القمرية مع السنة الشمسية. وكانت السنة البابلية تبدأ في أبريل. ومثلها التقويم اليهودي، ورأس السنة العبرية أو “روش هاشناه” هو بداية للسنة الدينية، ومن عاداتهم فيه النفخ في “الشوفار” أو البوق المصنوع من قرن الكبش، وتناول التفاح المغموس في العسل لجلب سنة حلوة، وإقامة الصلوات الخاصة بهذا العيد وإلقاء الخبز في المياه كتعبير عن التخلص من الخطايا ويسمى طقس “تاشليخ”. وما زالت هذه الطقوس تقام حتى اليوم.

 

السنة الصينية الجديدة لا يزال يحتفل بها في أواخر يناير أو فبراير، وفقاً للتقويم القمري الصيني، لأن السنة الصينية ترتبط بدورات القمر، وتتغير تواريخ بداية السنة سنوياً، كما هي الحال مع التقويم الهجري لدى الأنظمة الإسلامية التي يتغير بها موعد رأس السنة الهجرية في مقابل السنة الشمسية، ومن العادات التي يقوم بها الصينيون في هذه السنة تنظيف المنازل والحدائق والشوارع لطرد الحظ السيئ، كما يتبادلون “الأظرف الحمراء” المسماة “هونغ باو” وتحوي أموالاً لجلب الحظ. ويتناول الصينيون في عيدهم الزلابية والأسماك التي تمثل الازدهار، وتنتشر المهرجانات والعروض التي يبرز فيها التنين والأسد لجلب الحظ وطرد الأرواح الشريرة. وما زالت شعوب جنوب شرقي آسيا وتايلاند وكمبوديا ولاوس وميانمار يحتفلون ببدء السنة البوذية في منتصف أبريل، وتسمى بالسنة البوذية في بعض هذه الدول.

يتبع الإثيوبيون أصحاب الإمبراطورية القديمة الهائلة التقويم القبطي في السنة الإثيوبية التي تبدأ في الـ11  أو الـ12 من سبتمبر (أيلول)، وتقام الاحتفالات التي تشمل الرقصات التقليدية وإشعال النيران في الليل وارتداء الملابس التقليدية البيضاء، وهذه عادات تشبه الاحتفال بالسنة الزرادشتية، ويغنون الأغاني الشعبية ويؤدون الرقصات الجماعية ويوزعون الزهور على الجيران والأصدقاء. إلا أن الأقباط المسيحيين في مصر الذين يحتفلون ببداية العام في التاريخ الإثيوبي نفسه إنما لرمزيات مختلفة، فيحيون ذكرى الشهداء المسيحيين في العصور القديمة ويرتدون الملابس الحمراء كرمز للدماء، ويتناولون البلح والجوافة كرمز للخصوبة والنقاء.

سكان الهيمالايا ورهبان التبت يحتفلون بالسنة التبتية أو “لوسار” التي يكون آخر شهر فيها هو فبراير وبدايتها في مارس، وفقاً للتقويم القمري التبتي، ويكون الاحتفال بالتأمل والنقاء الروحي ورش الماء على بعضهم بعضاً كرمز للتطهير والبركة وتنظيف المنازل والمعابد وتقديم العطايا والهدايا للمعابد البوذية.

السنة الفيتنامية واسمها “تيت” تبدأ قبل شهر من السنة التبتية وبعد شهر من السنة الشمسية، فيكون آخر شهر فيها هو يناير وأول شهر هو فبراير، ويزور الفيتناميون وشعوب الدول المحاورة كما في كمبوديا ولاوس وماينمار وغيرها المعابد لتقديم القرابين احتفاء بالعام الجديد، ويزينون المنازل بأزهار شجرة الخوخ أو شجرة الكاكي، ويقدمون أطباق كعكة الرز اللزجة كطعام تقليدي لهذه الاحتفالات.

نقلاً عن : اندبندنت عربية