تزايدت في المجلس النيابي اللبناني الحالي المنتخب عام 2022 الاعتراضات على طريقة التصويت واحتساب الأصوات في الجلسات التشريعية المخصصة لإقرار القوانين، والتي غالباً ما تعكس التوترات المستمرة بين مختلف الأحزاب والتيارات السياسية، من دون أن تعكس في أحيان كثيرة حقيقة الأصوات في أية عملية انتخابية. فمشهد الفوضى “المقصود” في غالب الأحيان تكرر أخيراً في الجلسات خصوصاً لدى الخلط بين التصويت برفع الأيدي من دون اعتماد آلية المناداة بالأسماء. وهذه الإشكالية أثارت مراراً جدلاً مع رئيس مجلس النواب نبيه بري واتهامات سياسية بتمرير قوانين بعد الاتفاق عليها قبل الجلسة التي غالباً ما تتحول إلى جلسة تشريعية شكلية.
يشتكي اليوم علانية عدد من النواب اللبنانيين من طريقة التصويت التي تحولت في إدارة بري إلى عرف متبع لا تضمن الشفافية الكافية، ما يثير تساؤلات حول نزاهة العملية التشريعية أو التصويت داخل قبلة البرلمان. ويعترض النواب على طريقة احتساب الأصوات المتبعة، من حيث الدقة أو سرعة الإعلان عن النتائج، والتي تتم غالباً عبر عد “سريع” وغير دقيق لأصوات النواب الذين رفعوا أيديهم، ويرى بعض أن أصوات بعض الأقليات كالنواب المستقلين أو الكتل الصغيرة قد تهمل في عملية احتساب الأصوات.
ويسلط هؤلاء النواب الضوء على عدم اتباع الإجراءات البرلمانية وفق النظام الداخلي للمجلس ما يعرض العملية الانتخابية للطعن ويؤثر في الشرعية، خصوصاً أن التصويت يعد أحد أهم وسائل التعبير عن الإرادة الشعبية، ويشكل المحرك الرئيس لقياس فعالية الديمقراطية في لبنان. وكان لفوضى التصويت المتمثل بالاكتفاء برفع الأيدي وعدم المناداة بالأسماء أثر في بعض القوانين المهمة خلال الفترة الأخيرة، كما حصل عام 2017 عندما أبطل المجلس الدستوري القانون رقم 45 المتعلق بالضرائب بسبب عدم احترام آلية التصويت الواردة في الدستور، ورد قانون الموازنة وسلسلة الرتب والرواتب بكامله آنذاك إلى مجلس النواب.
التصويت على مر التاريخ
التصويت في المجلس النيابي اللبناني على مشاريع واقتراحات القوانين كان دائماً جزءاً مهماً من الحياة السياسية في لبنان، وشهدت هذه العملية تطورات عديدة عبر التاريخ. فقبل نشوء المجلس النيابي، كانت عملية اتخاذ القرارات تتم عبر شيوخ العشائر أو ممثلي الطوائف، ولم تكن هناك آلية رسمية للتصويت على القوانين بالصورة المعروفة اليوم.
وفي فترة الانتداب الفرنسي (1920-1943) أنشئ مجلس استشاري يمثل مختلف الأطياف اللبنانية وكانت عملية التصويت تعتمد على الاقتراع العلني، وكانت محدودة في قدرتها على سن القوانين. وبعد الاستقلال، أُسس المجلس النيابي اللبناني كسلطة تشريعية حقيقية، وأصبح النواب يصوتون على القوانين من خلال آلية الاقتراع السري لضمان حماية هوية الناخبين. ومن عام 1975 إلى عام 1990 شهد لبنان فترات من الاضطراب السياسي والحروب الأهلية أو “حروب الآخرين” على أرضه، أثرت بصورة بالغة في عملية التصويت إذ تم تعليق عمل المجلس أو تقليصه في فترات مختلفة. وأسهم “اتفاق الطائف” عام 1989 في إعادة تنظيم النظام السياسي وأثر في آلية التصويت وتوزيع المقاعد على الطوائف المختلفة، مما أضفى طابعاً خاصاً على كيفية التصويت، لكن على رغم تطور العملية الانتخابية عبر الزمن، فإنها ما زالت تواجه عقبات أهمها الانقسامات السياسية والطائفية.
المشكلة ليست في القانون
وعلى غرار عديد من البرلمانات في العالم، يتم غالباً التصويت بطريقة سرية لضمان المهنية والحياد، أو بطريقة علنية في حالات معينة وخصوصاً في ما يتعلق بالاقتراع على مسألة الثقة بالحكومة، أو بالقوانين عموماً، ما يتيح للنواب التعبير عن آرائهم بصورة واضحة أمام الإعلام وناخبيهم.
وشرح الأستاذ المحاضر في القانون رزق زغيب “أن المادة 36 من الدستور اللبناني تنص على أن التصويت في مجلس النواب في ما يختص بالقوانين عموماً يتم بالمناداة على الأعضاء بأسمائهم، وبصوت عال للكشف من طريقة تصويت كل نائب تأميناً للشفافية، لكن المادة 81 من النظام الداخلي لمجلس النواب التي تفسر المادة 36 من الدستور نصت على التصويت على مشاريع القوانين مادة مادة بطريقة رفع الأيدي، على أن يطرح الموضوع بمجمله على التصويت بطريقة المناداة بالأسماء. أما في التطبيق فمجلس النواب لا يتبع أحياناً هذه الآلية ويكتفي برفع الأيدي فقط مما يعرض القوانين للطعن، كما حصل عام 2017.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أضاف زغيب “احترام المناداة بالأسماء أمر بالغ الأهمية لتأمين مبدأ العلنية والشفافية من جهة وللسماح للناخبين بمتابعة كيفية تصويت نوابهم من جهة أخرى”، وكشف عن أن التصويت بالمناداة يجب أن يسجل أيضاً في محضر الجلسات مما لم يتم الالتزام به خلال الفترة الأخيرة”. وتقع بحسب زغيب، مسؤولية عملية “تهريب” بعض القوانين المقنعة بفوضى التصويت إلى إدارة الرئيس بري للجلسات من جهة، وإلى فقدان التمرس والإلمام بالحياة البرلمانية لدى الطبقة السياسية التي دخلت الندوة البرلمانية بعد انتهاء الحرب. ووصف المحاضر في القانون الممارسة أو المنهجية التي كانت متبعة بالفاقعة، لكنه اعترف بأنها تراجعت إلى حد ما بعد عام 2017 حين اضطر المجلس الدستوري إلى التدخل، بناء على اعتراض عدد من النواب وإبطال قانون الضرائب بسبب عدم اعتماد آلية التصويت الدستورية، ثم تلويحه مجدداً بإبطال مشروع الموازنة عام 2022 للسبب نفسه.
استبدادية في إدارة الجلسات
النائب السابق بطرس حرب الذي اختبر العمل التشريعي كنائب لخمس دورات متتالية على مدى 30 عاماً، في عهود رؤساء مجلس النواب كامل الأسعد وحسين الحسيني ونبيه بري، أكد أنه على رغم وجود أصول يحددها النظام الداخلي لكيفية التصويت في مجلس النواب وكذلك في بعض مواد الدستور، فإن رئيس المجلس صارت لديه نزعة منذ زمن على فرض رأيه على كل أعضاء البرلمان “وليست المسألة محصورة في الرئيس الحالي نبيه بري، لكن التصدي لهذه النزعة في زمن الأسعد والحسيني كانت أسهل بكثير مما هو حاصل اليوم. وفي الفترة الأخيرة ازدادت هذه النزعة فعندما تولى بري رئاسة المجلس ومع دخول السلاح والثنائي الشيعي (حركة أمل و’حزب الله‘) الذي بات يتمتع بقوة فائضة على كل القوى الأخرى، حصلت تغيرات في البلاد سمحت بحصول ممارسة تتجاوز في كثير من الأحيان النصوص القانونية التي ترعى التصويت في المجلس النيابي، إذ كان رئيس المجلس يحسم الأمر من دون أن يطرح القانون للتصويت بالمناداة للتأكد من وجود أكثرية أو أقلية ضده”.
تابع حرب أن لدى لبنان قوانين جيدة لكن المشكلة في عدم تنفيذها، وعدَّ أن هذه الممارسات زادت خلال الفترة الأخيرة مستذكراً مرحلة وجوده في البرلمان حيث كان يصطدم برئيس المجلس حول هذا الأمر، بسبب رفضه الدائم التصويت بالمناداة للتأكد ممن مع القانون ومن ضده، وقال “شهد مجلس النواب خلال الأعوام الأخيرة ولا يزال نوعاً من الاستبدادية في إدارة الجلسات، ونوعاً من التصادم شبه الدائم بين النواب ورئيس المجلس الذي بات يتمتع بأكثرية نيابية تؤيده نتيجة التحالفات السياسية، لا سيما تحالفه مع ’حزب الله‘ مع فائض القوة التي يتمتع بها، مما دفع به إلى التمادي في هذه الممارسات التي تتعارض مع أحكام النظام الداخلي والدستور. وهذا ما حصل في أكثر من مناسبة، بهدف تمرير ما يرغب به رئيس المجلس أو تمرير ما ترغب به الأكثرية الداعمة له. وآخر مثال كان القانون المتعلق بالتمديد للقضاة بهدف إبقاء المدعي العام المالي المقرب من بري في موقعه. وهذا ما عرض القانون الخاص بالتمديد لأعضاء في مجلس القضاء الأعلى وللنائب العام التمييزي والنائب العام المالي إلى الطعن، بعدما تقدم 10 نواب أمام المجلس الدستوري بطلب إبطاله نظراً إلى ما اعتبروه مخالفات حاصلة في طريقة إقرار القانون، وكيفية التصويت عليه وصدوره بصيغة مختلفة عما أقره مجلس النواب”.
إدارة الجلسة تتطلب فرض النظام
عضو كتلة التنمية والتحرير النائب ميشال موسى لا يرى من جهته تخطياً للنظام الداخلي، ويؤكد لـ”اندبندنت عربية” أن التصويت في جلسات التشريع يتم بحسب ما ينص عليه النظام، فالمواضيع التي تتخذ صفة المعجل المكرر لديها آلية تصويت محددة على عكس الاقتراحات العادية التي لديها آليتها الخاصة، وكذلك المشاريع المقدمة من الحكومة، وكلها تناقش ويتم التصويت عليها بحسب ما ينص عليه النظام الداخلي.
وعن اعتراض النواب وتعريض القوانين للطعن نتيجة عدم اعتماد آلية المناداة كما ينص النظام، يؤكد موسى أنه لم يرى أية مخالفة ويتريث بالتعليق على الطعن المقدم من 10 نواب بقانون التمديد للقضاة، حتى الاطلاع على حيثياته كما يقول.
ويتابع “في أكثر الأحيان يتم التواصل بين الكتل الكبيرة قبل الجلسة للتوافق على القانون بهدف تأمين العدد الكافي لإقراره، وفي تفاصيل الأمور لا يمكن الجزم 100 في المئة لكن يمكن القول إن ما نشهده داخل الجلسات كان تطبيقاً للنظام الداخلي والتصويت يتم وفق الأصول”.
وعن اتهام رئيس المجلس نبيه بري بممارسة الاستبدادية في إدارة الجلسات يرى موسى أن إدارة الجلسة تتطلب فرض النظام بخاصة عندما يبلغ النقاش مستوى حاد، وهذا يحصل في كل برلمانات العالم.
على من تقع المسؤولية؟
ومن بين النواب الحاليين المعترضين على “فوضى” التصويت وطريقة احتساب الأصوات في جلسات التشريع النائب التغييري مارك ضو الذي تحدث عن عدم الالتزام بنص النظام الداخلي وعدم إدارة الجلسات بطريقة هادفة إلى إبراز قرارات المجلس النيابي، ومنها مسألة تعطيل التصويت الإلكتروني، ومنع المناداة عند التصويت، وعدم احتساب الأصوات المعترضة على القرارات أو الممتنعة عن التصويت، والاكتفاء فقط بتدوين أصوات المؤيدين للقرار، وعدم الموافقة على محاضر الجلسات السابقة، وعدم تلاوتها ببداية كل جلسة، وقال أيضاً “هناك شيء متعمد لضرب المسارات الصحيحة والشفافة بإدارة التصويت داخل المجلس النيابي”. وذكر أن محاولات عدة جرت لاعتماد التصويت الإلكتروني كحل يمكن أن يزيل اللغط الدائم عند كل تصويت، “وخلال عام 2004 قدم النائب السابق غسان مخيبر اقتراحاً لاعتماد التصويت الإلكتروني في المجلس النيابي، لكن تبين أن تغيير آلية التصويت يحتاج إلى تعديل المادة 36 من الدستور، فلم يصل الاقتراح وغيره من المحاولات اللاحقة إلى نتيجة، وحتى الشاشة العملاقة التي علقت فوق مقعد رئيس المجلس المزودة بأسماء النواب تمهيداً للتصويت الإلكتروني، لم يصر إلى ترميمها بعد تضررها ومقر المجلس في انفجار مرفأ بيروت خلال الرابع من أغسطس (آب) 2020”.
فوضى التصويت في مجلس النواب ليست مرتبطة فحسب، بحسب النائب التغييري، برئيس المجلس إنما بالكتل النيابية ومدى تمسكها بالنظام العام والإجراءات وتسجيل اعتراضها، وأنه يجب على هيئة مكتب المجلس المكونة من نائب الرئيس وأمناء السر والأعضاء أن تسجل اعتراضها وأن ترفض التوقيع على المحاضر عندما لا تحترم الإجراءات القانونية. ولا يكفي بحسب ضو أن يقوم بعض النواب بالاعتراض وتقديم الطعون إنما هناك قوى أخرى فاعلة في المجلس عليها أن تتخذ موقفاً واضحاً وأن توقف هذه الممارسات.
نقلاً عن : اندبندنت عربية