للمرة الأولى وفي سابقة لم يعهدها السوريون منذ اندلاع الحرب في بلادهم قبل عقد من الزمن، تغيرت الحال أخيراً على الحواجز الأمنية التي كانت توصف بـ “المفزعة”، فباتت فارغة تماماً من الجنود وعناصر الأمن التابعين للنظام السابق، فلا داعي للتوقف والرضوخ لإجراءات تفتيش، أو التعرض للابتزاز ودفع النقود تجنباً لهدر الوقت الطويل والانتظار. اليوم يتوجب على المواطن السوري فقط أن يرمق صور الرئيس السابق الممزقة، بعدما كانت مرفوعة فوق غرف الاحتجاز الجانبية، بنظرة سريعة، ويدع الريح تعصف بها متروكة على جنبات الطريق، لتذكر الناس بأكثر الأماكن رعباً وخوفاً، بعد أقبية وسجون التوقيف في فروع المخابرات الكثيرة.

حاجز تفتيش

وبعدما ظلت الحواجز الأمنية، أكثر الأماكن التي تمد فروع المخابرات والأمن بالمحتجزين والمطلوبين والمعتقلين أثناء مرورهم عبرها، باتت اليوم خالية، واقتصر التواجد الأمني في كل مدينة من المدن السورية على حاجز أمني واحد يتبع لإدارة العمليات العسكرية. وأفاد قيادي فضل عدم الكشف عن اسمه في تصريح خاص بأن عناصر الإدارة العسكرية يتبعون مباشرة إلى مديرية خاصة يطلق عليها اسم “إدارة الحواجز”.
وأردف بأن جميع تلك العناصر مؤهلة ومدربة للتعامل الجيد مع الناس والمارة، وتخضع للمساءلة في حال التقدم بأي شكوى من سوء معاملة قد تكون صدرت عنهم، بل إن التدقيق لا يحدث إلا في حالات الاشتباه بالمارة، أو المطلوبين حصراً في حال الإبلاغ عنهم.

حكاية الهوية و”الفيش”

وفي استطلاع للرأي بعد توقف عمل هذه الحواجز، والتي تُعد مراكز اعتقال في الشوارع، يسير الناس ويستذكرون فظائع كانت تمارس أثناء المرور، ومنها “الفيش” وهي الكلمة المتداولة بين الناس، والتي تعني جمع الهويات الشخصية من الركاب ومن أصحاب المركبات، من عامة وخاصة، والذهاب بها إلى الحاسوب المربوط بشبكة مع فروع المخابرات وإدارات الأمن المختلفة، وهذا “الفيش” يعطي نتيجة فيما إذا كان الشخص مطلوباً لإحدى هذه الفروع الأمنية.

“تسقط قلوبنا أرضاً”، بهذه العبارة يروي الرجل الخمسيني أبو أسعد حكاية طلب الهويات، وعودة السائق بهوية أو اثنين ليصرخ على الشخص المطلوب باسمه، فالشبان الذين بعمر الخدمة الإلزامية أي 18 سنة وما فوق، أو الشباب حتى عمر 40 سنة، وهو العمر الصالح للاستدعاء للخدمة الاحتياطية بالجيش السوري، يفزعون، وكم من شبان اعتقلوا على تلك الحواجز، وقُيدت أيديهم، وتلقوا وابلاً من الإهانة والسب والشتم والضرب وهم يُجرون إلى الشرطة العسكرية مكبلين بالسلاسل، وبعد التحقيق معهم يُرمون بالسجن، لكن المفارقة أنه، وبعد مدة يرتدون الزي العسكري ويحملون السلاح للدفاع عن الوطن بعد تعرضهم للإهانة على يد من كان يُفترض أنه يرمز لذلك الوطن. ويضيف أبو أسعد، “قبل السفر كان كثير من الأشخاص يدفعون النقود لمعرفة ما إذا كانوا ضمن قوائم المطلوبين حرصاً على عدم توقيفهم على أحد الحواجز، ومنهم من كان على رغم حرصه يُقاد إلى الاحتجاز، لسبب ما، إما تقرير كيدي، أو هفوة غير محسوبة العواقب. وعلى رغم حرصي الشديد إلا أنه جرى توقيفي بعد دردشة على منصة من منصات التواصل الاجتماعي أجريتها مع ابن عمي المقيم في تركيا، لقد اعتُقلت بطريقة مهينة، ورفض العنصر الأمني أن أخبر أهلي ليعرفوا مكان احتجازي، ما زاد قلقي وقلقهم عليّ. ودارت الشكوك: هل أنا مختطف من قبل جماعة ما أو عصابة؟ كما دفعت عائلتي مالاً كثيراً لمعرفة بأي فرع من الفروع أقبع، يا لها من مهانة ومذلة”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

انتهاكات الاحتجاز والإهانة

وتحدث المدير التنفيذي لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، بسام الأحمد في حديث لـ “اندبندنت عربية” عما كان يحدث أثناء المرور عبر تلك الحواجز، بدءاً بمجموعة هائلة من الانتهاكات منها إهانة الناس وابتزازهم ومنعهم من العبور إلا بعد دفع أموال باهظة، علاوةً على الاعتقال التعسفي، والضرب والتعذيب على هذه الحواجز، وهناك حواجز تجاوزت حدودها في ذروة الحرب والصراع الأهلي السوري بتنفيذ إعدامات ميدانية، بخاصة تلك التابعة للجيش النظامي السوري وأجهزة الأمن”. وأضاف الأحمد، “الحواجز العسكرية والأمنية كانت إحدى أدوات النظام للضغط على الناس، ولم تكن بغية استتباب الأمن كما ينبغي لها أن تكون، ولكن هدفها كان خنق الناس وترويعهم وزرع الرعب بنفوسهم، بخاصة داخل المناطق التي كانت تخضع لسلطة النظام، أو المناطق الفاصلة بين مناطق النظام والمناطق الخارجة عن سيطرته سابقاً، لا سيما المناطق الشمالية والشرقية”.

ولطالما رافق الحديث عن الحواجز الأمنية الكثير من الجدل حول تأثيراتها لا سيما الاقتصادية والتجارية، وبالذات على نقل البضائع والمنتجات الوطنية بين المدن والمحافظات السورية، وكم كان يشتكي أرباب الصناعة والأعمال من انتهاكات وتجاوزات، إذ كانت تُفرض على سيارات شحن البضائع أموال طائلة للسماح بمرورها تصل إلى ملايين الليرات السورية في أغلب الأوقات.
وشاع في منتصف العام الحالي 2024 حديث عن إلغاء الحواجز، لكن لم يكن هذا الطرح الذي لاقى تفاعلاً كبيراً وترحيباً من الشارع السوري سوى “إشاعة” فحسب. وذكر مراقبون أن ذلك الحديث انتشر عبر منصات التواصل الاجتماعي نقلاً عن شخصيات مقربة من النظام، لكن الأمر لم يعدو سوى كونه حديث فارغ لتصدر “الترند” وجمع الإعجابات لقرارات لم تصدر عن النظام أبداً.
وتساءل متابعون كيف يستغني النظام السابق عن أكبر مصادر الربح السريع لخزينته، وللمستفيدين منها. على رغم ذلك توقع حينها، الباحث الاقتصادي والمصرفي عامر شهدا، “انخفاض أسعار المنتجات بنسبة 50 في المئة في حال إلغاء الحواجز الأمنية، ووقف أخذ الإتاوات”.

“قف… شوف الرابعة”

وبالحديث عن الحواجز الأمنية والرعب الذي كان يسكن نفوس الناس لدى المرور عبرها، لا بد من التوقف عند ما يسمى “الأمن الخاص” أو “الفرقة الرابعة”، والتي تتبع مباشرة للعميد ماهر الأسد قائد تلك الفرقة، وهو شقيق رئيس النظام المخلوع بشار الأسد. وبعد تدقيق عنصر الجيش أو الأمن بالهويات الشخصية، أو دسّ سائق السيارة بعض النقود للعنصر الأمني على الحاجز تجنباً لهدر مزيد من الوقت في تفتيش المركبة، إن كانت عامة أو خاصة، يشير ذلك العنصر إلى صاحب المركبة إلى عنصر الفرقة الرابعة، ويقول للسائق: “شوف الرابعة” بمعنى أنه على الشخص المار أن يدفع إتاوة أخرى.
لقد أسهمت الفرقة الرابعة، وهي الذراع الأكثر حكماً ونفوذاً من بين أذرع النظام، في فرض قرارات قاسية وصلت حتى إلى منع نقل الأغراض والمنتجات التي يحملها الفرد العادي بغية الاستخدام الشخصي، في حال تجاوزت الوزن المحدد.
وابتكرت “الرابعة” ما يسمى “الترسيم”، وعليه يجب أن يدفع الشخص مبالغ مالية لقاء إدخال أية بضائع قد اشتراها وإلا ستُصادر مثل عبوات البنزين أو المازوت والزيت وغيرها، حتى ولو كانت للاستخدام الشخصي وليست للتجارة. وقال أحدهم “جاءت عمتي لزيارة من دير الزور إلى دمشق، فرفض الضابط إدخال كيلو واحد من السمن العربي من دون ترسيم ودفع مبلغ مالي لقاء السماح لها بالمرور”. ويتابع “هكذا كانت حياتنا مع حواجز التفتيش المرعبة والتي باتت ذكرى نرويها للأجيال القادمة”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية