على رغم استمرار الحرب منذ أبريل (نيسان) 2023 بين قوات الجيش و”الدعم السريع” فإن وزير الطاقة والنفط السوداني محيي الدين نعيم، أعلن الاتجاه نحو عقد اتفاقات لمشاريع للاستثمار النفطي والصناعي مع شركات روسية، مؤكداً أن 50 في المئة من حقول النفط في السودان تعمل ولم تتأثر بالحرب. ومع أن الإعلان جاء متفائلاً بأن الشركات الروسية ستكون بديلة عن الشركات الغربية، لكن في الواقع، فإنه منذ خروج شركة “شيفرون” الأميركية في ثمانينيات القرن الماضي، لم تدخل الشركات الغربية في هذا المجال، بل آل قطاع النفط للصين، ما عدا مشاركة شركة “شلمبرجير أويل فيلد هولدينغز” الأميركية من خلال فروع تابعة لها غير أميركية. وكانت قد سهلت بين ديسمبر (كانون الأول) 2015 وأبريل 2016، بيع وشحن معدات حقول النفط المتجهة إلى السودان، مما أوقعها في تحديات قانونية كبيرة بسبب انتهاكات العقوبات الأميركية. ولكن وفقاً لاتفاق “الإقرار بالذنب” عام 2015، أقرت الشركة بـ”التآمر لانتهاك قانون الصلاحيات الاقتصادية الطارئة الدولية”. وشملت الانتهاكات تسهيل المعاملات غير القانونية والانخراط في التجارة مع إيران والسودان. ووفقاً لذلك، وافقت الشركة على دفع غرامة تزيد على 233 مليون دولار وفترة مراقبة لمدة ثلاثة أعوام، أوقفت خلالها جميع عملياتها في إيران والسودان.

دور الصين

أسست الصين كونسورتیوم أطلق عليه “شركة النیل الكبرى لعمليات البترول” وتكون من شركة “ستيت بتروليوم” التي باعت أسهمها لشركة “تالسمان” الكندية، و”الشركة الوطنية الصينية للبترول” “سي أن بي سي”، وشركة “بتروناس” الماليزية، وشركة “سودابت” التابعة للحكومة السودانية.

وللصين دور راسخ في السودان مما أهلها لتكون لاعباً مهيمناً في صناعة النفط السودانية منذ تسعينيات القرن الماضي، فقد تدخلت شركات النفط الصينية المملوكة للدولة في وقت كان فيه السودان معزولاً، بعد انتهاء علاقته مع صندوق النقد الدولي بسبب عدم السداد، ولم يعد مؤهلاً للحصول على دعم البنك الدولي، وكانت أزمة الديون في الثمانينيات قد جعلت من الصعب على السودان أن يستورد ويصدر بصورة منتظمة، كما أضفى نقص النقد الأجنبي الطابع غير الرسمي على الاقتصاد السوداني. وكانت الحرب الأهلية في الجنوب مشتعلة حينذاك، إضافة إلى اعتلاء الحكم نظام “الإخوان المسلمين” بتنفيذ انقلاب عسكري على فترة الديمقراطية الثالثة، كان عرابه زعيم التنظيم حسن الترابي، بواسطة العقيد وقتها عمر البشير، وتوترت إثر ذلك علاقة السودان مع الغرب.

استثمرت الصين بكثافة في البنية التحتية لاستكشاف وإنتاج النفط وخطوط الأنابيب، ونجحت في البقاء بالسودان لفترة طويلة بسبب انتهاجها سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو أحد المبادئ الخمسة لاتفاق “باندونغ” الموقع عام 1955 بين الدول الأفريقية والآسيوية، وأدرجت تلك المبادئ بصورة رسمية في “دستور جمهورية الصين الشعبية” لتكون الركائز الأساسية في ممارسة سياستها الخارجية. وهذا يسمح لها بالتعامل مع الحكومات بغض النظر عن الصراعات الداخلية أو قضايا حقوق الإنسان. وكانت احتياطات النفط السودانية تعد من الأصول الجذابة للصين، نظراً إلى حاجاتها المتزايدة من الطاقة، وتعطشها للتنمية.

ولا تضع الصين اعتباراً للتحديات التي تواجهها في استمرار التعاون النفطي في السودان، مثل عدم الاستقرار السياسي والعسكري، فقد صمد تعاونها أثناء الحرب الأهلية في جنوب السودان وأثناء الحرب في دارفور، ويمكنها الاستمرار الآن في ظل هذه الحرب. كما أنها لا تضع اعتباراً للأخطار المتعلقة بالسمعة، إذ تعطي أولوية للمصالح الاقتصادية على هذه المخاوف. ومع ذلك فإن الصين لديها اعتبارات خاصة متعلقة باستمرار المكاسب، وتعظيم مصلحتها الخاصة.

التحول الروسي

التحول الذي أبدته روسيا لاهتمامها بالسودان، يأتي لأسباب سياسية وعسكرية. فمنذ تسعينيات القرن الماضي، تقدمت شركة روسية للتنقيب عن النفط في السودان، ولكن أوصى خبراء فنيون في مجال النفط باستبعادها لضعفها، عارضهم حينذاك وزير النفط السابق عوض الجاز الذي طلب إدخالها في المنافسة لحسابات سياسية للاستفادة من صوت روسيا في مجلس الأمن، وكانت قضية محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك ستعرض وقتها على المجلس.

وبعد سقوط نظام البشير، نشطت مجموعة “فاغنر” وغيرها من الكيانات الروسية في السودان، خصوصاً في قطاع تعدين الذهب، لكن استثمار روسيا في النفط كان محدوداً. أما الآن، فقد عرض السودان على روسيا استكشاف أكثر من 20 بئراً نفطية، بعد اكتمال المراحل النهائية من الاتفاق بين البلدين للاستثمار في قطاع الطاقة والنفط في المناطق “الآمنة” والبحر الأحمر إضافة إلى غرب السودان. ووقع عقوداً مع ثلاث شركات روسية هي “زابروغ” و”غازبروم” وشركة جنوب روسيا، في مجالي النفط والغاز. ومنح بموجب الاتفاق روسيا ميزة بناء مصفاة جديدة وإنشاء خط أنابيب (مدني، سنار، ربك)، وخط أنابيب (بورتسودان، القضارف، القلابات). وتم ذلك بعد زيارة أجراها وزير النفط السوداني إلى موسكو في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وبحث مع وزير الطاقة الروسي سيرغي تسيفيليف، التعاون الثنائي في قطاع الطاقة والنفط والغاز، كما دخل في مفاوضات مع شركتي “روسنفت” و”زاروبيجنفت” الروسيتين.

وكانت روسيا قد بدأت تصدير وقود الديزل إلى السودان في أبريل الماضي، ويقع السودان ضمن وجهات أخرى، تسعى موسكو إلى فتح أسواق جديدة فيها لمنتجاتها النفطية بعد الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على وارداتها في فبراير (شباط) 2023.

وفي وقت تتجنب فيه عديد من الدول الغربية التعامل مع السودان بسبب مخاوف تتعلق بحقوق الإنسان، ترى روسيا أنها فرصة لتوسيع نفوذها كجزء من استراتيجيتها الأوسع في أفريقيا، لا سيما في ظل سيطرة الجيش السوداني، باعتباره فصيلاً رئيساً في الصراع الدائر، على مناطق إنتاج النفط الرئيسة. كما أن هذا التعاون والاستثمار في قطاع النفط السوداني يحفز اهتمام روسيا بتنويع شراكاتها الدولية واكتساب موطئ قدم في أفريقيا مما يضمن لها نفوذاً جيوسياسياً ترعى به مصالحها في المنطقة.

عوامل الفشل

إذا تمكن الجيش السوداني من الوفاء بالتزامه لروسيا وقدم لها وصولاً موثوقاً به إلى الموارد النفطية أو الأصول الاستراتيجية في المناطق المحددة، يتوقع أن تتعمق الشراكة بينهما. وبهذا يتحقق التركيز الأوسع لروسيا على أفريقيا، خصوصاً في ظل تحدي الهيمنة الغربية، مما يجعل السودان حجر الزاوية في سياستها الإقليمية، ويدفع إلى تعاون طويل الأجل. ولكن في المقابل هناك عوامل عدة تصور أن نجاح روسيا في التنقيب واستثمار نفط السودان، بعيد من الواقع.

أولاً، التصريحات الرسمية السودانية جاءت من وزراء “مكلفين”، يفتقر معظمهم إلى الخلفية المهنية اللازمة والثقل السياسي، إضافة إلى ارتباطهم بإدارة النفط في عهد النظام السابق وما يتعلق بذلك من تساؤلات حول العائدات. ثانياً، تعاني وزارة النفط من نزف القوى العاملة المؤهلة من جيولوجيين ومهندسين وغيرهم، فأكثر من 4 آلاف شخص غادروا الوزارة بسبب ظروف الحرب. ثالثاً، التاريخ الاستثماري لروسيا في السودان، سلبي في مجمله لارتباطه باحتيال رجال أعمال روس جاءوا لاستخراج الذهب في السودان أو إقامة مشاريع مزيفة.

رابعاً، الصراع المستمر بين الجيش و”الدعم السريع” يجعل السودان شريكاً لا يمكن التنبؤ به. وقد تتردد روسيا في الالتزام الكامل إذا كانت سيطرة القوات المسلحة غير مؤكدة. وإذا برزت كقوة مهيمنة، فقد تعطي الأولوية للتحالفات على أساس حاجات البقاء الفورية، التي قد تتغير بمرور الوقت.

خامساً، تتعرض روسيا لضغوط اقتصادية كبيرة بسبب حربها في أوكرانيا ولعقوبات غربية. قد يكون الحفاظ على شراكة طويلة الأجل كثيفة الموارد مع السودان أمراً صعباً.

وعموماً، فإن آراء عدة ذهبت باتجاه أن استثمار روسيا للنفط في السودان هو أقرب إلى الـ”بروباغندا” منه إلى المشروع الحقيقي الذي يمكن أن يجد طريقه إلى التنفيذ، نظراً إلى أن الوضع الحالي في السودان مناسب لبروز مشاريع هلامية وتسيدها للمشهد العام نتيجة لغياب أي مؤسسات لها القدرة على التقييم والحفاظ على حقوق الدولة. كما أن السودان الآن أصبح ميداناً للاستغلال بسبب الدور الذي لعبه ويلعبه الفريق عبدالفتاح البرهان، فهناك مآخذ عدة على طريقة إدارته للحرب والدولة، وأحياناً ما عده البعض “مماطلة” بعدم تفعيل مؤسسات الدولة الرسمية، وعدم تأسيس مجلس وزراء له كل الصلاحيات التنفيذية والسياسية، وعليه أصبح هو المقصد تشريعياً وتنفيذياً ولا توجد جهة ما تراجعه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تفكير رغبوي

ربما يكون الحديث عن تشجيع الاستثمار النفطي في “المناطق الآمنة” هو نتاج تفكير رغبوي أو تعتيم لما يجري في الواقع، فحتى قبل اندلاع الحرب الحالية، كانت المجتمعات المحلية في مناطق الإنتاج في أقاليم جنوب كردفان ودارفور تطالب بنصيبها في شكل خدمات وفرص عمل. وتوقف العمل في أوقات كثيرة بسبب هذه المطالب على رغم أن النظام السابق كان باطشاً، وعليه، مع انتشار السلاح في الوقت الحالي وتضعضع هيبة الدولة وضعف قدرتها على حسم الحرب، وحسم النزاعات الجانبية الأخرى، فإن الرؤية قد تكون قاتمة، وقد لا تظل المناطق المعنية “آمنة” لمزيد من الوقت.

قبل الحرب، قدر حجم الاحتياط النفطي في السودان بنحو 3 مليارات برميل، وهي إما في مناطق مضطربة أمنياً أو في مناطق مثل الشمال الغربي تحتاج إلى بنية أساسية كي يصبح العمل فيها جاذباً. كما أن هناك ضبابية في المعلومات في ما يتعلق بمناطق الإنتاج، إذ إن الشركات الصينية كانت قد استندت إلى المعلومات الفنية الموروثة من شركة “شيفرون”، من ثم فإنه على أي جهة ترغب في الاستثمار النفطي في السودان الآن عليها الاستعداد لبذل الوقت والجهد والمال للحصول على المعلومات الفنية اللازمة.

كما ينبغي للجهة المستثمرة سواء كانت روسيا أم غيرها، أن يكون لديها استعداد للتوتر الناتج من الخلاف النفطي بين دولتي السودان وجنوب السودان. فمع أن الخلاف يتعلق بوضع الاستثمار النفطي السابق الخاص بالعائدات النفطية، وبعدم الاتفاق على رسوم المرور للإنتاج من حقول النفط في الجنوب عبر أنابيب الشمال، لكن يمكن لحكومة الجنوب أن تطالب بمستحقاتها القديمة بسحب كميات عينية من النفط المستخرج في الشمال، مثلما فعلت الخرطوم بعد انفصال إقليم الجنوب، إذ اتهمت جوبا الخرطوم بسحب 2.4 مليون برميل عبر خط الأنابيب الذي ينقل النفط حتى البحر الأحمر عبر ميناء بورتسودان.

تعاون انتهازي

لكل من روسيا والصين استعداد للعمل في بيئات غير مستقرة سياسياً، كما حدث للصين في جنوب السودان والعراق وأفغانستان، وروسيا في دول أفريقية أخرى بالاعتماد على جهات فاعلة بخاصة مثل “فاغنر”، مما يثير تساؤلات حول الدور المباشر للحكومات والالتزام طويل الأجل. وقد تمكنهما خبرتهما الواسعة في مناطق الصراع من تخفيف الأخطار في السودان، مما يقودهما إلى التنافس حول الوجود فيه أو انسحاب واحدة لمصلحة الأخرى في إطار اتفاق مصالح بينهما في مواقع أخرى.

وفي حين أن التعاون بين روسيا والجيش السوداني قد يبدو واعداً في الأمد القريب، فإن قابليته للاستمرار على المدى الطويل تعتمد على حل الصراع الداخلي في السودان، وقدرة الجيش على تعزيز السلطة، والقدرة الاقتصادية والجيوسياسية لروسيا على دعم المشاركة. إذا وجد الجانبان فوائد ملموسة ومتبادلة وأدارا الضغوط الخارجية، فقد تستمر الشراكة. ومع ذلك، ونظراً إلى التعقيدات الماثلة، فمن الممكن بالقدر نفسه أن يظل هذا التعاون انتهازياً وقصير الأمد.

نقلاً عن : اندبندنت عربية