يمثل “قانون خفض التضخم” الذي أطلقته إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن علامة فارقة في تاريخ الولايات المتحدة، إذ يعد أضخم استثمار في قطاعي المناخ والطاقة على الإطلاق، ولا يزال يحتفظ بهذا السجل التاريخي حتى اليوم.

القانون الذي أثمر عن نتائج ملموسة على أرض الواقع، استقطب استثمارات ضخمة من القطاع الخاص بلغت أكثر من 560 مليار دولار أميركي موجهة لمشاريع الطاقة النظيفة، يخصص ربعها لتوفير وظائف في القطاع الصناعي. وشهد العام الأول لتطبيق القانون إطلاق ما يزيد على 280 مشروعاً في مجال الطاقة النظيفة، وُزعت على 44 ولاية أميركية.

غير أن حملة هاريس الانتخابية، وبدلاً من الترويج لهذا الإنجاز اللافت وتسليط الضوء على العلاقة الوثيقة بين التقدم في المجال المناخي والوظائف المراعية للبيئة والاستثمارات والنمو الاقتصادي المشترك، أضاعت هذه الفرصة واختارت التباهي بارتفاع معدلات إنتاج النفط في مناسبات عدة (تشير الإحصاءات إلى أن إنتاج النفط الخام في الولايات المتحدة تجاوز 13.2 مليون برميل يومياً من النفط الخام بحلول سبتمبر (أيلول) من العام الحالي).

ونتيجة لذلك، بات “قانون خفض التضخم” في دائرة الخطر، في ظل مخاوف واسعة من أن تشكل عودة ترمب المحتملة إلى البيت الأبيض ضربة قوية تقوض الجهود المناخية.

لكن الصورة ليست قاتمة تماماً، إذ تشهد عديد من الولايات المؤيدة لترمب، وفي مقدمها تكساس وداكوتا الشمالية وألاسكا، نمواً ملحوظاً في إنتاج وتوسيع مشاريع الطاقة المتجددة، وذلك بفضل المزايا التي يوفرها قانون خفض التضخم.

وعلى رغم الولاء التقليدي لهذه الولايات للحزب الجمهوري، يؤكد خبراء أنها ستشكل عاملاً حاسماً في المعركة المرتقبة لإعادة القضايا المناخية إلى واجهة الأجندة السياسية، سواء خلال الفترة المقبلة أو في انتخابات التجديد النصفي عام 2026. وتتجه الأنظار خصوصاً إلى مجموعتين رئيستين من شأنهما التأثير في هذا المسار، هما العمال في قطاعات الاقتصاد الأخضر والمجتمع الزراعي.

أما العمال، فقد وصف الرئيس بايدن بأنه “أكثر رئيس داعم للعمال منذ فرانكلين روزفلت”. وتجلى هذا الدعم في مواقف عملية عدة، من مساندة إضراب عمال شركة “أمازون” في ألاباما، إلى دعم النقابات وتعزيز المساواة في الأجور بالمشاريع الفيدرالية، وتوسيع مظلة ساعات العمل الإضافي. ولعل المشهد غير المسبوق لرئيس أميركي يشارك في خط اعتصام عمالي في ميشيغان يلخص نهج بايدن، الذي بات يعرف بـ”جو النقابي”، في التعامل مع القضايا العمالية.

إلا أن النتائج جاءت مخيبة للآمال الديمقراطية في منطقة “الحزام الصدئ” [منطقة في شمال شرقي ووسط غربي الولايات المتحدة كانت في السابق مركزاً للتصنيع. شهدت المنطقة تدهوراً اقتصادياً بسبب إغلاق المصانع والتحولات الصناعية، لكنها تظل ذات أهمية سياسية كمنطقة حاسمة في الانتخابات]، المعروفة تاريخياً بأنها القلب النابض للصناعة الأميركية، إذ لم يكتف الحزب الجمهوري بترسيخ نفوذه في معاقله العمالية التي سيطر عليها منذ عام 2020، بل تمكن من الفوز في ثلاث ولايات رئيسة هي بنسلفانيا وميشيغان وويسكونسن.

غير أن المفارقة تكمن في أن الدوائر الانتخابية الجمهورية حصدت النصيب الأكبر من الاستثمارات المرتبطة بقانون خفض التضخم. ولعل هذا ما دفع 18 نائباً جمهورياً في الكونغرس إلى اتخاذ موقف مغاير لتوجهات حزبهم، مطالبين صراحة بضمان استمرار هذه الاستثمارات، مستندين إلى المزايا الضريبية التي تستفيد منها شركات أميركية عديدة في مختلف قطاعات الطاقة.

وشهدت الولايات المتأرجحة انتخابياً طفرة في فرص العمل نتيجة لهذا القانون، إذ امتدت الفرص الوظيفية عبر قطاعات متنوعة من الإنشاءات والتصنيع إلى تركيب أنظمة الطاقة الشمسية على المنازل، ومن تطوير البنية التحتية للطرق إلى المشاريع الزراعية في المناطق النائية. وتشير التقارير الميدانية إلى ارتفاع مستويات الرضا الوظيفي بين العمال الذين انتقلوا إلى قطاعات الطاقة النظيفة، وبخاصة في مجالات تركيب الألواح الشمسية وتطوير تقنيات البطاريات، مقارنة بوظائفهم التقليدية السابقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويتوقع محللون أن تنقلب سياسات ترمب على قاعدته العمالية التي انجذبت لخطابه الشعبوي، إذ ستكون هذه الفئة الأكثر تضرراً من حزمة قراراته المتوقعة. وتشمل هذه القرارات فرض رسوم جمركية جديدة، وتقديم إعفاءات ضريبية تستفيد منها النخبة الاقتصادية دون العمال، إضافة إلى تخفيف الضوابط البيئية وتقليص فرص العمل الحكومية، ناهيك بالتهديدات التي تحيط بمستقبل قانون خفض التضخم. وسوف تعرف هذه الشريحة للمرة الأولى ماذا يعني خسارة وظائفها في القطاع المناخي بعد أن تذوقت طعم العمل فيه، لا سيما أنها باتت أقل تعلقاً بنمط الحياة القائم على الاستهلاك المفرط للوقود الأحفوري.

وعندما تقع الاحتجاجات العمالية بصورة لا مفر منها، سيتعين على الحركة المناخية مساندتها والوقوف إلى جانبها. ويرى مراقبون أن على المرشحين الديمقراطيين، سواء في المجالس البلدية أو انتخابات التجديد النصفي، تبني سياسات جريئة تركز على توفير وتعزيز فرص العمل في القطاع المناخي مع التركيز على برامج التدريب والتأهيل المهني.

وينقلنا هذا إلى الشريحة الثانية المتأثرة وهي المزارعون الأميركيون، إذ يواجه الجيل الجديد منهم، المعروف بجيل “زد”، في المزارع العائلية بجنوب غربي البلاد تحدياً غير مسبوق، لا سيما أن المنطقة شهدت خلال الأعوام الـ22 الماضية أشد موجة جفاف في تاريخها الممتد عبر 12 قرناً. وتؤكد الأوساط العلمية خطورة هذه الظاهرة التي أطلقت عليها مصطلح “الجفاف الهائل”، مشيرة إلى أن التغير المناخي يقف خلف هذه الأزمة غير المسبوقة في تاريخ المنطقة.

وشهد عام 2021 جفافاً حاداً في هذه المناطق، إذ تراجعت مستويات المياه بصورة دراماتيكية في خزانات المياه الرئيسة مثل بحيرتي “ميد” و”باول”. وتعد هذه الخزانات التي يغذيها نهر كولورادو مصدر المياه الحيوي لنحو 40 مليون نسمة في الولايات المتحدة، فضلاً عن الملايين في المكسيك.

ويمتد نهر كولورادو عبر معاقل جمهورية رئيسة مثل ولايتي يوتا ووايومنغ، إضافة إلى ولايات متأرجحة سياسياً مثل نيومكسيكو ونيفادا وأريزونا التي صوتت لمصلحة ترمب هذا العام. وتشكل هذه المجموعة من الولايات وحدها 41 صوتاً في المجمع الانتخابي، نجح ترمب في حصد 26 صوتاً منها، في تحول لافت عن انتخابات عام 2020، حين فاز بايدن بـ32 صوتاً من هذه المنطقة.

وبالنسبة إلى مزارعي هذه الولايات، لم يعد التغير المناخي مجرد خطر مستقبلي يهدد الأجيال القادمة، بل أصبح هاجساً ملموساً يؤثر في مصادر رزقهم اليومية. وتشير التوقعات إلى أن المزارعين المعتمدين على مياه نهر كولورادو قد يواجهون انخفاضاً في مستويات المياه بنسبة 20 في المئة خلال الـ25 عاماً المقبلة.

وعلى رغم تراجع موجة “الجفاف الهائل” جزئياً في المناطق الغربية، فإن ولاية تكساس لا تزال تعاني ظروفاً قاسية، في حين يواجه مزارعو ولاية وايومنغ ترشيداً صارماً للمياه. أما الولايات الشمالية الشرقية فتشهد بصورة مفاجئة موجة جفاف حادة لم تعهدها من قبل.

وقد يبدو الحديث عن استمالة المزارعين أمراً غير منطقي للوهلة الأولى عند النظر إلى الخريطة الانتخابية لأية ولاية أميركية. فخارج المدن الكبرى المشهورة يطغى اللون الأحمر الذي يرمز للحزب الجمهوري، غير أن الواقع الاقتصادي يرسم صورة مختلفة إذ يعتمد غالبية هؤلاء المزارعين على دعم حكومي كبير للحفاظ على قدرتهم التنافسية في السوق العالمية، وهي السوق التي يهدد ترمب بإحداث اضطرابات فيها. وفي ظل العجز الذي يعانيه الميزان التجاري الزراعي الأميركي حالياً تتزايد المخاوف من تفاقم الوضع مستقبلاً.

ويعتمد كثير من هؤلاء المزارعين على العمالة المهاجرة لخفض كلف الإنتاج، وهي الفئة التي تعهد المسؤول الأول عن ملف الحدود في إدارة ترمب باستهدافها. وفي حين أن ترمب لم يقدم سوى “تصورات أولية”، على حد تعبيره، لخطته في مجال الرعاية الصحية، تتزايد المخاوف من احتمال استهدافه لبرنامج “ميديكيد” Medicaid الذي يعد شريان الحياة للمجتمعات الريفية.

وتشير التحليلات إلى أن المزارعين الذين منحوا أصواتهم لترمب في انتخابات عام 2024 قد يراجعون موقفهم خلال الأعوام القليلة المقبلة. ففي ظل توقعات استمرار موجات الجفاف الحادة، واحتمالات اندلاع حرائق الغابات، على غرار تلك التي تجتاح حالياً مناطق واسعة من ولايات ميشيغان ونيوجيرسي وماساتشوستس، قد يتساءل هؤلاء المزارعون عن جدوى التوسع في إنتاج النفط والغاز.

ويمثل التواصل مع هذه المجتمعات الريفية التي تواجه تحديات متزايدة فرصة حقيقية لتوسيع دائرة الحركة البيئية خلال الأعوام المقبلة. وتبرز إمكانية تقديم حلول مبتكرة لهذه المجتمعات، من بينها مبادرات تركيب الألواح الشمسية في المزارع المناسبة، مما قد يفتح آفاقاً جديدة وقيمة للتعاون.

نقلاً عن : اندبندنت عربية