عض التفاصيل الشخصية في حياة زعماء وقادة العالم بمثابة أسرار يجب تأمينها مثلما يجري تأمين الوثائق المهمة، أو النقاط العسكرية أو حتى أرواح الحكام، لأن في خروج هذه القصص إلى العلن إحراجات ربما تودي بسمعة الشخص، فمهما كان الفعل بسيطاً وغير مؤثر بشكل عام، فإنه يمكن أن يمثل سقطة لا تغفرها الجماهير، لا سيما تلك المتعطشة لانتقام سياسي لا يأتي بالطرق الشرعية.
وتعدّ الصور الخاصة بعضاً من تلك الأسرار، وإن كان المرح والعفوية في الحياة العائلية للسياسيين الكبار أمراً إيجابياً، بل على العكس قد يجعلهم أكثر جاذبية وقرباً لأفراد الشعب، لكن في حال كان هذا الزعيم يجتهد وحاشيته في رسم هالة بعينها حول حياته، فإنه لا يفضّل عادة أن يتداول العامة ما يخص دائرته الأكثر قرباً. لهذا، يكون السقوط المدوي للأنظمة وسيلة للكشف عن هذه اللقطات، التي تتنوّع ما بين عادية وتلقائية وأخرى تثير الاستغراب، بالتالي كان الأفضل لها أن تظل مخفية.
هذا التداول الواسع الذي تحرّكه أولاً مشاعر الفضول الشعبي أو حتى الصدمة، يستمر ربما من باب التسلية أو التشفي وحتى شراهة الرغبة في الثأر، بخاصة أن كثيراً من هذه الصور لم يكن مطروحاً للعلن بأي شكل، وهي تقع تحت بند “الحياة الخاصة” غير المسموح أبداً بالاقتراب منها في حياة ذوي المناصب الرفيعة للغاية وساكني قصور الحكم.
ولهذا، حينما تفقد حصانتها، تجد زبائن كثراً يسعون لاستكشافها وتحليلها وتأويلها، وربما السخرية منها ومحاكمة أصحابها، وهناك أيضاً من يبدون إعجابهم بعد اكتشاف الوجه الآخر الأكثر عادية للزعيم، مهما كان مناقضاً للشخصية التي دأب نظامه على الترويج لها، وقد يكون بشار الأسد، المقيم حالياً بروسيا، أحد أحدث تلك النماذج، إذ بات ألبوم صوره العائلي، إضافة إلى وثائق ومقتنيات غرف القصر، معروضاً بين المنصات، وكأنه وجبة يومية للتسلية، بخاصة في المجتمع العربي، الذي اعتاد صورة نمطية معينة للحكام لا تشوبها شائبة.
عالمياً، كانت هناك قصص وحكايات كثيرة حول التسريبات التي يتورط فيها رؤساء الدول، التي تضمنت صوراً خاصة، وأسراراً بصبغة فضائحية، بينها ما طاول الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون في التسعينيات، إذ أنهت علاقته بمونيكا لوينسكي مسيرته السياسية في البيت الأبيض. كذلك حفلت حياة رئيس الوزراء الإيطالي السابق سلفيو بيرلسكوني بفضائح مشابهة، كما لم تخل مسيرة الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن من بعض الأزمات المشابهة، وسرّبت له صور توحي بتصرفاته الغريبة وأسلوب حياته الماجن مدمناً للكحول، إذ كان يسير بملابسه الداخلية في الشوارع.
وتختلف بالطبع طريقة التلقي، فهناك من لا يتمكن من الوقوف بوجه العاصفة، وآخرون يقاومون بكل قوتهم، بينهم، على سبيل المثال، الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، الذي يتجاوز قضايا اتهامه بتجاوز القانون والتحرش الجنسي، ولا يأبه بتسريب أسرار علاقاته النسائية المعتمدة على الابتزاز والاستغلال.
أسرار القصور الرئاسية بلا ثمن
في العالم العربي، كان ملموساً بشدة كيف تتغير مشاعر الناس تجاه الزعيم فور أن تنزع منه سلطاته ويزول نفوذه، ويبدأ الجميع في ممارسة حرية الرأي السياسي، التي لطالما حُرموا منها، فتتوسع دائرة نشر الصور الخاصة التي عُثر عليها بالصدفة دلالة على هذه الحريات، ويتسابق الجميع لنشر اللقطات التي كانت محجوبة ومحمية، ثم أصبحت متاحة بلا ثمن، لتكشف جوانب لم تكن معروفة قبلاً تسهم في إبراز نقاط ضعف الزعيم.
وارتباط هذه النوعية من الأسرار واللقطات مع سقوط الأنظمة وزوال هالة القداسة أمر طبيعي، لأنه خلال فترة وجود الزعيم بالسلطة لا يسمح بأن تنتشر التسريبات الشخصية على نطاق واسع. كما أن سُبل التأمين الفائقة تمنع مصوري الباباراتزي ومروجي اللقطات الثمينة من الوصول إلى مبتغاهم.
وشهد العالم العربي خلال الـ13 عاماً الأخيرة انهيار عديد من الأنظمة ما سمي بالربيع العربي، وفي كل مرة كان هناك خط موازٍ لما يمكن تسميته بالاحتفاء بالعثور على صيد من الصور الشخصية للزعماء تكشف جانباً غير معروف عن حياتهم.
وفي الوقت الذي دأب فيه بشار الأسد على مدى ما يقرب من ربع قرن حكم فيها الدولة السورية على ترسيخ صورة ذهنية محددة تتسم بالجدية والصرامة والجمود، ثم أضيفت إليها رتوش أخرى مثل البطش والتنكيل، وفقاً لما أوردته المعلومات والوثائق والصور، وما كشفته سجلات التعذيب بالسجون عقب سقوط نظامه في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) من هذا العام، فإن عشرات الصور التي وقعت في أيدي العابثين بأوراق قصره الرئاسي كانت مغايرة تماماً، وتبدو محرجة في كثير من الأوقات، والأكثر أنها غير مفهومة الإطار، لا سيما أن ظهوره بوضعيات معينة شبه مجرد من الملابس لم يقتصر على موقف واحد أو مناسبة عابرة، مثل وجوده على الشاطئ مثلاً، فحينها كان سيغدو الأمر عادياً، لكنه يبدو بهذا المظهر في عديد من المناسبات.
الأمر هنا لا يتعلق أبداً بالبساطة أو الكشف عن الوجه المرح المتجرد من الرسميات، فكل هذه أشياء عادية كانت لتحظى بالتقدير ويشترك فيها الجميع، بمن فيهم رؤساء كبار الدول. لكن الأمر مع بشار الأسد يبدو غير مفسّر بالمرة، ليس بسبب التناقض الصارخ بين وجهه الرسمي وحياته الشخصية، لكن بسبب الغرابة وبسبب الحرص الشديد على توثيق مثل هذه اللحظات بالكاميرا وطباعة الصور والاحتفاظ بها، ثم الأكثر إدهاشاً التعامل معها بشكل عادي، وعدم إبعادها عن التناول، حيث تمتلئ مكتبة صور القصر بآلاف الصور لأبويه وأبنائه وأشقائه بصور عائلية معتادة.
يرى أستاذ العلوم السياسية أوس نزار درويش أن أول ما تشير إليه بعض صور بشار وعائلته، أنه ترك القصر بشكل فجائي، ولم يهتم بنقل الصور وتأمينها وحمايتها، ولم يفكّر من الأساس بهذه الأشياء في اللحظة المصيرية. مشدداً على أنه كان في موقف غير اعتيادي بيوم صعب للغاية في دمشق، ولم يهتم سوى بتأمين سلامته الشخصية، ومن ثمّ لم يحافظ على هذا الإرث العائلي، الذي وقع في أيدي الناس بكل سهولة. لافتاً إلى أن بعض هذه الصور قديمة للغاية، وقد تبدو عفوية.
انتقام سياسي رمزي
لكن السبب الكبير في الانتشار على هذا النطاق الواسع للغاية يعود إلى “رغبة قوية في التشفي”، وفق ما يؤكد أستاذ العلوم السياسية، موضحاً، “بالطبع التشفي والاستهزاء والانتقام بالتعليقات الساخرة هي مشاعر أساسية تصاحب الشماتة في الأنظمة الساقطة، بخاصة بعد زوال الحصانة والقبضة الأمنية. فحتى لو كان هذا السلوك لا يقدم ولا يؤخر ولا يفيد، فإنه يشبع شيئاً لدى الجماهير، ويعتبر نوعاً من التنفيس. فهذا التعبير الرمزي عن الانتقام يأتي ممن عانوا بسبب هذا النظام”.
ولم يختلف الباحث قصي عبيدو مع هذا الرأي كثيراً، لا سيما في الشق المتعلق بأولويات الأسد خلال اللحظات الأخيرة في حكمه سوريا، مضيفاً أنه فرّ بطريقة مخزية، مخلفاً وراءه مستنداته وحتى صوره الشخصية. معتقداً أنه كان سيحكم سوريا للأبد، ولم يكن يفكّر في إخفاء هذه الأغراض أو إتلافها لعدم انتشارها في العالم.
وعن سبب هذا التداول الكبير لهذه اللقطات، ولماذا يرتبط عادة بالرؤساء المخلوعين الذين يقترن خروجهم الفجائي من السلطة بالفوضى، يقول عبيدو إن السقوط الفوضوي غير المخطط له من المؤكد أن يعقبه دخول إلى المكاتب والبحث والتفتيش في الأوراق والأغراض الشخصية، لأنه لم يكن هناك وقت لإتلافها أو إخفائها.
وما يسهم في هذا الأمر أيضاً، وفق ما يرى عبيدو، أننا الآن في عصر التطور التكنولوجي الذي له دور من الأساس في التجسس واختراق الحسابات الشخصية والمصرفية، إضافة إلى الاختراق الأمني عبر أجهزة الاستخبارات العالمية، وزرع عناصر منها لإسقاط أنظمة أو التحكم بالحكم عبر وصولهم إلى مناصب متقدمة في الدولة. وأيضاً الانتقام الشخصي من المقربين، وبالطبع ثورة الشعب على الحاكم أو الزعيم أو الرئيس ودخولهم منزله ونشر محتوياته عبر الإعلام.
ويواصل، “مما لا شك فيه أن الأمثلة في عالمنا عن التسريبات كثيرة وعن الثورات لا تُعد، لكن ما يحدث مع بعض الرؤساء هو حالة خاصة سببه معاناة الشعوب من حكمهم، بالتالي يعتقدون أنهم يستحقون فضح أسرارهم الشخصية”.
محاكمات على الإنترنت
المفارقة أنه في عصر السوشيال ميديا، فإن حسابات القادة تستخدم الصور العفوية ضمن الخطة الإعلامية للترويج لصورة الزعيم القريب من الشعب، والحنون البار بعائلته، والمرح الذي يمارس رياضته المفضلة بعفوية، ويقضي وقتاً ممتعاً على الشاطئ.
وحتى في عصور سابقة كانت داووين الهيئات الحاكمة توزع بين حين وآخر مثل هذه الصور، وللهدف نفسه حيث ظهرت لقطات من هذا القبيل لمحمد أنور السادات، وجمال عبد الناصر، وعبد العزيز بوتفليقة، والحبيب بورقيبة. وقد تحدثت رغد، ابنة الرئيس السابق صدام حسين الذي سقط نظامه بعد الغزو الأميركي للعراق في 2003، عن بساطة أبيها ولطفه مع أطفال الأسرة، وكيف كان شخصاً عادياً جداً لا يهتم بالرسميات. وجرى تداول صورة تعزز وجهة النظر هذه، لكنها أيضاً كانت تخدم صورة الرئيس القوي الذي كان يحب الظهور بثبات حتى لو كان مرتدياً ملابس السباحة أو يدلل ويلهو مع طفل صغير.
أما الملك فاروق فقد جرى استخدام الصور الخاصة العابثة، لإبراز مدى فساد حكمه بعد إزاحته عن منصبه إبان ثورة يوليو (تموز) 1952، كذلك فإن صور الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك الذي تنحى في فبراير 2011 إثر ثورة شعبية، فقد كان كثير منها متداولاً قبل السقوط، وانتشرت مجموعة أخرى بعد انهيار النظام، لكنها أيضاً كانت تخدم صورته “العادية” المتواضعة، سواء وهو مع الأحفاد والأبناء والأصدقاء، أو وهو يمارس رياضته المفضلة الإسكواش.
والأمر لم يختلف كثيراً مع الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، حيث كان بعض أفراد عائلته بعد السقوط يحرصون على نشر صور تبرز الجانب الطبيعي البسيط من حياته. لكن الأمر اختلف بعض الشيء مع معمر القذافي، الرئيس الليبي المخلوع كذلك، حيث جرى التركيز على أسرار تصرفاته وأبنائه والبحث عن التجاوزات التي أفسدت الحياة السياسية في البلاد.
كما أن ألبومات الصور الشخصية للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح كانت أيضاً من الأكثر انتشاراً بعد تردي الأوضاع إثر الحراك الشعبي في 2011، وبعض منها كان مع الأسرة وأخرى مع أصدقاء بالزي العسكري الرسمي، وهناك أخرى بالزي التقليدي، حيث كانت الجماهير تحاول أن تستشف دلالات هذه اللقطات، التي تعبر بعضها من وجهة نظرهم عن الاستعلاء الشديد والرفاهية المطلقة، وأخرى عن التواضع والمرح، وبعضها يدل على قوة الشخصية وغيرها.
دلالات الصور المتناقضة
يطالب أستاذ السياسة أوس نزار درويش بضرورة الفصل بين الحياة الشخصية للقادة ومشوارهم السياسي، “هناك قادة ديكتاتوريون وآخرون أكثر مهادنة، والحياة الشخصية لا تكون مرادفة عادة للأداء السياسي. الزعيم في الأغلب يكون عادياً تماماً مع أحبائه وعائلته بالمنزل، بينما متطلبات عالم السياسة مختلفة تماماً. إذ يسعى الرئيس هنا أن يصدر عن طريق وسائل الإعلام الجانب الأمثل لشخصيته والمتسق مع توجهه في إدارة الدولة وفي تعامله مع بقية البلدان. وبالطبع، أي قائد سواء عربياً أو عالمياً، تكون حياته بعيداً من الكاميرات مختلفة. والحقيقة أن الشرق الأوسط معقد جداً، فلا يمكن مقارنة العاملين الشخصي والعام. فقد يكون الزعيم ودوداً للغاية في حقيقته، لكن في سياساته العامة شخص غير أخلاقي أبداً، فكثير من الرؤساء ممن ارتكبوا جرائم هم في حياتهم مثاليون ومرحون”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويلفت درويش إلى أن تلقي وسائل الإعلام أيضاً تسريبات الحياة الشخصية حول الزعماء يختلف تماماً من مجتمع إلى آخر، إذ يؤكد أن مرور هذه الأشياء في العالم الغربي لا يستمر طويلاً، بعكس ما يجري عربياً، نظراً إلى أن الثقافة المجتمعية تعوّدت أن تظل صورة الحاكم غير مخدوشة، ولا تحمل أي شبهة. وذلك وفقاً للسمات الخاصة التي بناها هذا الحاكم لنفسه عبر الترويج الإعلامي ضمن آلة الدعاية الرسمية.
ولهذا، من الطبيعي أن تكون ردود الأفعال متتالية، ولا تتوقف حينما تتكشّف أي صورة ذات مغزى تتعلق بهذه الفئة من السياسيين. وتعتبر وسائل التواصل الاجتماعي هي الوسيلة الأولى لتفريغ الشحنات في هذا الصدد. فهذه هي ثقافة الإنترنت التي تغذي الرغبة في التشهير وتصفية الحسابات، فوسائل الإعلام الرصينة لها قواعد ومعايير تجعل التغطية لهذه القصص مغايرة تماماً.
ووفقاً لدراسة بحثية حملت عنوان “العلاقة بين المتغيرات السياسية والإعلام في مرحلة الربيع العربي”، لكل من حميدة سميسم وليلى جرار قُدمت في جامعة الشرق الأوسط بالأردن، جرى التوصل إلى أن السوشيال ميديا بالفعل تقوم بدور التعبئة والتنظيم للشباب عن طريق إتاحة مساحة من الحرية لم تكن متاحة لهم على أرض الواقع، إذ أشارت الباحثتان إلى أن الجماهير استخدمت هذه المنصات، للتعبير عن آرائهم وشحذ الهمم وحتى للتعبير عن الضيق بطريقة عفوية في البداية، لكنها تتحوّل إلى تعبئة مقصودة في ما بعد.ويختم الباحث السياسي والكاتب قصي عبيدو تعليقاته على هذا التوجه، بأنه عبر التاريخ شكّل الجانب الشخصي المتعلق بالملك أو الزعيم أو الرئيس جاذبية خاصة. مشيراً إلى أنه لم يستطع أحد أن يخفي هذا الجانب مهما حاول وأحاط نفسه بهالة من الحراسة والسرية. فهناك تسريبات قد تحدث من المقربين أو من خلال الحراس أنفسهم أو العاملين في مجال الخدمة والتنظيف.
نقلاً عن : اندبندنت عربية