أثار تعهد الصين تقديم تمويلات بقيمة 51 مليار دولار لأفريقيا على شكل قروض، مخاوف قديمة متجددة من هيمنة بكين على القارة السمراء التي ترزح تحت وطأة أزمات أمنية واقتصادية ومالية.
وتأتي هذه المخاوف في خضم تراجع كبير للقوى الغربية، خصوصاً في منطقة الساحل الأفريقي، إذ قادت سلسلة الانقلابات العسكرية إلى صعود حكام جدد مناهضين لفرنسا والولايات المتحدة الأميركية وغيرهما.
وقال الرئيس الصيني شي جينبينغ في كلمته على هامش افتتاح القمة الصينية – الأفريقية، إن بلاده “مستعدة لتعزيز التعاون مع أفريقيا في مجالات الصناعة والزراعة والبنى التحتية والتجارة والاستثمار”.
ولفت جينبينغ إلى أن “الصين وأفريقيا يمثلان ثلث سكان العالم ومن دون تطورنا لن يكون هناك تطور في العالم”.
ويأتي حديث الرئيس الصيني فيما بلغ حجم التجارة بين بكين وأفريقيا في النصف الأول من العام الحالي 167,8 مليار دولار، وفقاً لتقارير بثتها وسائل إعلام رسمية صينية، وأرسلت بكين مئات آلاف العمال والمهندسين إلى أفريقيا وحصلت على امتيازات للوصول إلى مواردها الطبيعية الضخمة.
كما زودت الصين الدول الأفريقية بمليارات الدولارات على شكل قروض ساعدت في بناء البنية التحتية، لكنها أثارت جدلاً في بعض الأحيان بسبب تحميل الدول ديوناً ضخمة.
مخاوف “مشروعة”
ووعدت الصين التي تُعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم بتنفيذ ثلاثة أضعاف مشاريع البنية التحتية في أفريقيا التي تسبح فوق موارد ثمينة على غرار اليورانيوم والذهب، لكنها تئن تحت أزمات مالية وديون متفاقمة، وهو أمر حذر منه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.
وقال غوتيريش إن “وضع الديون في أفريقيا غير قابل للاستمرار وهو وصفة للاضطرابات الاجتماعية، وهذه الدول لا تستطيع الحصول على برامج فعالة لتخفيف أعباء الديون، ولديها موارد شحيحة ونقص في التمويل الميسر اللازم لتلبية حاجات السكان الأساس”.
وشهدت دول مثل كينيا أخيراً احتجاجات دامية بسبب ما تضمنه قانون الموازنة، واللافت أن هذا البلد الذي يقع في شرق أفريقيا، كان وجهة للصين التي ضخت قروضاً هناك بصورة كبيرة لكن بأسعار فائدة مرتفعة.
وقال الباحث السياسي السوداني المتخصص في الشؤون الأفريقية الصادق الزريقي إن “المخاوف مشروعة لأنها تنطلق من تحول جوهري في المشهد في أفريقيا حيث أصبحت الصين قادرة على سحب البساط من تحت أقدام الغرب لعوامل عدة، أهمها أنها لم تكن قوة استعمارية ولذلك لديها صورة إيجابية لدى الأفارقة”.
وأضاف الزريقي في حديث إلى “اندبندنت عربية” أن “الماضي الاستعماري للبلدان الغربية في أفريقيا المثقلة بالمآسي لم يكن ممكناً أن تنساه القارة، مما أدى إلى انحسار النفوذ الفرنسي، والصين تسعى إلى تطوير البلدان الأفريقية ولديها مشاريع في الطاقة والبترول والبنى التحتية وشروط منح قروض مُيسرة”.
وشدد على أن “هذه العوامل جعلت الشعوب الأفريقية تنظر بمقارنة بسيطة بين الصين والدول الغربية، ولذلك قررت اختيار الصين على رغم أن هناك تحولات في السياسة الصينية تجاه أفريقيا، لكن غياب ماض استعماري والتجربة الصينية للنهضة ينظر إليها على أنها تجربة رائدة ويمكن الاستلهام منها في أفريقيا”.
إغراق القارة
وفيما تستعد الصين لإطلاق 30 مشروعاً لتطوير البنى التحتية في أفريقيا، فإن الرئيس جينبينغ تعهد بإطلاق 30 أخرى في مجال الطاقة النظيفة، كما اقترح مشاريع في التكنولوجيا النووية والكهرباء، لكن هذه الوعود والإغراءات تواجه أسئلة حول المقابل الذي ستتلقاه الصين في ظل مخاوف طُرحت حتى قبل هذه القمة من أن تقود القروض التي تمنحها بكين بيسر للدول الأفريقية إلى إغراق هذه القارة.
وبحسب الأرقام المعلنة من طرف الصين والدول الأفريقية فإن الأخيرة منحت ما بين عامي 2002 و2022 نحو 170 مليار دولار على صورة قروض، وهو أمر دفع مركز أبحاث هندي إلى صياغة مصطلح “فخ الديون” الذي يحذر من تداعيات هذه القروض الصينية على السيادة وأسعار الفائدة المرتفعة وغيرهما.
واعتبر رئيس مركز الأطلس للتنمية والبحوث الإستراتيجية عبدالصمد ولد امبارك أن “القمة الصينية – الأفريقية تأتي في سياق انفتاح الصين على الأسواق العالمية، خصوصاً وأن أفريقيا معروفة بطلبها المتزايد على السلع الصينية في ظل تنامي الاستثمارات الصينية في أفريقيا بحثاً عن توسعة الشراكة مع القارة المعروفة بارتفاع وتيرة النمو فيها وتنوع الموارد والثروات الطبيعية، مما يجعل أفريقيا وجهة بكين المفضلة في جلب الاستثمار ودعم الاقتصادات التي لا شك في أنها تحتاج إلى التمويلات عبر القروض الميسرة قصد تطوير الصناعة في أفريقيا وكذلك معالجة الاختلالات البنيوية التي تعرفها القارة السمراء”.
وتابع ولد امبارك في تصريح خاص أن “المبادرة الصينية في منح 51 مليار دولار من شأنها فتح شهية المنتظم الأفريقي في كسب رهانات التنمية مع الشريك الصيني في ظل المتغيرات المتجددة التي تعرفها القطبية العالمية ضمن التعاون البناء، في إطار رسم معالم خريطة سياسية جديدة تضمن من خلالها الصين حيازة ولاء القارة الأفريقية ضمن التحالفات الدولية الحديثة”.
وذكر المتحدث أن “هاجس الخوف القائم نتيجة إغراق أفريقيا في الديون والقروض الصينية له ما يبرره، نتيجة تجربة القارة الأفريقية مع المؤسسات المالية الدولية، خصوصاً مؤسسات ‘بريتون وودس’ مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، نتيجة محفزات الائتمان التي توفرها القروض في مقابل المشاريع التنموية التي تحتاجها أفريقيا”.
وأكمل ولد امبارك “بالتالي تظل هذه المخاوف قائمة باعتبار تنوع الأخطار التي تحيط بحيثيات عقد شراكة مثمرة وبناءة تدر بالمنافع على الشعوب الأفريقية التي تعاني توترات متلاحقة ومصاعب جمة في استيعاب حجم متطلبات الأسواق المحلية مع صعوبة تغذيتها بمتطلبات الحياة العصرية التي تحتاجها القارة”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حاجز آخر
وراهنت الصين منذ أعوام على مبادرة “الطريق والحزام” التي تطاول دولاً في شرق أفريقيا مثل إثيوبيا وكينيا وتنزانيا ومدغشقر وموزمبيق من أجل تعزيز علاقاتها مع القارة السمراء.
لكن ولد امبارك قال إن “الموقع الجغرافي الفاصل بين أفريقيا والصين يشكل حاجز في تطوير وتنمية أواصر متينة لتقوية التعاون الصيني – الأفريقي”.
وأشار إلى أن “أعمال القمة الصينية – الأفريقية كانت نوعية في خلق علاقات جيدة بين بكين ومختلف العواصم الأفريقية من خلال رصد آفاق واعدة للاستثمار الصيني، ولا سيما في تطوير البنى التحتية ودعم القدرات المحلية الخاصة بكل بلد أفريقي، سبيلاً إلى دعم الاستقرار الصيني في القارة الأفريقية على ضوء توسعة الشراكة في شتى ميادين القطاعات الخدماتية التي تحتاجها أسواق القارة”.
دعاية لتشويه الصين
وإلى جانب التحفيزات المالية فقد وعدت الصين على هامش قمتها مع أفريقيا بتوفير مليون وظيفة في القارة السمراء، وطلب رئيسها من الشركات الصينية “العودة لأفريقيا بعد رفع قيود كورونا”.
وكان منتدى التعاون الصيني – الأفريقي قد وضع منذ البداية برنامج تعاون مدته ثلاثة أعوام مع كل الدول الأفريقية عدا إسواتيني بسبب ارتباطها بعلاقات مع تايوان.
وقال الباحث السياسي فوزي أبو ذياب إن “المخاوف المطروحة من التمويلات الصينية غير مشروعة، وهي جزء من الدعاية الإعلامية لتشويه دور الصين في القارة الأفريقية”.
وأضاف أبو ذياب في تصريح إلى “اندبندنت عربية” أن “الرئيس الصيني أشار في كلمته إلى عمق العلاقة بين بلاده وأفريقيا، وهي امتداد لعلاقة تاريخية بين الطرفين ترسخت منذ آلاف الأعوام، وخلال الأعوام الـ 10 الماضية تبين أن العلاقات الصينية – الأفريقية ثابتة وراسخة على أسس من التعاون البناء والصراحة والوضوح، وكذلك قيمة التبادل التجاري الذي تجاوز الـ 15 مليار دولار بين الطرفين”.
وشدد على أن “الاستثمارات الصينية ازدادت في أفريقيا مما يعني أن العلاقات بين الطرفين قائمة على أسس التنمية التي تحتاجها القارة في مقابل توافر الخبرات والكفاءات لدى الصين، وأفريقيا تحوي الثروات والإمكانات الطبيعية والمعادن وغيرها من الأمور التي تستفيد منها الصين، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن هناك تكافؤاً جزئياً في الفرص والإمكانات المتاحة في أفريقيا والخبرات والقدرات المتوفرة لدى الصين”.
وتابع المتحدث، “للأسف الغرب تعامل خلال الأعوام الـ 100 الماضية مع أفريقيا بطريقة غير عادلة وما تعانيه القارة دليل على ذلك، وهناك إشكال بالفعل يتعلق بإعادة جدولة ديون بعض الدول الأفريقية مع الصين، وهذا ما تطرق إليه في بعض الجلسات الخاصة والثنائية، فضمن الـ 51 مليار دولار المعلنة هناك 20 مليار دولار ستكون على شكل مساعدات وليس قروض”.
واستنتج أبو ذياب أنه “بالتالي الحديث عن إمكان إغراق الصين لبعض الدول الأفريقية بالديون أمر مبالغ فيه”.
تحولات ونجاح
وتأتي المخاوف مما يُسمى “فخ الديون” في وقت لا يستبعد فيه مراقبون أن ترافق بكين توسعها الاقتصادي والاستثماري في القارة السمراء بغطاء سياسي وأمني.
ومع ازدياد الهجمات التي استهدفت عمالها، لجأت الحكومة الصينية بالفعل إلى شركات الأمن الخاصة لتأمين هؤلاء في القارة السمراء، كما تحتفظ بقاعدة عسكرية في دولة جيبوتي.
وقال الصادق الزريقي إن “العلاقات الصينية – الأفريقية انطلقت انطلاقة جديدة منذ النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، وكانت الإستراتيجية الصينية واضحة منذ البداية وهو الدخول في استثمارات حقيقية والاستفادة من القارة في مختلف المجالات من دون أن تكون للصين أية توجهات أو إستراتيجيات سياسية، وبحكم غياب أي ماض استعماري للعملاق الآسيوي في القارة فقد انفتحت كثير من الدول الأفريقية على الصين”.
وأوضح أن “الشراكات الأولى التي قامت بها الصين مع أفريقيا نجحت مع دول ثلاث هي أنغولا وزيمبابوي والسودان، وكانت الاستثمارات الصينية محصورة في القطاع النفطي والبنى التحتية والتعدين وقد نجحت في ذلك، وكانت شركة ‘سي أم بي سي’ الصينية هي الأقوى لتكريس التغلغل الصيني في أفريقيا، ثم توسعت بكين في أقاليم القارة الخمسة”.
وشدد الزريقي على أن “هناك تحولات سياسية وعسكرية على غرار إنشاء القاعدة العسكرية في جيبوتي وهو أمر شكل تطوراً مختلفاً عن العلاقة الاقتصادية بين الطرفين، والعلاقات الصينية – الأفريقية بدأت تظهر فيها مظاهر سياسية، وهو أمر بدا واضحاً منذ اختيار الصين وروسيا شريكاً أفريقياً قوياً هي جمهورية جنوب أفريقيا التي أصبحت من أهم حلفاء بكين الدوليين، وهي خطوة مهدت الطريق نحو شراكات سياسية جديدة بدأت تتبلور بين بكين ودول أفريقية أخرى”.
واستدل المتحدث بـ “استخدام الصين الفيتو لمصلحة زيمبابوي في فترة الرئيس روبيرت موغابي يعني أن الشراكة الاقتصادية تحولت إلى شراكة سياسية واقتصادية شاملة، والوجود العسكري في جيبوتي يعكس توسعاً صينياً في القارة الأفريقية، ناهيك عن تزايد مبيعات الأسلحة من بكين إلى العواصم الأفريقية وهو تطور كبير”.
وأنهى الزريقي حديثه بالقول إن “هناك تطوراً آخر مهم للغاية وهو سماح الصين للأفارقة بالدفع باليوان الصيني بدل الدفع بالعملات الغربية مثل الدولار أو اليورو، مما جعل البضائع الصينية تغزو أسواق القارة، فيما يزداد التنسيق السياسي”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية