في مقابلة مع المعلق السياسي تاكر كارلسون في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي تفاخر دونالد ترمب قائلاً، “أسوأ ما يمكن أن يحدث هو أن تتحد روسيا والصين. سأضطر إلى التفريق بينهما، وأعتقد أنني أستطيع فعل ذلك”. وخلال الحملة الانتخابية، كرر الرئيس المنتخب مراراً أنه سيوقف الحرب في أوكرانيا “في غضون 24 ساعة”، وأنه سيكون أكثر صرامة مع الصين مما كان عليه الرئيس جو بايدن.

لم يوضح ترمب قط خطته الرامية إلى “تفريق” هاتين الدولتين، واستناداً إلى سجله السابق، فهو قد يكتفي بابتكار خطة بصورة عشوائية، لكن المؤشرات الأولية توحي بأن الإدارة المقبلة قد تسعى إلى إلحاق الضرر بالشراكة الصينية الروسية من خلال تخفيف التوترات مع موسكو (وربما تحسين العلاقات معها) بهدف الضغط على بكين، وهي خطوة تتناقض مع ما خطط له وزير الخارجية هنري كيسنجر قبل أكثر من 50 عاماً، عندما سعت الولايات المتحدة إلى تحقيق انفراج مع الصين لاستغلال الانقسام السوفياتي الصيني.

ويبدو أن هذه المدرسة الفكرية تحظى بشعبية كبيرة بين عديد من الشخصيات في عالم ترمب، بمن في ذلك أولئك المرشحين لإنشاء فريق الأمن القومي الخاص به. فمايكل والتز على سبيل المثال، وهو عضو في الكونغرس اختاره ترمب ليشغل منصب مستشاره للأمن القومي، دعا في مجلة “إيكونوميست” إلى مساعدة الولايات المتحدة في إنهاء الحرب في أوكرانيا في أقرب وقت ممكن ثم تحويل الموارد إلى “مواجهة التهديد الأكبر الذي يشكله الحزب الشيوعي الصيني”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي بكين وموسكو، ينتظر القادة فترة الفراغ الموقتة بين الإدارتين خلال الأسابيع المقبلة وبداية ولاية ترمب الجديدة بمزيج من القلق والشماتة. فالأولوية القصوى بالنسبة إلى الكرملين هي تجاوز هذه الفترة بأمان وتجنب التصعيد الكبير مع الولايات المتحدة في شأن أوكرانيا قبل انتقال ترمب إلى البيت الأبيض. ويأمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن تؤدي رئاسة ترمب إلى انخفاض كبير في الدعم الغربي لكييف إذا لعبت موسكو أوراقها بصورة جيدة، حتى لو لم يتم التوصل إلى إنهاء رسمي للأعمال العدائية في أوكرانيا.

على النقيض من ذلك، فإن مخاوف بكين مختلفة تماماً. أشار اجتماع الرئيس الصيني شي جينبينغ مع بايدن في نوفمبر (تشرين الثاني) خلال قمة “أبيك” إلى أن الإدارة الديمقراطية لن تعطل بصورة كبيرة العلاقة بين الولايات المتحدة والصين خلال الفترة المتبقية لها. أما بالنسبة إلى الفريق الجمهوري القادم، فلدى بكين دوافع للقلق، سواء بسبب خطاب الحملة الانتخابية أو بسبب الشخصيات التي رشحها ترمب للمناصب الرئيسة في حكومته.

محنة بوتين

إن تفاصيل “خطة السلام” التي وضعها ترمب لأوكرانيا شحيحة جداً، ولم يدل كبار المسؤولين الروس إلا بتعليقات محدودة حول احتمال تنفيذها، ولكن حتى قبل الدخول في محادثة رسمية مع ترمب، يحتاج الكرملين إلى تجاوز الأسابيع القليلة المقبلة التي يعدها من أخطر فترات الحرب في أوكرانيا.

بعد ما يقارب عام من المداولات المؤلمة، أعطت إدارة بايدن المنتهية ولايتها أخيراً الإذن لكييف باستخدام أسلحة بعيدة المدى تنتجها دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي، بما في ذلك صواريخ “أتاكمز” (ATACMS) الأميركية الصنع وصواريخ “ستورم شادو” (Storm Shadow) البريطانية، ضد أهداف عسكرية داخل الأراضي الروسية المعترف بها دولياً. في الـ19 من نوفمبر، تعرض مستودع أسلحة روسي في منطقة بريانسك في البلاد لقصف زعمت وزارة الدفاع الروسية أنه نفذ بصاروخ “أتاكمز”، وبعد يومين قصف مركز قيادة يعتقد أنه كان يستضيف جنرالات من كوريا الشمالية بصواريخ “ستورم شادو” في منطقة كورسك الروسية.

هذه النكسات، مهما كانت مؤلمة بالنسبة إلى الروس، لن يكون لها تأثير كبير في مسار القتال. فروسيا تحقق تدريجاً مزيداً من التقدم على الجبهة الشرقية. وما يقلق الكرملين هو تجاهل الغرب الواضح للخطوط الحمراء التي أعلنتها موسكو وللردع النووي الروسي. لقد قال بوتين في مناسباًت عديدة إن أوكرانيا لا تستطيع استخدام أنظمة مثل “أتاكمز” و”ستورم شادو” من دون دعم فني كبير من عناصر حلف شمال الأطلسي، بالتالي، من وجهة نظر الكرملين، فإن استخدام الأوكرانيين لها هو بمثابة عدوان مباشر من التحالف الغربي على روسيا. وقد أدت خطوات الغرب المنضبطة والمنظمة لاختبار الخطوط الحمراء الروسية إلى إجبار الكرملين على التعايش مع ضربات الناتو على أهداف روسية في الأراضي الأوكرانية المحتلة، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، من دون أي تصعيد انتقامي كبير يتجاوز مجرد شن الضربات على أوكرانيا، وأعمال التخريب في الغرب، وتقديم الدعم العسكري المحدود للجهات الفاعلة المارقة مثل الحوثيين في اليمن أو كوريا الشمالية، لكن الضربات على أهداف داخل الحدود الروسية مسألة مختلفة تماماً، ومن منظور الكرملين، يجب وقفها عاجلاً وليس آجلاً.

في حين يمتلك بوتين أسباباً تدفعه للتفاؤل في شأن ترمب، يبدو أن شي يواجه مخاوف كثيرة

رداً على هذا العدوان الغربي المزعوم، عدلت روسيا في الـ19 من نوفمبر عقيدتها النووية وخفضت بصورة كبيرة العتبة اللازمة لاستخدام الأسلحة النووية، وتمهد الطريق لضربات نووية ضد دول غير نووية (مثل أوكرانيا) تشن هجمات بأسلحة تقليدية بعيدة المدى بدعم من دولة نووية. ومن أجل تعزيز هذه التهديدات اللفظية، التي لم يول الغرب أهمية كبيرة لها، أطلقت روسيا في الـ21 من نوفمبر صاروخاً قادراً على حمل رؤوس نووية على مصنع عسكري في دنيبرو. وبالاستناد إلى الانفجارات الطفيفة نسبياً، يبدو أن الصاروخ كان بلا حمولة تقريباً، مما يعني أن عملية الإطلاق كانت في الأساس إشارة سياسية لإظهار قدرة الكرملين واستعداده للتصعيد.

من وجهة نظر موسكو، عادت الكرة الآن إلى ملعب واشنطن. وقد حذر بوتين بصورة صريحة قادة الغرب من أن أي خطوات تصعيدية، مثل ضربات جديدة داخل روسيا أو إرسال قوات إلى أوكرانيا، ستقابل بضربات انتقامية على أهداف دقيقة ومحددة. ومن خلال القيام بذلك، يأمل بوتين في استقرار الوضع إلى أن يفتح تنصيب ترمب نافذة جديدة للتفاوض على إنهاء الصراع بصورة تصب في مصلحة الكرملين.

في الواقع، الكرملين على دراية بأن تحركات إدارة بايدن الأخيرة، بما في ذلك رفع القيود المفروضة على الأسلحة المقدمة إلى أوكرانيا، تعزز نفوذ واشنطن في أي مناقشات مستقبلية. ولهذا السبب فإن موسكو تتصدى بشدة للتصعيداًت الأكثر خطورة في حين أنها لا ترد على تلك التي تعدها أقل أهمية، مثل العقوبات الجديدة على النظام المالي الروسي التي كشفت عنها إدارة بايدن في الـ21 من نوفمبر، أو قرار واشنطن بتزويد القوات المسلحة الأوكرانية بالألغام الأرضية.

وبمجرد أن تنتهي الفترة الانتقالية بين بايدن وترمب، ينبغي ألا يتوقع الكرملين أن التعامل مع ترمب في ولايته الثانية سيكون أمراً سهلاً. فالأفكار المتعلقة بإنهاء الحرب التي طرحها بعض أعضاء فريق الأمن القومي الخاص بترمب، بمن في ذلك جي دي فانس، نائب الرئيس الجديد، وكيث كيلوغ، الموفد الخاص لترمب إلى أوكرانيا، تتضمن وقف إطلاق النار على طول خطوط التماس الحالية في أوكرانيا وتجميد طويل الأمد لانضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي مقابل ضمانات لبقاء أوكرانيا دولة مستقلة (حتى لو لم تكن ضمن حدود عام 1991).

قد يبدو هذا مواتياً لموسكو، ولكن لا شيء يشير في هذه المرحلة إلى أن بوتين مستعد للتراجع عن أهدافه الأصلية الأكثر تطرفاً، المتمثلة على حد تعبيره في “نزع السلاح واجتثاث النازية من أوكرانيا”، وهو ما يعني في نهاية المطاف تغيير النظام في كييف ومنح موسكو حق النقض الدائم على السياسة الخارجية لأوكرانيا. سيكون الكرملين سعيداً بتحقيق هذه الأهداف على طاولة المفاوضات، ولكن إذا لم يتمكن من تأمين الشرط المسبق الأكثر أهمية، وهو إلغاء الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، فإن الزعيم الروسي سيستمر في القتال، على أمل أنه في حرب الاستنزاف، سيكون الوقت في صالح روسيا، وأن نفاد مخزونات الأسلحة الغربية والتردد في التصعيد سيحدان من قدرة ترمب على مساعدة أوكرانيا.

المتشددون الجدد تجاه الصين

خلافاً لبوتين، لدى شي أسباب عديدة تجعله يتوقع أن تكون فترة الانتقال بين بايدن وترمب فترة هدوء نسبي في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة. ومع ذلك قد يصبح الوضع محفوفاً بالأخطار بالنسبة إلى بكين بمجرد أن يتولى ترمب منصبه.

في السنوات الأخيرة، بذلت بكين وواشنطن جهوداً كبيرة للحفاظ على علاقة مستقرة ويمكن التنبؤ بها. وباستخدام عديد من قنوات الاتصال، بما في ذلك الاتصالات المنتظمة بين جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي ووانغ يي وزير الخارجية الصيني، تمكنت بكين وواشنطن من تجاوز الانتخابات الرئاسية في تايوان التي جرت في يناير (كانون الثاني)، وتجنبتا إلى حد كبير الحروب التجارية وحروب ضوابط التصدير المزعزعة للاستقرار، وخفضتا درجة التوترات في بؤر الصراع المحتملة إذ يمكن أن تندلع مواجهة عسكرية، بما في ذلك مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي.

وقد أكد الاجتماع الأخير بين بايدن وشي في نوفمبر نيتهما تمديد هذا النهج حتى الـ20 من يناير. وفي الثاني من ديسمبر (كانون الأول)، بعدما أعلنت إدارة بايدن الموشكة على تسليم السلطة عن مجموعة من التدابير الجديدة لضبط الصادرات، تستهدف قطاع صناعة الرقائق الصينية، ردت بكين على الفور بحظر على تصدير عدة معادن حيوية إلى الولايات المتحدة، بما في ذلك الغاليوم والغرمانيوم والأنتيمون، لكن هذه التحركات كانت معدة منذ فترة، ولم تأتِ كمفاجأة. في الوقت الحالي، لدى الجانبين أسباب تدفعهما للحفاظ على الهدوء وممارسة ضبط النفس. فبايدن يتعامل مع الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، والصين ليست في حالة تسمح لها بالسعي إلى مواجهة غير ضرورية في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية.

مع ذلك في حين يمتلك بوتين أسباباً تدفعه للتفاؤل في شأن ترمب، يبدو أن شي يواجه مخاوف كثيرة. خلال الولاية الأولى، بدأ ترمب حرباً تجارية مع الصين، واستهدف عملاق التكنولوجيا الصيني “هواوي” بعقوبات وحملة ضغط لإزالة معداتها من شبكات الحلفاء، وعزز الأصول العسكرية والشراكات الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وأطلق حرباً دعائية حول جائحة كورونا. بالنسبة إلى شي، قد تبدو الأمور أسوأ هذه المرة. ففي عام 2016، كان مسار نمو الاقتصاد الصيني أقوى بكثير مما هو عليه الآن، في حين كان الاقتصاد الأميركي ضعيفاً. أما اليوم، فقد انقلبت الموازين، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى سياسات شي الاقتصادية خلال العقد الماضي.

ثم هناك فريق خبراء الأمن القومي والتجارة الذي يشكله ترمب. إن معظم كبار المسؤولين الذين رشحوا حتى الآن معروفون بمواقفهم المتشددة تجاه الصين، ويدعون إلى زيادة الإنفاق الدفاعي لمواجهة بكين، إضافة إلى فرض تعريفات جمركية عقابية، وقيود إضافية على الصادرات، وتقديم الدعم لتايوان. ولزيادة الأمور تعقيداً، فإن معظم كبار المسؤولين الجدد في إدارة ترمب إما غير معروفين في الصين أو لم يزوروا البلاد منذ سنوات، وأمضوا وقتاً في تايوان بدلاً من ذلك. وعلى نحو مماثل، فإن فريق شي الحالي، بخاصة كبار مساعديه في الشؤون الاقتصادية، ليسوا معروفين بصورة جيد في واشنطن. منذ عام 2022، أحاط شي نفسه بأشخاص لا يتمتعون بحضور قوي نسبياً على الساحة الدولية، ولا يتحدثون الإنجليزية، وكانوا في الغالب بعيدين من التواصل مع واشنطن منذ ترقيتهم إلى المكتب السياسي، بمن في ذلك تساي تشي، كبير موظفيه، وهي ليفينغ، نائب رئيس الوزراء. إذا كانت الولاية الأولى لترمب غنية بقنوات غير رسمية بين الصين والولايات المتحدة، فإن أمل الصين الأكبر تحت إدارة ترمب الثانية قد يكون إيلون ماسك، الذي لديه مصالح تجارية متعددة في الصين، وتمتلك شركته للسيارات الكهربائية، تيسلا، مصنعاً في شنغهاي، في الأقل طالما أنه يحافظ على علاقة جيدة مع الرئيس الأميركي.

لا عودة إلى سياسية كيسنجر

في ظل كل هذا الغموض الذي ستجلبه ولاية ترمب الثانية، آخر ما يقلق بوتين وشي هو قدرة واشنطن على خلق انقسام حقيقي بين بلديهما، على رغم وعود ترمب بفعل ذلك خلال حملته الانتخابية.

أولاً وقبل كل شيء، ما زال من غير المؤكد ما إذا كان ترمب يستطيع التفاوض على اتفاق في شأن أوكرانيا يرضي بوتين. إذا لم تعالج مخاوف الكرملين الأساسية، فقد تستمر موسكو في القتال، وستظل خطة تحسين العلاقات مع الكرملين على حساب بكين غير مؤكدة. وحتى إذا توصلت كل الأطراف إلى اتفاق في شأن أوكرانيا وخفف ترمب العقوبات الأميركية على روسيا، فإن التأثيرات الضارة المحيطة بالاقتصاد الروسي لن تتبدد على الفور. وتأمين تدفقات نقدية إضافية لموسكو سيحتاج إلى موافقة أوروبية، وهو أمر غير مضمون إطلاقاً، إذ إن عواصم عديدة لا تزال متشككة تجاه روسيا بوتين ولا ترغب في العودة إلى حقبة التبعية الاقتصادية التي سادت قبل الحرب.

في الحقيقة، أصبحت روسيا تعتمد بصورة كبيرة على الصين اقتصادياً، فخلال العامين الماضيين كانت نسبة 40 في المئة من الواردات الروسية تأتي من الصين، و30 في المئة من الصادرات الروسية تذهب إلى هناك. وهذا الاعتماد على بكين يزداد عمقاً، ولا يمكن تغييره بين عشية وضحاها. فإلغاؤه يتطلب أيضاً جهوداً منسقة بين الأميركيين والأوروبيين من أجل زيادة التجارة الثنائية مع روسيا، وهو أمر يصعب تصوره في ظل إدارة ترمب.

أخيراً، يدرك بوتين وشي أن هذه ستكون ولاية ترمب الأخيرة، وأنه من السهل أن يتبعه رئيس قد يلغي أي اتفاق توصل إليه تحت إدارة الرئيس الجمهوري. وعلى النقيض من ذلك، يخطط كل من شي وبوتين للبقاء في السلطة إلى ما بعد عام 2029، أي بعد أن تنتهي فترة ولاية ترمب. وبعيداً من العلاقة الشخصية بين الزعيمين المستبدين، فإن شعور انعدام الثقة الذي يتشاركانه تجاه واشنطن وآمالهما في أن يصبحا أكثر قوة في نظام عالمي متعدد الأقطاب، ينشأ على حساب الولايات المتحدة، من المحتمل أن يوفر أساساً قوياً بما يكفي للحفاظ على الشراكة الصينية الروسية مستقرة ومتنامية.

 

ألكسندر غابويف مدير مركز “كارنيغي روسيا أوراسيا” في برلين.

مترجم عن “فورين أفيرز”، 6 ديسمبر 2024

نقلاً عن : اندبندنت عربية