كان خطاب محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوات “الدعم السريع” الذي أذاعه في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري مما ملأ السودان وشغل الناس في الأسبوع الماضي. وكان توقيت الخطاب بعد خسارة “الدعم السريع” لعدد من المواقع لمصلحة القوات المسلحة وهجومها العاصف الذي لم يترك أحداً، مما أوحى لبعضهم بأن “حميدتي” كمَن رأى نذر الهزيمة فأقلقت مضجعه، وهذا إبعاد في النجعة مع ذلك. وأخذ هجومه على مصر التي حمّلها الضربات القاصمة له في المواقع التي خسرها حيزاً كبيراً. وبدا من بعض الكاتبين في إثر خطابه، أنهم على خطته صادرين عن مواقف تاريخية ناقدة للسياسة المصرية في السودان لا على بينة تحققهم من نبأ اشتراك مصر الفعلي في الحرب، كما زعم “حميدتي”. وعموماً استحسن آخرون أنه خرج في خطابه بسليقته، فقال ما بخاطره بعيداً من النصوص التي كان يرصصها له مستشاروه. وساقته هذه السليقة ربما إلى ما ودّ بآخرة لو تجنبه. فأخذ عليه كثيرون إعلانه العداء لشعب الشايقية من سكان النيل الشمالي، وكل جريرتهم خروج بعض “الكيزان” الإسلاميين من وسطهم. ولم يطرأ لأحد مؤاخذته بعد على تهوينه من المرأة بما لا يليق بمقاتل من أجل نظام مدني ديمقراطي يكفل لها المواطنة على قدم المساواة، فقال عن خصم ذكره إنه “يرقص كالفتاة” وقال عن آخر إنه “ود مرة”.

وحظي حديثه عن الاتفاق الإطاري الذي وقعه الجيش و”الدعم السريع” و”قوى الحرية والتغيير” في ديسمبر (كانون الأول) 2022، بأكثر التعليق. فذكر فيه بروز بعض قادة “الكيزان” على الساحة السياسية خلال الأيام الماضية ليستنكر ذلك من المجتمع الدولي وأميركا بالذات. فقال إن هذا المجتمع لو أراد أصلاً العودة بـ”الكيزان” لمسرح السياسة كما نرى، فلماذا جاء بالاتفاق الإطاري الذي دمر بلدنا؟. فـ”الإطاري”، على حد قوله، هو سبب الحرب، وزاد أنه لم يرفض الاتفاق في يومه وقبله كمرحلة انتقالية ولكنه كان يعرف أن فيه “حاجات” سألهم عرضها على المجتمع الدولي، وما اعتبروها. وقال إنه حدّث ممثلي هذا المجتمع بأن ذلك الاتفاق لن يتحقق. وسأل لماذا أنشأتموه؟ هل لتدمروا السودان؟ أليس كذلك؟، حسناً. ثم عاد للهجوم على الإطاري في نهايات خطابه. فحمّل المجتمع الدولي مسؤولية خراب السودان، وكان سبق أن قال لهم إن “الإطاري سيدخل البلد في مشكلات حرب” على رؤوس الأشهاد.

الطرف الثالث

كان وقع الهجوم على “الإطاري” ثقيلاً على تنسيقية القوى المدنية والديمقراطية “تقدم” التي كانت هي الطرف الثالث في التوقيع على ذلك الاتفاق، وظلت تزكيه كالبلسم الشافي المنتظر لأزمة السودان بعد انقلاب العسكريين على الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2021 لولا أن الكيزان كانوا قد بيتوا النية على تخريبه حرباً ليعودوا إلى الحكم بعد إجلائهم منه بعد ثورة ديسمبر 2018. ولا ريب أن تحرجت “تقدم” من هذا التوزير بالحرب يأتيها من مأمن. وأمسك أحمد طه، الإعلامي بشبكة “الجزيرة” بزمام هذه الحرج حين قال لبكري الجاك، المتحدث الرسمي لـ”تقدم” على برنامجه، باجتماع طرفي الحرب على تحميل “الإطاري” وزر الحرب. فكان ذلك رأي الإسلاميين فيه وها هو “حميدتي” يتفق معهم.  

صرف بعض أهل “تقدم”، نكير “حميدتي” على “الإطاري”، بالإتيان بأحاديث سبقت له، لم يرَ فيها بـ”الإطاري” ما رآه الآن، فجاؤوا بفيديو له قبل التوقيع على “الإطاري” اتفق فيه معه جملة وتفصيلاً. فقال إنه هو المخرج من الأزمة السياسية التي تأخذ بخناق البلد وتكاد تعصف به بددا. وقال إن من وراء “الإطاري” جماعة قليلة كتبته في قالب جاهز في ورقة كتلك (وعرض ورقة على المستمعين) فيها ثمان أو تسع فقرات. وقال إنه سألهم إن كان كلامكم ذلك “بيبقى” أي يصير. فأكدوا له أنه صائر. فسألهم إن كانوا سينطون منه فقالوا لا. وسألهم إن كانوا سيرجعون عنه فقالوا لا. فقال لهم بسم الله الرحمن الرحيم ومن هنا ولقدام. وقال للمستمعين إن ذلك الاتفاق مخرج البلد فتمسكوا به، لا رجعة منه والمجتمع الدولي كله واقف معه.

وإذا كان ثمة درس من المبارزة بنصوص “حميدتي” هذه، فهو أنها ربما صح تجاهلها كبينة على رأيه في “الإطاري” إيجاباً وسلباً. وإن كان غريباً أن يبدو “حميدتي” حتى في النص الذي جاء به أهل “تقدم”، كبينة على موافقته على “الإطاري” متشككاً في سداده، أو أنه سيقطع بنا المسافة إلى بر السلامة من الأزمة السياسية. فكرر قوله لقوى الحرية والتغيير (قحت) إن الإطاري “حيبقى” أي سيجد طريقه للتنفيذ، وأنهم على قلب راجل واحد خلفه. وربما صدق هنا في قوله في خطابه الأخير إنه حذر من الاتفاق الإطاري حتى وجد من طمأنه على أنه اتفاق سديد وسينزل برداً وسلاماً على السودان. وسيتعين علينا أن نعرف ما هي تلك “الحاجات” التي ذكر في حديثه الأخير والتي قال إنه كان يقولها لـ “قحت” وممثلي المجتمع الدولي وتغاضوا عنها. فواضح من النص القديم الذي جاء به أهل “تقدم” لإفحامه، أنه كان قابلاً بالاتفاق باكراً فما دهاه، أنه كان في نفس “حميدتي” شيء حتى من الإطاري.   

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اعتراض تقدم

واتفق كل من بكري الجاك ورشا عوض، المتحدثة الرسمية السابقة باسم “تقدم” على أن تذنيب “تقدم” بإشعال الحرب على ضوء هجوم “حميدتي” الأخير عليه، قول مرسل. فاستنكرت رشا أن كيف لجهة مثل “تقدم” أن تشعل حرباً وهي بلا جيش في حين أن للكيزان جيشاً؟. وتساءلت عن أي سلطان لقوى مدنية مثلها على “الدعم السريع” حتى تأمرها بالحرب فتطيع وتشعلها؟. وسار بكري الجاك على منوال رشا نفسه في تبرئة الاتفاق الإطاري و”تقدم” من جريرة شن الحرب. فقال إن حقيقة الأمر أن الإطاري ليس جهة تعطي الأوامر بالحرب. ولكن هناك من أعطى الأوامر بالحرب. وهناك من يجيش الجيوش. وهناك من يريد للحرب أن تستمر ويقوم بالتشوين والتسليح. فأين الإطاري هنا؟، وسمى من يتهمون الإطاري أو “تقدم” بإشعال الحرب بـ”السذج الذين يبسطون الأمور”.

ويرى كل من بكري ورشا أن الحرب لا يشنها إلا من امتلك جيشاً. وزاد بكري بقوله إن الاتفاق ليس “شخصاً” و”لا جيوشاً” حتى يُتهم بإشعال الحرب. والحرب أولها كلام في قول سائر. والوثائق مثل الإطاري “كلام” إن خرج عن الفطانة جر إلى الحرب التي هي السياسة بطريق آخر. فلم تبدأ الحرب الأهلية الأميركية بتجييش الجيوش. فكانت انفجرت حول “قانون العبيد الآبقين” (1850) الذي عدل نسخته الباكرة (1793) تعديلاً أغضب الولايات الشمالية لأنه تشدد في استرجاع العبيد لأسيادهم بما فاق ما جاء في الصورة الأولى منه. وخلص بكري إلى أن هجوم “حميدتي” الأخير على “الإطاري”، شهادة براءة لـ “تقدم” التي توصف بأنها الذراع السياسية لـ”الدعم السريع”، بحسب نظريته عن استحالة أن تركب تهمة تسبيب الحرب بمَن خلا من جيش. فها هو “الدعم السريع” على خلاف معهم حول صمامة “الإطاري”. فـ”حميدتي” يراه سبباً من وراء الحرب بينما لا يرون هم رأيه. فلو كانوا تُبعاً له لما اختلفا.

بدا لي أنه لا رشا ولا بكري من أدرك أن اتفاقاً كالإطاري، مباءة خطر كبير، إن تنزل فطيراً على وضع هما من شدد على خطره. فقال بكري إنهم خرجوا بالاتفاق في “قحت” لإنهاء الأزمة التي نشأت بعد انقلاب العسكريين في أكتوبر 2021، فكان الانقلاب وصل إلى طريق مسدود لعام ونصف العام لم يتمكن خلالها من تشكيل أي حكومة، واستنكر أن يوصفوا بأنهم من أشعل الحرب وهم جماعة جاءت لتفكك تلك الأزمة. وكأن حساب من جاء إلى حل معضلة كالتي عطلت الدولة لعام ونصف العام مما يتم على فرط نبله لا حسن تدبيره. واستغربت لبكري أن يصف الإطاري بأنه “مجرد تصور مفاهيمي” لإنهاء الانقلاب العسكري في وضع سياسي ملتهب وصفه بـ”تعدد الجيوش وتعدد مراكز القيادة” وغيرها من المشكلات بإصلاح المنظومة الأمنية العسكرية. وهو الإصلاح الذي تقرر به دمج “الدعم السريع” في القوات المسلحة على مراحل متفق عليها. وهو الإصلاح نفسه، في قول رشا، الذي جرد القوات المسلحة و”الدعم السريع” من السيطرة على 80 في المئة من إيرادات النشاط الاقتصادي. ولا أعرف كيف تسمى هذه السياسات التي تعيد تشكيل الجيوش المتعددة وتحرمها من موارد استأثرت بها طويلاً دون الدولة “مجرد تصور مفاهيمي” كأننا في حلقة دراسة أكاديمية لا بصدد سياسات ستتنزل على تراكيب ومصالح قوى عسكرية متحامرة.

“حاجات” حميدتي

ليس الاتفاق الإطاري شخصاً وليست لديه جيوش كما قال بكري. ونشهد لـ”قحت” أنها جاءت إليه بإملاء من نبل أرادت به فض الأزمة التي اشتهرت بأنها وضعت السودان على “شفا حفرة”. ولكن النبل ليس استراتيجية. فظل “حميدتي” مثلاً يحدثهم عن “حاجات” في الاتفاق بدا أنها لم تتفق له. كما دأب على سؤالهم إن كان اتفاقهم هذا “سيبقى”. ولم يطرأ لـ”قحت” أن تقف منه على ما كدر خاطره تجاه الاتفاق الذي كان سيمحو “الدعم السريع” من الساحة العسكرية والسياسية ولكن “على مراحل” اشتجر حلولها الخلاف من يومها الأول.

نعم كان السودان في براثن حفرة. وللحفر قانون يقول إذا وجدت نفسك في واحدة منها فتوقف عن الحفر. إلا إن “قحت” باتفاقها الإطاري واصلت الحفر.

نقلاً عن : اندبندنت عربية