لم يعد ملف الصحراء مجال التنافس السياسي الوحيد بين البلدين الجارين، المغرب والجزائر، وما تبعه من مواجهة محمومة في إبرام كل طرف كثيراً من الصفقات العسكرية، بل امتد التنافس إلى دول الساحل التي صارت منطقة جاذبة للبلدين معاً.

وإذا كانت الجزائر تعتبر منطقة الساحل بمثابة “حديقة خلفية” بالنظر إلى نقط التماس الجغرافي والتهديدات الأمنية المتنامية، فإن المغرب يرى في الساحل الأفريقي فرصة لتعزيز علاقاته مع هذه الدول من خلال فتح نافذة لها على المحيط الأطلسي، من أجل تنمية اقتصاداتها وتطوير مجتمعاتها، في سياق مبدأ “رابح رابح”.

ويرى محللون أن منطقة الساحل الأفريقي، من النيجر وتشاد وبوركينافاسو ومالي وموريتانيا أيضاً، تحولت إلى مسرح للتنافس بين المغرب والجزائر، في خضم وجود لاعبين دوليين آخرين على رأسهم روسيا والصين، فضلاً عن فرنسا، باعتبار أن هذه المنطقة تمثل بوابة استراتيجية لمد النفوذ السياسي والاقتصادي، علاوة على أنها تزخر بالموارد الطبيعية مثل اليورانيوم والذهب.

ملامح التنافس

ويرى كل من المغرب والجزائر منطقة الساحل الأفريقي بمنظاره الخاص الذي يلائم سياسته الخارجية ودبلوماسيته في القارة السمراء، بغية تحقيق كل طرف أقصى حد ممكن من المكاسب السياسية والاقتصادية والأمنية.

بالنسبة إلى الجزائر ما فتئت تحتل طوال عقود مضت مركزاً محورياً في العلاقات مع بلدان منطقة الساحل، وكانت أحد رواد ومؤسسي مبادرة الشراكة الجديدة لتنمية أفريقيا “نيباد” التي لم يحالفها النجاح التام لأسباب مختلفة.

وتنظر الجزائر إلى منطقة الساحل على أنها منشأ تهديدات أمنية بسبب الجماعات المسلحة والمتشددة، لذلك فهي حريصة على مواجهة هذه الأخطار التي تقف على باب البلاد بكثير من الحيطة والحذر، وإرساء علاقات وثيقة مع دول الساحل، والمساهمة في وساطات دبلوماسية لحل الأزمات السياسية كما حصل مع النيجر.

من جانب المغرب، فهو ينحو أكثر إلى ما هو اقتصادي، مما دفع مراقبين وتقارير سياسية دولية إلى تسمية دبلوماسية الرباط في منطقة الساحل بكونها “قوة ناعمة” بخلاف “القوة الصلبة” للجارة الجزائر.

ويراهن المغرب على جذب دول الساحل الأفريقي إلى صفه، ومن ثم كسب تأييد أطروحة “الحكم الذاتي” كحل سياسي لنزاع الصحراء، من خلال “المبادرة الأطلسية” التي أعلن عنها الملك محمد السادس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، والتي تروم فسح المجال لبلدان الساحل للانفتاح على المحيط الأطلسي، لا سيما عبر ميناء مدينة الداخلة الضخم بالصحراء، والاستفادة من الفرص الاقتصادية المتوفرة لتطوير اقتصادات هذه البلدان تحت شعار “تعاون جنوب جنوب”، وفي سياق دبلوماسية “رابح رابح”.

مكامن القصور

هذه التنافسية المحمومة بين المغرب والجزائر لضمان موطئ قدم في منطقة الساحل الأفريقي، أفردت لها مجلة “جون أفريك” الفرنسية تقريراً حديثاً مفصلاً، أسهبت من خلاله في إبراز ملامح هذا الصراع “غير المعلن” بين البلدين الجارين على “كعكة” الساحل الأفريقي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المجلة نبهت إلى مكامن القصور في علاقات كل من المغرب والجزائر مع دول الساحل الأفريقي، إذ يعاني البلدان معاً عدم تحقيق تطلعات ساحل الصحراء الكبرى، حيث لا تزال مشاريع خطوط أنابيب الغاز بين نيجيريا والجزائر، ونيجيريا والمغرب، محط استشارات ومحادثات، ولم تتحقق بعد على أرض الواقع لاعتبارات موضوعية كثيرة، على رغم تقدم أنبوب الغاز المغربي النيجيري على غيره.

وخلص التقرير نفسه إلى أن دول الساحل الأفريقي بالمقابل تنتظر من المغرب والجزائر معاً تنفيذ خطوات حاسمة وملموسة، فمن الجزائر وضوحاً وشراكة أكثر إنصافاً، ومن المغرب تنزيل مبادراته المعلنة على أرض الواقع.

سياسة واقتصاد وأمن

وتعليقاً على هذا الموضوع، قال أستاذ العلاقات الدولية في جامعة فاس، سعيد الصديقي، إن الأهمية الجيوسياسية لمنطقة الساحل الأفريقي هي التي تفسر تنافس المغرب والجزائر، وأيضاً عدد من القوى الدولية، على ضمان النفوذ فيها، وذلك لاعتبارات سياسية واقتصادية وأمنية.

على المستوى السياسي، وفقاً للصديقي، الدولة التي تحظى بحضور أكبر في هذه المنطقة تعزز مكانتها الإقليمية في شمال أفريقيا، كما ترسخ أيضاً موقعها التفاوضي مع القوى الدولية التي أصبحت تعطي اهتماماً متزايداً لهذه المنطقة مع التراجع الكبير للنفوذ الفرنسي، وسعي أميركا إلى احتواء طموحات كل من الصين وروسيا في المنطقة.

ولفت المحلل نفسه إلى أن التحولات السياسية في بعض هذه البلدان التي شهدت انقلابات عسكرية خلال الأعوام الأخيرة، زادت من فرص المغرب والجزائر لتقوية نفوذهما، لكنها شكلت في الآن ذاته تحدياً للبلدين الجارين، غير أن هذه التحولات تميل أكثر لصالح المغرب، بخاصة في مالي والنيجر المحاذيتين للجزائر.

واستطرد الصديقي بأنه على المستوى الاقتصادي، إضافة إلى ما تزخر به هذه المنطقة من موارد طبيعية مهمة، فإنها تمثل أيضاً مجالاً واعداً للاستثمارات سواء في استغلال الثروات الطبيعية أو تطوير البنى التحتية الكبرى بخاصة الطرق والموانئ والمطارات.

وأما على المستوى الأمني، يتابع المتحدث، فإن “المنطقة أصبحت منذ عقود ممراً للجماعات المسلحة، وتجارة المخدرات والأسلحة، وتهريب البشر، وهذه المخاوف تشكل تحديات أمنية حقيقية للبلدين معاً، علاوة على التداعيات الأمنية لعدم الاستقرار السياسي في بعض دول المنطقة التي لها آثار في البلدين، مما يدفعهما إلى محاولة الانخراط في الديناميات السياسية لهذه الدول”.

قوة صلبة وقوة ناعمة

من جهته يرى الباحث في العلاقات الدولية مولاي هشام معتضد أن منطقة الساحل الأفريقي تعد مسرحاً حيوياً للتنافس الإقليمي بين المغرب والجزائر، بهدف تعزيز حضورهما في المنطقة لضمان مصالحهما الوطنية وتقوية أدوارهما الإقليمية.

ويشرح معتضد أن “المغرب يُركز في تحركاته على أدوات القوة الناعمة، إذ يهدف إلى بناء علاقات دبلوماسية متينة مع دول الساحل عبر دعم التنمية الاقتصادية وتعزيز التعاون في مجالات عدة، مثل التعليم والتدريب الديني”، موضحاً أن “الرباط تُقدم نفسها كشريك موثوق ومستقر، وتسعى إلى تقديم نموذج بديل يقوم على التنمية المستدامة ومكافحة التطرف الديني، وهو ما جعلها تحظى بقبول واسع في بعض دول المنطقة، مثل مالي والنيجر”.

في المقابل، يتابع معتضد، “تعتمد الجزائر على مقاربة أمنية صلبة، إذ تستغل موقعها الجغرافي الذي يحد دول الساحل من الشمال لتعزيز حضورها العسكري والاستخباراتي في المنطقة. فهي تحتاج إلى تأمين حدودها الممتدة مع دول الساحل، ومواجهة التهديدات الإرهابية، كما تسعى إلى تعزيز مكانتها الإقليمية عبر تقديم نفسها كقوة تقليدية قادرة على استيعاب وتحليل تعقيدات المنطقة، مستندة إلى علاقاتها التاريخية مع حركات التحرر في أفريقيا”.

وعلى رغم التباين في الاستراتيجيات، يبرز التنافس بين البلدين في محاولة استقطاب دول الساحل إلى محاور النفوذ الخاصة بكل منهما، إذ يمثل التنافس المغربي الجزائري في الساحل الأفريقي جزءاً من صراع أوسع على قيادة المنطقة المغاربية وتوسيع نطاق التأثير في القارة الأفريقية، بحسب معتضد.

وخلص المحلل إلى أن هذا التنافس بين المغرب والجزائر لا يعكس فقط صراعاً جيوسياسياً بين الجارين، بل يكشف أيضاً عن أبعاد اقتصادية وأمنية أعمق تجعل من الساحل الأفريقي محوراً رئيساً في السياسات الخارجية لكلا البلدين.

آليات دبلوماسية

وإذا كان المغرب يراهن على “المبادرة الأطلسية” فإن الجزائر لا تزال تصبو إلى العودة بقوة إلى القارة السمراء، وتحديداً تثبيت حضورها في منطقة الساحل، عبر حشد آليات دبلوماسية ضخمة وإحداث مناصب رسمية وموازنة مالية تتجاوز مليار دولار للاستثمار في القارة.

وفي السياق سبق للرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون أن عبر في اجتماع لـ”نيباد” التمسك بتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والتكامل القاري الأفريقي، مذكراً بالمشاريع المهيكلة الكبرى ذات البعد القاري التي أطلقتها الجزائر، منها الطريق العابر للصحراء الذي يربط بين ست دول أفريقية، والذي يهدف إلى فك العزلة عن دول الساحل الأفريقي.

التنافس المغربي الجزائري على منطقة الساحل يراه المتخصص في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة ورقلة مبروك كاهي في تصريحات صحافية سابقة، “تنافساً لا يخلو من تداعيات على مستقبل العلاقات بين البلدين ونظرتهما إلى مشكلات المنطقة، حيث يُوظف في خدمة المصالح الشخصية لكل بلد”.

وتبعاً لكاهي، “المغرب يعمل على تحويل هذا التنافس لخدمة أغراضه السياسية وتعزيز موقفه ورؤيته من نزاع الصحراء، وهو ما تجلى في أزمة معبر الكركرات الذي يعد الطريق الوحيد الذي يصل المغرب بأفريقيا، بينما الجزائر تركز حالياً على تحويل التنافس من أجل دعم استقرار المنطقة وتنمية دول الساحل الأفريقي”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية