اسمها جويس منصور. حملت الجنسية البريطانية لأنها ولدت هناك. والداها المصريان عادا بها طفلة إلى مصر حيث ترعرعت وتلقت دروسها الابتدائية، لكن في مدارس “الخواجات”، قبل أن ترتحل صبية إلى باريس لأن لغة نطقها وكتابتها كانت فرنسية وكانت قد تعلمت الكتابة بالفرنسية منذ وقت مبكر وكانت تحلم بأن تكون يوماً كاتبة فرنسية، لكنها في باريس عانت كثيراً قبل أن تجد لنفسها مكاناً… كشاعرة. فالشعر، بما فيه الشعر السوريالي الذي كان على الموضة استهواها تماماً حتى وإن كان قد ولد على يد بريتون وأراغون وبول أيلوار وغيرهم، قبل ولادتها بأربعة أعوام.
وكان حين بدأت تمارسه يعيش احتضاراً ما بعد تألق. فالسوريالية ولدت في عام 1924 وجويس ولدت في عام 1928 وهي كانت بالكاد خرجت من سن المراهقة بعدما وصلت العاصمة الفرنسية لتعيش حراكها الثقافي بكل حماسة في تلك الأعوام التي كانت تصخب بين الحرب والسياسة والصراعات الفكرية والمعارك الدامية… ففي خضم ذلك كله كانت ثمة أشياء جديدة تولد في الحياة الثقافية الفرنسية على وجه الخصوص، كما كانت ثمة أشياء كثيرة تولد.
ومن هنا لم تكن جويس منصور مغالية حين عندت وأصدرت مجموعتها الشعرية الأولى بعنوان “صرخات”. وهي في تلك المجموعة نشرت تلك القصيدة الأولى التي عرفت لها في باريس ومطلعها “لا تأكلوا أطفال الآخرين!” التي كان لا بد لها من أن تلفت نظر أندريه بريتون. ترى ألم يكن مؤسس التيار السوريالي قد عين نفسه سيد السورياليين من دون منازع وأعطى لتلك النفس الحق المطلق في تعيين هذا السوريالي شاعراً أو نزع الصفة عمن يخالف رأيه؟ كان بريتون يتعامل مع كل من يطلب دخول مملكته الشعرية أو الفنية كواحد من رعاياه. والحقيقة أن جويس منصور كانت محظوظة إذ نالت الحظوة لدى ذلك السيد المستبد.
جزء من جماعة “مصرية”
ربما يمكن أن نخمن هنا أن جويس كانت حسناء ونعرف أن بريتون كان الحسن يستهويه، لكن هذا التخمين ليس دقيقاً. فهي لم تكن ذات حسن تشهد على ذلك صورها القليلة التي وصلتنا، وربما أيضاً إشارتها هي نفسها إلى ذلك في ثنايا قصائدها ولا سيما منها تلك التي نشرت في مجموعتيها الأوليين “صرخات” و”تمزقات”، والاثنتان صدرتا تباعاً عامي 1952 و1953 ليخفت من بعدهما صوت الشاعرة وتنتكس عنها الأضواء التي كانت قد أهلتها قبل ذلك كي تكون ذات شأن إعلامي كبير في عالم الشعر الفرنسي.
والحقيقة أن شعرها الذي يمكن أن نقرأه اليوم ولا سيما في تينك المجموعتين الأوليين، كان من شأنه أن يؤهلها لذلك الشأن، ولذا يبقى اختفاؤها وحتى عام 1987 واحداً من ألغاز الحياة الأدبية الفرنسية. هي التي رحلت في ذلك العام منسية في فرنسا كما في بلدها الأصلي مصر الذي راحت خلال حقبة وسيطة من حياتها تمد له يديها وتعلن فرحها بانتمائها إليه. وكذلك كانت منسية في بلدها الثالث، بالولادة، إنجلترا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبدو أن ما بقي منها حين رحيلها كان قليلاً، ومنه بخاصة تلك القصيدة الأولى التي رحب بها بريتون كثيراً، بعدما كان ترحيبه الأول بجويس منصور نابعاً من كونها ظاهرة أنثوية آتية من مصر وسط رهط من سورياليين ذكور كما سنرى بعد سطور لكن بعدما نتوقف قليلاً عند القصيدة التي لفتت بريتون كما لفتت غيره ولا تزال تفعل حتى اليوم، وفيها تقول “لا تأكلوا أطفال الآخرين لأن لحمهم في أفواهكم العامرة، سيعفن/ لا تلتهموا ورود الصيف الحمراء لأن نسغها ليس سوى دم الصغار المصلوبين/ لا تمضغوا خبز الفقراء الأسود لأنه إنما اخصوصب بفضل دموعهم الأسيدية/ واتخذ جذوراً له في أجسادكم المتأهلة طولاً/ بل لا تأكلوا على الإطلاق كيلا تترهل هذه الأجساد أكثر لتقيم على هذه الأرض عزاءها خريفاً”.
المرأة لدى السورياليين
ترى من هم أولئك الذين تخاطبهم جويس منصور (1928 – 1987) في هذه القصيدة؟ من الصعب أن نجيب. فتلك الفتاة الغاضبة كانت غاضبة من كل شيء ومن كل الكائنات. كانت غاضبة من نفسها قبل أي شيء آخر. لكنها بالتأكيد وفي نزعة “نسوية” باكرة، كانت غاضبة أيضاً من رفاقها السورياليين الذين كان بريتون على أية حال يكن لهم احتراماً كبيراً بالنظر إلى أنهم كانوا، في رأيه في الأقل، الفريق الآتي من اللامكان. فهو إذ اعتاد على السورياليين يأتونه من بلدان يعرفها جيداً، فوجئ بعد أعوام قليلة من تأسيس تياره بوجود مجموعات مصرية واسعة الثقافة والمعرفة والنسوية تتواصل معه من مصر. واكتشف أنهم يكادون أن يكونوا الأكثر تسيساً (في توجه تروتسكي تحديداً سيكون في الوقت نفسه توجهه هو أيضاً!)، بين السورياليين المنتشرين في أوروبا بخاصة.
ولقد كان لافتاً بالنسبة إليه أنهم يحملون أصلاً أسماء تكاد تكون أوروبية من جورج حنين إلى هنري كورييل ورمسيس يونان وعشرات غيرهم، فيهم الشعراء وفيهم الرسامون وفيهم الحزبيون وجماعات الغضب والمدافعون عن معذبي الأرض. وهو قبل أن يلفته قلة النساء بينهم وصلته قصائد وأخبار جويس منصور فازداد ترحيبه بها ترحيباً. ولعل جويس نفسها قد التقطت باكراً فحوى تلك الأهمية الخاصة التي أسبغها المؤسس عليها من دون رفاقها الذكور السورياليين جميعاً، فلفتت النظر باكراً إلى ذلك ولا سيما حين راحت تردد كيف أن المرأة لا تحتسب حتى لدى السورياليين إلا كملحقة بالرجل، ملهمة له أو معشوقة أو أي شيء من ذلك.
أنا متشرد الليل
ولعل جويس كنوع من الإمعان في ذلك، أي في ذلك التعبير الذي يكاد يشبه الشكوى المريرة، كتبت لتنشر في مجموعتها الثانية “تمزقات”، تلك القصيدة التي وصفها كثر من المعلقين بأنها تكاد تكون “ذكورية” والتي تعلن في مقطعها بكل وضوح “في الليل لست سوى شريد” وتتابع فيها قائلة “أنا في الليل ذلك الشريد المتجول في بلد العقل المنسدل نحو قمر من أسمنت/ تتنفس روحي مستقوية بالريح وحدها/ وربما بالموسيقى الكبيرة التي يكتبها أنصاف المجانين/ أولئك الذين يمتصون قشات المعدن القمري/ والذين يطيرون ويطيرون ويطيرون قبل أن يقعوا فوق رأسي ضائعين في الفضاء/ وأنا أرقص رقصات الفراغ/ أرقص فوق صفحة جليد العظمة الأبيض/ فيما أنت خلف النافذة وقد غذاك سكر الغضب تلوث سريرك بأحلامي فيما لا تكف عن انتظاري…”.
وبقي أن نذكر هنا أن جويس منصور حتى وإن كان صوتها الشعري قد خفت منذ زواجها الثاني من المصري الفرنسي سمير منصور الذي استعارت منه اسمها -وكان اسمها الأول جويس عدس- راحت تهتم بالنشاطات الرياضية وشاركت في مباريات في العدو السريع وفي القفز العالي، لكنها في الوقت نفسه باتت جزءاً من النشاطات الثقافية واللقاءات مع المثقفين بل إن معارض سوريالية عدة راحت تقام في بيتها وسط باريس.
ولعل من أشهر تلك اللقاءات احتفال ليلي لمجد المركيز دو ساد عمد خلاله بعض المشاركين وبخاصة الرسام الكوبي روبرتو ماتا والكاتب الكندي جان بنوا، إلى حفر اسم ساد بالحديد الحامي على صدورهم! كما أن من أشهر نشاطاتها أنها في عام 1984 قدمت مع مجموعة من أشهر المبدعين مسرحية لفرجينيا وولف دعماً لمنظمة أمنستي إنترناشيونال، ومن بينهم يوجين يونيسكو وناتالي ساروت وآلان روب غريبه وجان بول أرون. وكان ذلك واحداً من نشاطاتها الأخيرة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية