على مدى الأعوام الستة الماضية وحتى الحرب الحالية المستمرة بين الجيش وقوات “الدعم السريع”، منذ أبريل (نيسان) 2023، يشهد السودان حقبة عاصفة من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتصاعد الخلافات بين المكونين المدني والعسكري، إضافة إلى الفراغ الدستوري، فبعد 69 عاماً من استقلال البلاد لم يستطع السودانيون التوافق على دستور حاكم.
وأعلن مجلس السيادة السوداني أن الفريق عبدالفتاح البرهان يعتزم تعديل “الوثيقة الدستورية”، بعدما شكل مجلس السيادة، عبر لجنة مهمتها اقتراح تعديلات على الوثيقة التي وُقع عليها في الـ17 من أغسطس (آب) 2019 بعد الاتفاق بين المجلس العسكري والقوى المدنية المكونة من ائتلاف قوى “الحرية والتغيير” الذي قاد انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018.
وقدمت التعديلات المقترحة لجنة شكلها مجلس السيادة، شملت تعيين رئيس وزراء مدني يتولى قيادة حكومة انتقالية معنية بإعادة بناء البلاد وإدارة الجانب المدني من الأزمة، إضافة إلى تعزيز عودة السودان إلى الاتحاد الأفريقي وتفعيل دور سفاراته في الخارج.
منذ التوقيع عليها كان من المفترض أن تكون “الوثيقة الدستورية” المرجعية الأساس للفترة الانتقالية لمدة 39 شهراً، على أن تقام انتخابات في نهايتها. ونصت على أن “يتألف المجلس السيادي من 11 عضواً هم ستة مدنيين وخمسة عسكريين. وستتولى شخصية عسكرية رئاسته في الأشهر الـ21 الأولى على أن تخلفها شخصية مدنية للأشهر الـ18 المتبقية”. كما نصت أيضاً على أن “يشرف المجلس على تشكيل إدارة مدنية انتقالية قوامها حكومة ومجلس تشريعي”، و”يسمي تحالف قوى الحرية والتغيير رئيس الحكومة، ويصدق المجلس السيادي على تعيينه”.
تعديل مستمر
مع الإعلان عن تعديل “الوثيقة الدستورية” برزت موجة من الجدل السياسي والقانوني في المشهد السوداني، فقد أثار هذا المقترح مخاوف متعددة تتعلق بغياب سلطة تأسيسية متخصصة بالتعديل، وفقاً لنصوصها التي تؤكد أن المجلس التشريعي (البرلمان) هو الجهة الوحيدة المخولة بذلك.
وليست هذه المرة الأولى التي تُعدل فيها “الوثيقة الدستورية”، فقد شهدت تغييراً في بعض البنود في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، بهدف تعيين رئيس للقضاء، وتضمين اتفاق جوبا للسلام الموقع عليه في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 2020. ومن أبرز التعديلات كان تشكيل مجلس جديد في البلاد تحت مسمى “مجلس شركاء الفترة الانتقالية”، يختص بالفصل في الاختلافات التي قد تنشأ بين الأطراف السياسية المختلفة. وكذلك بدء حساب الفترة الانتقالية في السودان، ليصبح من تاريخ التوقيع على اتفاق جوبا للسلام، واعتباره “جزءاً لا يتجزأ منها”.
خلال فبراير (شباط) 2023، قبل شهرين من اندلاع الحرب، اتفقت القوى السياسية السودانية على اعتماد الوثيقة الدستورية، مع اقتراح تعديلات “تتوافق مع مقتضيات الفترة الانتقالية”، وأصدروا “وثيقة التوافق السياسي” و”الوثيقة الحاكمة للفترة الانتقالية”، واتفقوا على تشكيل “تنسيقية القوى الوطنية الديمقراطية” كجسم جامع لكل الكتل والمكونات.
وسبقها في أكتوبر 2021 إعلان الفريق عبدالفتاح البرهان حال الطوارئ في السودان، وحل مجلسي السيادة والوزراء الانتقالي، وعلق العمل ببعض بنود الوثيقة الدستورية الخاصة بإدارة المرحلة الانتقالية والشراكة مع قوى الحرية والتغيير.
مشاركة عسكرية
يرى مقربون من مجلس السيادة السوداني أن التعديلات المقترحة على “الوثيقة الدستورية” يمكن أن تمثل نقطة تحول مهمة نحو مرحلة سياسية جديدة تتسم بشمولية الأطراف المختلفة. ويرون أن هذه التعديلات تتيح إعادة صياغة موازين السلطة لتشمل الحركات المسلحة والقوى السياسية.
وأشاروا إلى أن هذه التعديلات لن تمس جوهر اتفاقية جوبا للسلام، لكنها تهدف إلى إعادة النظر في هيكلية مجلسي السيادة والوزراء، وتحديد الصلاحيات بينهما. ومن المقرر أن تعرض هذه المقترحات على اجتماع مشترك بين المجلسين، بصفتهما الجهاز التشريعي الموقت وفق الوثيقة الدستورية، للنظر فيها وإقرارها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي سياق متصل كشف حاكم إقليم دارفور، رئيس “حركة تحرير السودان”، مني أركو مناوي، لوسائل الإعلام أن الحوار داخل مجلسي السيادة والوزراء في شأن التعديلات الدستورية لا يزال مستمراً. وأوضح أن لديهم “ملاحظات جوهرية” على هذه التعديلات، مؤكداً ضرورة إعادة توزيع نسب اقتسام السلطة، إذ وضع التوزيع السابق 75 في المئة من السلطة بيد المكون العسكري بعد خروج “تحالف قوى الحرية والتغيير” من الحكومة.
من جانبه دعا المرشح الرئاسي السابق، مستشار رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، حاتم السر، رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان، إلى توسيع المشاورات لتسمية رئيس وزراء توافقي مستقل وغير حزبي يتولى تشكيل الحكومة الجديدة. وأوضح السر، في تغريدة عبر منصة “إكس”، أن تأخير تشكيل الحكومة المدنية غير مبرر، مشيراً إلى “أهمية إشراف البرهان على هذه العملية، نظراً إلى الاهتمام الإقليمي والدولي بحكومة مدنية يقودها مدنيون، حتى وإن شهدت مشاركة عسكرية”.
حق التعديل
بدوره قال المحامي المعز حضرة إن “الوثيقة الدستورية لم تعد موجودة، فبعد انتفاضة ديسمبر ُتووفِق بين المكون العسكري والمكون المدني ممثلاً في قوى الحرية والتغيير على أن يؤسسوا الوثيقة الدستورية ومنها نبعت شرعيتها، لكن منذ انقلاب البرهان و’الدعم السريع‘ على النظام الدستوري القائم أصبحت لا توجد وثيقة دستورية ولا توجد أي شرعية لأي وضع دستوري، لأن الطرف الأهم (قوى الحرية والتغيير) الذي كان لديه 87 في المئة من الأصوات أصبح غير موجود ضمن الوثيقة”.
وأضاف “البرهان يتعامل من موضع القوة ويصدر قراراته من وضعه القائم في الجيش، وهي قرارات باطلة نابعة من بحثه عن الشرعية بعد تقويض النظام الدستوري، ويجب أن يحاكم على ذلك، ولا قيمة للتعديل من الناحية الشرعية والقانونية”. وتابع “حاول البرهان اكتساب شرعية دولية بزيارات إلى دول الجوار وإلى الأمم المتحدة، ومن جهة المنظمات الإقليمية فإن حكومة السودان مجمدة عضويتها لعدم شرعيتها، حسب مواثيق الاتحاد الأفريقي”.
وأوضح أنه “بعد حذف كل بنود الوثيقة فإن البرهان لا يملك حق التعديل، وهو باطل قانوناً، لأن التعديل يكون وفق إجراءات وبنود محددة في الوثيقة نفسها، وفقاً للمادة 78 في الوثيقة، والركن الأساس في هذه التعديلات والغالبية يقتضي موافقة الثلثين ويمثلها قوى الحرية والتغيير”.
ومضى في حديثه “البرهان يناور منذ انقلابه ليبقى على رأس السلطة، وهناك معسكران، معسكر الحرب يقوده البرهان والتيار الإسلامي وبقايا المؤتمر الوطني، ولديهم مصلحة حقيقية وهي العودة إلى السلطة، ولأن البرهان لا يملك حق إعادتهم فإنه يمارس الالتفاف على السلطة بواسطتهم. أما المعسكر الآخر فيقف ضد الحرب وضد شرعية البرهان، لأن الوضع الحالي بدأ يقود إلى انقسامات يمكن أن تؤدي إلى تفتيت السودان نفسه”.
وبين حضرة أنه “في ظل هذه الحرب التي أصبح لها طابع إثني وجهوي لا يمكن تأسيس دستور أو قوانين، ولن تكون هناك أجواء صالحة لدساتير أو قوانين إلا بعد إيقاف الحرب، ثم وضعها من قبل الجهة المنوطة بذلك وهي المكون المدني، فالبرهان كمؤسسة عسكرية ليس من مهامه أن يحكم ويضع القوانين أو الدساتير أو أن يعدلها”.
تشبث بالسلطة
وقال المتحدث الرسمي باسم حزب البعث العربي الاشتراكي عادل خلف الله إنه “منذ انقلاب البرهان – حميدتي على النظام الدستوري الانتقالي المستند إلى الوثيقة الدستورية القائمة على الشراكة بين المكونين المدني والعسكري، لم يعد هناك أساس دستوري يستمد منه الانقلاب شرعيته”.
وأضاف “السلطة القائمة منذ الانقلاب غير شرعية، ورفضتها القوى السياسية والاجتماعية الحية في المجتمع بمختلف تشكيلاتها وأفشلت الانقلاب قبل أن يذيع البرهان بيانه”، مؤكداً أن “الانقلاب فشل وتكالبت مكوناته على السلطة، مما قاد الأطراف الرئيسة فيه، بقايا حزب المؤتمر الوطني، وبعض قيادات الجيش و’الدعم السريع‘، إلى تفجير أوضاع البلاد وتعقيدها بإشعال الحرب المدمرة”.
وتابع المتحدث باسم حزب البعث “تلمست القوى السياسية وبعض الأحزاب نزوع العسكر إلى التشبث بالسلطة منذ التفاوض بين الحرية والتغيير والمجلس العسكري بعد تغيير وفد التفاوض وتنصل البرهان عن الاتفاق حول تكوين مجلسي السيادة والمجلس التشريعي”.
وواصل “وكما هو معلوم أن أحد الأسباب الرئيسة للانقلاب هو قرب انتقال رئاسة مجلس السيادة من البرهان إلى من يتوافق عليه المكون المدني حسب توقيتات الوثيقة الدستورية”.
ويرى خلف الله أنه “عزم البرهان على تعديل ما يطلق عليه الوثيقة الدستورية التي انقض عليها قبل أن ينتهي أجلها، يؤكد مرة أخرى ليس تشبثه بالسلطة فحسب، وإنما نزوعه إلى التفرد بها كحاكم فرد مطلق السلطات. وكل ما جرى منذ انقلاب الـ25 من أكتوبر ينطبق عليه القول (ما أسس على باطل فهو باطل)، ولن تعطي هذه التعديلات المزعومة أو ما تفرزه الحرب للانقلاب المشروعية اللازمة”.
معضلة مزدوجة
القانوني السموأل الدسوقي أكد أن “الوثيقة الدستورية تفتقر إلى المشروعية، وحتى لو افترضنا شرعيتها فمن له حق تعديلها، ومن يملك حق إجازة التعديلات. ولا بد من صدور الدستور من البرلمان أو مؤتمر دستوري يمثل كل أطياف الشعب السوداني. ولهذا فإن إصدار وثيقة جديدة لإدارة حكم البلاد في هذه المرحلة من الصعوبة بمكان، ومن الأجدى مراعاة وضع الترتيبات لما بعد الحرب، لا سيما في ظل تلاطم المصالح السياسية الذي يحول دون استكمال المسيرة نحو تحقيق الاستقرار والتحول الديمقراطي المنشود”.
وقال إن “الأزمة المرتبطة بالوثيقة الدستورية ليست مجرد صراع حول نصوص قانونية، بل هي انعكاس عميق للتجاذبات السياسية التي تعوق تحقيق أهداف انتفاضة ديسمبر. فالتوافق بين المكونين المدني والعسكري لم يتحقق، مما أدى إلى تآكل الثقة بين الأطراف الفاعلة وتفاقم حالة الانسداد السياسي”.
وأوضح “في ظل غياب مؤسسة تشريعية قادرة على تقديم حلول توافقية، فإن السودان يواجه معضلة مزدوجة تتمثل في ضرورة الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار السياسي، مع السعي إلى إعادة بناء نظام دستوري يضمن انتقالاً ديمقراطياً حقيقياً. ويعكس هذا الوضع الحاجة إلى إعادة صياغة عقد اجتماعي جديد يلتف حوله السودانيون، قائم على مبادئ المشاركة والمساءلة”.
مرحلة حاسمة
تظهر المواقف المتباينة حيال التعديلات الدستورية أن السودان يقف على أعتاب مرحلة حاسمة تتطلب توازناً دقيقاً بين مصالح الأطراف المختلفة. فبين تيارات تؤكد أهمية التعديلات المقترحة، بأنها تعكس تحديات جوهرية تتعلق بإعادة توزيع السلطة وإصلاح مؤسسات الدولة، وأخرى ترى أنه لا وجود لأي جسم تشريعي ليجري هذه التشريعات، تبقى الفترة المقبلة مرهونة بقدرة القوى السياسية على إدارة حوار شامل يتجاوز المصالح السياسية إلى بلورة رؤية وطنية قادرة على إيقاف الحرب ثم بناء الثقة للانتقال الديمقراطي.
إن استشراف مستقبل التحول الديمقراطي في السودان يتطلب رؤية سياسية واضحة لتجاوز العقبات الحالية. يمكن أن تبدأ هذه الرؤية من خلال إعادة بناء الثقة بين المكونات السياسية عبر فتح حوار وطني شامل لا يستثني أحداً، بحيث يُركز على بناء توافق حول المبادئ الأساس التي تحكم الفترة الانتقالية. وصياغة دستور جديد عبر لجنة قانونية غير مسيسة يشرف عليها البرلمان الذي يضم جميع الأطراف الوطنية. وتعزيز استقلالية المؤسسات لضمان التحول الديمقراطي، إذ لا بد من بناء مؤسسات مستقلة وفعالة، مثل القضاء والمجلس التشريعي، بما يمكنها من أداء دورها الرقابي والتشريعي بعيداً من تأثيرات الصراعات السياسية.
وأيضاً تهيئة مناخ سياسي مستقر بتحييد المؤسسة العسكرية عن التدخل في الشأن السياسي، مع تحديد دورها في إطار حماية السيادة الوطنية، وليست المشاركة في الحكم. وإطلاق إصلاحات اقتصادية شاملة لتعزيز الاستقرار الاجتماعي ودعم التحول الديمقراطي، وتعالج جذور الأزمات التي يعانيها السودان، مع التركيز على تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية