بعد سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024 توافد مسؤولو الدول الأوروبية إلى دمشق للقاء الإدارة السورية الجديدة، ولم تُبح تلك اللقاءات بتفاصيل مطالب ساسة القارة العجوز ومخاوفهم، لكن عقدها في حد ذاته يؤكد أنهم منفتحون على التعامل مع إدارة العمليات العسكرية والحكومة الموقتة التي يقودهما أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) زعيم “هيئة تحرير الشام” التي لا تزال مصنفة على قوائم الإرهاب في الغرب.
الحرص الأوروبي على تتبع مسار سوريا الجديدة امتد خلال فعاليات عربية وإقليمية التأمت لمناقشة مستقبل دولة متعددة الطوائف والقوميات وباتت تقودها فصائل إسلامية عسكرية لا ينضح تاريخها بإرث سياسي يدلل بوضوح على ديمقراطيتها أو مدنيتها، وآخر هذه الفعاليات كان المؤتمر الدولي الذي عقد في الرياض اليوم الأحد لهذا الغرض.
المشاركة الأوروبية في المؤتمر الذي مثل دمشق فيه وزير خارجيتها الموقت أسعد الشيباني شملت وزير خارجية بريطانيا ديفيد لامي ونظيرته الألمانية أنالينا بيربوك ومفوضة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس ومسؤولين من دول أخرى في القارة العجوز، جاءوا ليبحثوا مع الدول العربية وتركيا المرحلة الانتقالية في سوريا.
يريد الأوروبيون المساعدة في إتمام هذه المرحلة، ولكن بمعايير محددة أبرزها “تشكيل حكومة سورية شاملة تمثل جميع أطياف الشعب، ولا تكتسي حلة طائفية”، كما قال وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي الذي دعا المجتمع الدولي أيضاً “إلى الوقوف خلف السوريين من أجل بناء مستقبل ديمقراطي ودولة مدنية متنوعة”.
لا تلتقي حكومة اللون الواحد التي تقود دمشق اليوم مع المواصفات التي حددها لامي، كما أعلنت وزيرة الخارجية الألمانية عند زيارتها لدمشق قبل أكثر من أسبوع بأن أوروبا “لن تمول هياكل إسلامية” في سوريا، ولكن لأي مدى سيبدي الأوروبيون مرونة في الوقت المتاح للشرع وحكومته الموقتة كي ينجزوا المرحلة الانتقالية المطلوبة، وما هامش تساهلهم في المحددات الديمقراطية والمدنية التي يريدونها في سوريا الجديدة؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقول بيربوك إن “السوريين يجب أن يجنوا سريعاً ثمار تحررهم من الأسد”، لذلك سيبحث الاتحاد الأوروبي نهاية الشهر الجاري رفع عقوباته على سوريا بطريقة “ذكية”، الواضح منها أنها لن تشمل “المتورطين في النظام السابق وحلفاءه بارتكاب المجازر في حق السوريين”، وهذا يشابه آلية أقرتها الولايات المتحدة أخيراً لتخفيف عقوباتها عن سوريا من خلال استثناء كل ما يمكن أن يحسن حياة الناس هناك اقتصادياً وخدمياً.
أكثر من 100 مليون دولار من المساعدات لسوريا تعهدتها بريطانيا وألمانيا فقط في أول شهر بعد سقوط الأسد، وهذا يوحي بأن الدعم الاقتصادي الأوروبي للحكومة الموقتة لدمشق قد يكون سخياً إن أثبتت كفاءتها، كما أن العقوبات لن تكون عائقاً أمام مساعي الشرع وحلفائه للنهوض بالواقع الاقتصادي في الدولة المثقلة بأعباء الحرب.
والدولة المدنية والديمقراطية في سوريا أولوية بالنسبة إلى لأوروبيين ليس فقط لأنها تلتقي مع القيم التي يعيشونها في مجتمعاتهم، وإنما لأنها أيضاً تسمح لهم بإعادة اللاجئين السوريين الكثر لديهم ووقف أكبر موجة لجوء عرفتها القارة العجوز في الألفية الجديدة، وربما بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا أمر له أهمية كبيرة اتضحت من خلال مسارعة دول عديدة في القارة العجوز إلى تعليق طلبات لجوء السوريين فيها إلى حين اتضاح مستقبل بلادهم تحت حكم الشرع وحكومته وفصائله الإسلامية المسلحة.
اللاجئون والمهاجرون هاجس كبير تعيشه الدول الأوروبية منذ سنوات، والرأي العام الرافض لهم أوصل أحزاب اليمين المتشدد في القارة إلى الحكومة في سبع دول في الأقل، كما جعلها ذات تأثير كبير في رسم السياسات الداخلية والخارجية حتى من خارج السلطة. لذا لن تتجاهل دولة مثل ألمانيا تستضيف مئات آلاف السوريين وتقف على أبواب انتخابات عامة في فبراير (شباط) المقبل، فرصة تأهيل سوريا الجديدة وإعادة اللاجئين إليها.
هذه الغاية الألمانية تتقاطع معها كل الدول التي تستضيف اللاجئين السوريين، لكن في أوروبا يضاف إليها وفقاً للتصريحات الرسمية أهداف أخرى وردت في تصريحات مسؤولين عدة مثل عدم السماح لتنظيم “داعش” الإرهابي بالعودة مجدداً، والتخلص تماماً من الأسلحة الكيماوية التي استخدمها نظام الأسد في قمع ثورة السوريين عليه.
بعض دول أوروبا مثل المملكة المتحدة لديها خشية أيضاً من مصير تلك السجون التي يحتجز فيها الدواعش شمال شرقي سوريا، نحو 10 مراكز تديرها قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في الجزيرة السورية، وتجنب العالم تطرف نحو 10 آلاف عنصر للتنظيم الإرهابي، يصنف نحو 2000 منهم على أنهم “خطرون للغاية”.
هناك أقل من 100 بريطاني في تلك السجون، لكن لندن لا تريد استعادتهم وتخشى أن تقود المعارك التي تدور اليوم بين “قسد” والفصائل السورية المؤيدة لتركيا شمال سوريا إلى فرار الدواعش من المعتقلات وانتشارهم داخل البلاد وخارجها، لذا تفضل أن يقع اتفاق بين القيادة السورية الجديدة في دمشق والكرد شرق الفرات، يوقف معارك الشمال أولاً ويوحد الجهود ضد أي فرص لعودة التنظيم الإرهابي للساحة مجدداً.
هذه الأزمة مفاتيحها في أنقرة، وليس في دمشق، فتركيا وفق وصف الرئيس الأميركي دونالد ترمب باتت تمتلك اليد الطولى في سوريا بعد سقوط الأسد، وهي تصر على تطهير حدودها الجنوبية ممن تعدهم امتداداً لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً فيها وفي أوروبا والولايات المتحدة التي باتت تدعو جميع الدول إلى استعادة مواطنيها من سجون “داعش” لغاية ما في نفسها لن تتضح إلا بعد وصول ترمب إلى البيت الأبيض في الـ20 من يناير (كانون الثاني) الجاري، ويتبين للأوروبيين وسواهم كيف ستتعامل إدارة أميركا الجديدة مع سوريا بعد الأسد وقادتها المسجلين على قوائم الإرهاب في واشنطن حتى الآن.
نقلاً عن : اندبندنت عربية