ظلت تجربة تكوين قوات “الدعم السريع” خلال حقبة الرئيس السابق عمر البشير في عام 2013 لردع الحركات التي رفعت السلاح في وجه الدولة خلال حرب دارفور محل انتقاد وتحذير من إعادة تكرارها، تفادياً لما حدث من تفجر للأوضاع باندلاع الحرب الدائرة بين هذه القوات والجيش السوداني منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023، في حال استقرار البلاد.
ويجري حالياً على مواقع التواصل الاجتماعي نقاش واسع بين السودانيين بمختلف تلاوينهم واتجاهاتهم الفكرية والأيديولوجية حول مصير المجموعات المسلحة غير النظامية التي تقاتل إلى جانب الجيش بعد توقف الحرب، إذ يتخوف بعضهم من استمرارها كقوات موازية للجيش مكافأة لها نظير مساندتها للأخير في حربه ضد “الدعم السريع”.
أطماع وإغراءات
وعلق الباحث في الشؤون العسكرية والسياسية اللواء معتصم عبدالقادر قائلاً إن “مشاركة الحركات المسلحة والمستنفرين عبر كتائب تتبع للقوات المسلحة وقوات درع السودان فرضتها طبيعة الحرب التي بدأت بمواجهة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع المتمردة وتطورت إلى استهداف للمدنيين من الأخيرة، مما شكل دافعاً أساسياً لهذه القوات المختلفة للانحياز إلى جانب القوات المسلحة التي تميزت مناطقها بالحياة الآمنة الطبيعية التي تعج بالانشطة الاقتصادية والعلاجية والتعليمية وحتى السياسية والإعلامية، بينما فشلت الميليشيات المتمردة في جذب أو إبقاء المواطنين في المناطق التي دخلتها ومارست فيها الانتهاكات كافة”، وأضاف عبدالقادر “هذه الفصائل أسهمت في تثبيت مناطق مثل الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور التي تحتدم فيها المعارك لفترة طويلة، فضلاً عن مشاركتها مع القوات المسلحة فى جبهات القتال الأخرى، وتتم كل هذه العمليات تحت إمرة وتخطيط وإدارة قيادة الجيش، ولم تبرز أي إشكالات تذكر، والأمر الأهم أن كل هذه الفصائل ليس لها ارتباطات خارجية على رغم إغراءات العمالة والعروض السخية للانسلاخ عن مساندة الجيش، إذ إنها تستمد احتياجاتها كافة وتسليحها من الحكومة السودانية”.
ونوه إلى أن “تجربة الدعم السريع ليست فريدة في السودان، إذ سبقتها تجارب عدة عبر الأنظمة المتعاقبة على حكم البلاد، لكن أطماع قيادات هذه الميليشيات والإمكانات المادية والسلطوية التي سخرت لها واختطافها من القوى الداخلية والخارجية شجعهم على التمرد على الدولة ومحاولة الاستئثار بالحكم”.
وأردف الباحث في الشؤون العسكرية والسياسية، “تتمثل الآلية المناسبة للتعامل مع هذه الفصائل بعد انتهاء الحرب في استيعاب من يصلح من أفرادها في القوات المسلحة وتسريح البقية وفق المعايير الفنية المتبعة والإبقاء على جيش مهني واحد، وفي تقديري أن هذه الحرب أتاحت فرصة تاريخية للجيش السوداني لإعادة بناء قوته البشرية وتسليحه وإمداده، مما جعله يستعيد كثيراً من المواقع ويعود أقوى مما كان عليه قبل الحرب، فضلاً عن إعادة التفاف الشعب حوله، مما يحتم ضرورة المحافظة عليه كجيش مهني قوي يستطيع أداء دوره المرسوم دستورياً وقانونياً في حماية الوطن وشعبه”.
شعارات زائفة
في السياق أوضح المتحدث الرسمي باسم القوات المشتركة احمد حسين مصطفى (أدروب) بأن “الذين شاركوا في القتال بجانب الجيش السوداني استجابوا فقط لنداء الوطن والشعب، وظن كثيرون في بداية هذه الحرب بأنها حرب بين الجيش السوداني وميليشيات الدعم السريع، لكن اتضح جلياً بأنها معركة بين الشعب السوداني وتلك الميليشيات ومرتزقتهم”.
وتابع أدروب “صحيح هناك أصحاب أغراض وأجندات يشككون في نوايا القوات المتحالفة مع الجيش، لكن من المؤكد أنه بعد هذه المعركة الجميع يتجه إلى بناء جيش قومي مهني مهمته حماية الوطن وسيادته وشعبه، ولن تتكرر تجربة الدعم السريع مستقبلاً”.
وزاد “كل من يشارك في القتال ضد ’الدعم السريع‘ جاء فقط من أجل حماية السودان وشعبه ووحدة ترابه، فضلاً عن حماية أرضه وعرضه وممتلكاته لأن الميليشيات شنت حرباً مباشرة على الشعب، وما رأيناه من قتل ونهب وسلب وإبادة جماعية ودفن الناس أحياء واغتصاب الفتيات يتنافى تماماً مع الشعارات الزائفة التي تروج لها تلك الميليشيات مثل تفكيك دولة 1956، ومحاربة الكيزان (الإسلاميين)، وبناء دولة ديمقراطية، وغيرها من الشعارات الوهمية”.
وبين المتحدث الرسمي باسم القوات المشتركة أن “الجيش السوداني سيكون له مستقبل مشرق وشأن عظيم في المستقبل القريب والبعيد، لأن كل الشعب السوداني التف حوله والآن تجاوز كثيراً من التحديات، وهذه المعركة ستحسم قريباً. كما هناك بروتوكول للترتيبات الأمنية موقع في اتفاق جوبا للسلام، وهو أحد الآليات التي تخص القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح”.
قوات مؤدلجة
من جانبه قال عضو القيادة المركزية العليا للضباط وضباط الصف والجنود السودانيين المتقاعدين (تضامن) الرائد محمد عبدالمنعم مقلد، إن “المؤسف هو أن الجيش السوداني منذ انقلاب الحركة الإسلامية واستيلائها على السلطة في عام 1989 فقد خيرة قادته وضباطه الوطنيين الشرفاء الذين وقفوا ضد عسكرة الحكم، وذلك من خلال إحالتهم للصالح العام وتمكين كوادر هذه الحركة في الأجهزة العسكرية والأمنية وفق خطة مدروسة تقود لتشكيل قوات مؤدلجة تأتمر وتدين بالولاء لسلطتها من خلال هذه الخطوة، وبالتالي بدأ الجيش في التراجع تأهيلاً وتدريباً، كما أصبح الالتحاق والقبول بالكلية الحربية قاصراً فقط على كوادر الحركة الإسلامية من دون مراعاة للشروط الصارمة التي كان يتم بها القبول للكلية الحربية”. وأضاف مقلد أن “ما حدث من إضعاف للجيش أدى إلى فشله في دحر الميليشيات المتمرده في حرب دارفور عام 2003، وهو ما قاد إلى البحث عن قوات صديقة تقوم بمهمات وواجبات الجيش في كل عملياته العسكرية الميدانية، وبموجب ذلك قامت القيادة العسكرية بتشكيل ودعم وتسليح ميليشيات ‘الجنجويد’ لمحاربة الفصائل المسلحة التي تمردت على الدولة بدارفور، لتجري تسميتها بعدما ساءت سمعتها بسبب أدائها بحرس الحدود، وتصبح بعد ذلك قوات نظامية موازية للجيش تحت مسمى الدعم السريع”.
واستطرد عضو القيادة المركزية العليا للضباط وضباط الصف والجنود السودانيين المتقاعدين، “ما يثير الاستغراب هو أن القيادة العسكرية للجيش لم تستفد من الدرس السابق، إذ لجأت بعد اندلاع الحرب إلى ممارسة القفز في الظلام في إحياء ميليشيات متعددة المسميات وذات عقيدة أيديولوجية للمشاركة في القتال إلى جانبها على رغم أنه ينقصها الإعداد والتأهيل والتسليح، مما جعل الوطن مرتعاً لانتشار السلاح والفوضى. ومؤكد ستكون نتائجها كارثية خصوصاً إذا تحقق أي نصر أو نجاح لهذه الميليشيات، مما يصعب معه السيطرة عليها أو إخضاعها لسلطة الدولة بعد نهاية هذه الحرب”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دمج وتسريح
من جهتهه أشار المحلل السياسي عروة الصادق إلى أن “هذه المجموعات ذات الطابع الأيديولوجي والأخرى ذات الطابع القبلي والجهوي أسهمت في توسيع رقعة الحرب وزيادة الشقة وتعميق الانقسامات الاجتماعية والقبلية، وأعاقت سبيل الوصول إلى تسوية لوقف هذه الحرب، فضلاً عن مساهمتها بصورة مختلفة في تجارة السلاح وانتشاره، وهو ما قاد إلى تفاقم حالة الفوضى وارتفاع معدلات الجريمة والعنف في بعض الولايات وعدم الاستقرار في المناطق التي لم تصل إليها الحرب”.
وتابع “بلا شك أن هذه الميليشيات والتكوينات المسلحة ستظل عاملاً مهدداً للاستقرار والأمن في البلاد حتى بعد انتهاء الحرب، خصوصاً إذا لم تسرح أو تدمج في القوات النظامية بطريقة فعالة، وسيتحول بعض أفرادها إلى ميليشيات جديدة تعمل خارج إطار القانون، مما يزيد من الفوضى والعنف ونرى أن بعض قادتها العسكريين نشطوا في تجارة السلاح والتدريب في دول جارة ومع شركات كبرى، فيما تستخدم هذه المجموعات نفوذها للتأثير في العملية السياسية واتخاذ القرارات، وبعضها يهدد ويتوعد بالعودة للحكم العسكري أو الاستبداد، كما يحاول قطع الطريق أمام أية مبادرة، ورأينا ردود أفعالهم تجاه المبادرة التركية وما سبقها من مبادرات”.
ورأى الصادق أن “عملية دمج هذه التكوينات المسلحة في جيش موحد ليست سهلة، وتتطلب تخطيطاً دقيقاً وموارد كبيرة لا يمتلكها السودان بعد الحرب، كما أنها تحتكم للاختلافات الأيديولوجية والولاءات المتعددة، والسودان كما هو معلوم وطن مترامي الأطراف يصعب السيطرة على انتشار السلاح فيه أو رصد حركته. ورأينا كيف تمكنت قوات ’الدعم السريع‘ من التوسع بسرعة كبيرة وزيادة نفوذها، مما يثير المخاوف من تكرار السيناريو نفسه مع القوات الأخرى التي صارت تمنح امتيازات في الموانئ ومناطق التعدين وتوريد السلع ولوجستيات الحرب والهيمنة على مؤسسات الدولة، خصوصاً الشركات التابعة للمؤسسة العسكرية”.
وواصل “إن افتراض أي حل قبل وقف الحرب سيكون مجرد تنظير، وذلك لأن أية عملية أو خطة للتعامل مع هذه المجموعات ستواجه مقاومة شديدة وربما عنيفة من بعض عناصرها التي قد ترغب في الاحتفاظ بسلاحها، كما أن الدخول في أي إجراء يتطلب تمويلاً كبيراً قد لا يكون متاحاً ووقتاً طويلاً لا يملكه السودانيون لتحقيق نتائج ملموسة، وهذا يقودنا لوضع تصور تدريجي ومنظم للدمج والتسريح، مع توفير ضمانات أمنية للمقاتلين الذين يسلمون أسلحتهم، ومراقبة تحركات هذه المجموعات عن كثب بعد تسريحها لمنع عودتها للنشاط المسلح، ودمج المؤهلين في القوات النظامية المختلفة (شرطة وجيش وقوى أمن) بعد تقييم مهارات وقدرات أفرادها”.
ونوه إلى “أهمية وضع شروط صارمة للدمج، مثل الخضوع لفحوص أمنية مشددة والتوقيع على تعهدات بعدم المشاركة في أية أنشطة حزبية أو غير قانونية، مع تنظيم حملات مكثفة لجمع السلاح من أيدي المدنيين والمجموعات المسلحة، وسن تشريعات صارمة لعقاب حيازة السلاح بصورة غير قانونية، وكل ذلك لن يحدث في ظل غياب الدولة ومؤسساتها ومن دون إصلاح المؤسسات الأمنية وتطوير قدراتها على حفظ الأمن والاستقرار”.
ومضى المحلل السياسي في القول “لقد وضعت القوى المدنية بالاتفاق مع قيادتي القوات المسلحة وقوات الدعم السريع وبعض الحركات المسلحة تصوراً للجيش المهني المستقبلي والقوات النظامية الموحدة، وكتبوا تصورات بإعادة الهيكلة المؤسسية، وكيفية خفض أعداد الميليشيات، مما يعني تقليصاً في عديدها، مع التركيز على بناء قوات مهنية عالية الكفاءة، وإعادة تنظيم الجيش ليكون أكثر مرونة وقدرة على مواجهة التهديدات المختلفة، وانضباطاً بمعايير قياسية للترقيات وتولي المهمات والقيادة، فضلاً عن ضرورة تحديث المعدات والأسلحة، خصوصاً بعد الاستنزاف الحربي الكبير، وأن يلتزم الجيش بالابتعاد من التدخل في الشأن السياسي، والتركيز على دوره الأساس في حماية الوطن”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية