قالت لنا في اتصال عبر هاتف صديقتها: “التهمت النيران الأكواخ والحظائر، واحترقت الشاحنة، ونفقت الدجاجات ونصف الأبقار. المزرعة دُمرت بالكامل، ولا أعلم ما إذا كان المنزل سيصمد…”.

كانت هذه الكلمات الأولى التي سمعناها من عمتي بعد نحو ست ساعاتٍ من القلق والصمت المروع، تسببت خلالها حرارة يوم رأس السنة الجديدة التي بلغت 40 درجة مئوية، باندلاع عاصفة نارية اجتاحت مناطق في أستراليا تفوق ضعفي مساحة إنجلترا.

ظلت عمتي محاصرةً داخل المنزل من الساعة العاشرة صباحاً حتى الرابعة عصراً، بينما اجتاحت كرةٌ نارية من حريق سريع الانتشار حظائر المزرعة، وأذابت الجرار الزراعي وسيارتها، ودمرت الجسر الخشبي – الذي كان يمثل السبيل الوحيد للاتصال بالعالم الخارجي. ولولا تدخل جارها من المزرعة المجاورة، الذي شق طريقه عبر الأسوار والمراعي الخلفية لإنقاذها، لما كُتبت لها النجاة.

في تلك المكالمة الهاتفية التي غلبت عليها الدموع، بدأت تتضح لنا أولى ملامح الخراب الذي أصاب مزرعة جدي، التي ظلت صامدةً لأكثر من 150 عاماً من دون أن تتعرض لأي حرائق.

هذا الأسبوع، ومع اشتعال النيران في مختلف أنحاء مدينة لوس أنجليس، التي أودت بحياة 24 شخصاً حتى لحظة كتابة هذا المقال، ووصول سرعة الرياح إلى 100 ميل (161 كيلومتراً) في الساعة، ما حول بلداتٍ بأكملها إلى علب كبريت مشتعلة، استعدتُ في ذهني الذكريات التي عشتها قبل نحو أربعة أعوام. ففي تلك الأوقات – كما في مأساة هذا الأسبوع – لم تكن لدينا أي فكرة عن مدى السرعة التي يمكن أن تلتهم خلالها النار كل ما يعترض طريقها.

لقد أمضينا عيد الميلاد في تلك المزرعة نفسها، وحتى عندما كانت سحب الدخان الجديدة تظلل التلال الغربية، ملونةً السماء باللون الأحمر، لم يخطر ببالنا على الإطلاق أن النار قد تتحول في اتجاهنا. وكنا – حالنا حال عددٍ لا يحصى من الأسر في ضاحية باليساديس في مدينة لوس أنجليس هذا الأسبوع – قد تملكنا إحساسٌ زائفٌ بالأمان – حتى بعد صدور أوامر رسمية بإخلاء المنطقة. كنا نظن أن الحرائق عادةً ما تبقى محصورةً في التلال المحيطة بنا، وأننا في مأمن منها. لكن في غضون أيامٍ قليلة، التهمت ألسنة النيران مجتمعنا بأسره وحولته إلى رماد. في مثل تلك اللحظات، يصبح المفهوم السائد حول “النمط الطبيعي” للحرائق غير ذي معنى على الإطلاق.

 

لا بد من الإشارة هنا إلى أن حرائق الغابات في أستراليا في العامين 2019 و2020 كانت ناجمةً عن تغير المناخ على مختلف المستويات. فلم يكن الصيف في تلك الفترة حاراً فحسب، بل كان أيضاً أحد أكثر الأعوام جفافاً في تاريخ البلاد، ما جعل الأراضي الحرجية جافةً للغاية. وعلى رغم دراستي لتغير المناخ واطلاعي على مؤشرات التحذير في هذا المجال، إلا أنني لم أكن مدركاً تماماً لمدى الخطر الذي كنا نواجهه”.

ووفقاً لعلماء فيزياء منخرطين في مشروع “كلايما ميتر” ClimaMeter (وهو منصة تجريبية تهدف إلى فهم الأحداث الجوية المتطرفة انطلاقاً من تقييم أنماط طقسٍ مشابهة حصلت في الماضي)، فإن الرياح والحرارة والظروف الجافة التي أدت إلى موسم الحرائق هذه السنة في لوس أنجليس، كانت بدورها غير عادية – وجميعها ناجمة عن تأثيرات تغير المناخ.

كان الوضع مشابهاً في عام 2021، عندما ضربت “قبة حرارية” تغذيها التغيرات المناخية أنحاء أميركا الشمالية، وتسببت بحرق مساحاتٍ من الأراضي قُدرت بثلاثة ملايين و200 ألف هكتار، عبر كندا والولايات المتحدة. منذ ذلك الوقت، لم يعد هناك أي مفهوم لما هو “طبيعي” عندما يتعلق الأمر بحرائق الغابات، تماماً كما ذكر رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو على محطة “سي أن أن” هذا الأسبوع، بأن “ما نشهده الآن سيصبح أسوأ، وأسوأ، وأسوأ في العقود المقبلة”. لكن ترودو لم يعد زعيم كندا. والطريقة التي تعامل بها القادة الجدد في أميركا مع هذه الحرائق تعيد إلى الأذهان ذكريات مؤلمة عن قيادتنا المتخاذلة والمستهترة في ذلك الوقت.

 

ففي اليوم الذي التهمت فيه النيران مزرعتنا، كان رئيس الوزراء الأسترالي آنذاك سكوت موريسون يستمتع بتناول مشروبات الكوكتيل وهو يرتدي قميصاً صيفياً، بينما يشاهد غروب الشمس في هاواي – على بعد نحو 5 آلاف ميل (8047 كيلومتراً). وعندما طُلب منه التعليق في وقتٍ لاحق، أجاب بعبارته المعهودة: “ماذا تريدني أن أفعل؟ أنا لا أحمل خرطوماً يا صديقي”. وقد كانت هذه العبارة بداية نهايته السياسية.

وصادف أنه قبل أسبوعين فقط، وجد موريسون نفسه يحتفل بليلة رأس السنة الجديدة مع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب وقطب الأعمال إيلون ماسك، اللذين استخدما نفوذهما الاقتصادي والسياسي الهائل لتحويل كارثة لوس أنجليس إلى أداةٍ سياسية مبتذلة، واستثمارها في خدمة أجنداتهما اليمينية الخاصة.

ألقى المسؤولون باللوم في الحرائق على النساء، وسياسات التنوع، وأجندة “العولمة”… وعلى كل شيء آخر، باستثناء تغير المناخ

 

ومن المثير للذهول أن هؤلاء الذين تواجدوا داخل منتجع ترمب الآمن في “مارالاغو”، على بُعد أكثر من ألفي ميل (3219 كيلومتراً)، ألقوا باللوم في اندلاع الحرائق على النساء، وسياسات التنوع، وأجندة “العولمة”، والأنواع المهددة بالانقراض، والزعماء المحليين، وكل شيءٍ آخر، باستثناء تغير المناخ. وفي الأسابيع المقبلة، عندما يتولون السلطة، من المرجح أن يفعلوا كل ما في وسعهم لتقويض عمل إدارة إطفاء لوس أنجليس، ووكالة حماية البيئة، والإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي بشأن علوم المناخ، كما هو موضح في “مشروع 2025”  Project 2025. [مجموعة من السياسات التي تتعلق بالتوجهات المستقبلية للحكومة الأميركية، وتم الحديث عنها في سياق سياسات مناهضة لتغير المناخ وتقييم دور الوكالات البيئية والعلمية]

أما بالنسبة إلى الأفراد الناجين من هذه المأساة المستمرة، فقد يكون أصعب ما يواجهونه هو تداعيات الخسارة. فخسارة منزل، أو لوحة رسمها طفل في فصلٍ فني، أو مجموعة أشرطة كاسيت عزيزة على والد يحتفظ بها من حفلات موسيقى الروك في سبعينيات القرن الماضي، أو الشعور بالأمان والانتماء، كلها أمور صعبة وقاسية، لكن فقدان أحد الأحبة يظل الألم الأعمق الذي لا يمكن مقارنته بأي شيءٍ آخر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما ما هو أصعب من ذلك كله، فهو أن يُحرم الإنسان من حقه في أن يحزن بكرامة، خصوصاً عندما يدرك في أعماق نفسه السبب الحقيقي الذي حطم قلبه، بينما يتجاهله أولئك الذين يملكون القدرة على تحقيق العدالة له، ويغضون الطرف عنه.

وعندما تهدأ النيران أخيراً وتهمد، فإنها ستترك وراءها آلاف الأشخاص عالقين في دوامةٍ لا تنتهي من المطالبات لشركات التأمين، والمواعيد الطبية، وأعمال تنظيف المخلفات، والندوب النفسية العميقة التي تركتها الصدمة في نفوسهم.

قد تتجاوز الخسائر المؤمن عليها من حرائق هذا الأسبوع حاجز العشرين مليار دولار (16 ملياراً و500 مليون جنيه استرليني). ولا شك في أن الصدمة التي يشعر بها أولئك الذين قدموا طلباتٍ للحصول على تعويضات، والذين حُرموا من التغطية، أو صُنفوا على أنهم غير مؤمن عليهم، ستترك ندوباً عميقة لسنواتٍ طويلة. أما الذكريات العزيزة التي لا تُحصى، فستتحول إلى مجرد أرقامٍ في جداول بيانات وكلاء التأمين.

في النهاية، وفي حين يتطلع الناجون من الحرائق إلى الحصول على الدعم من قادتهم في الأسابيع والأشهر المقبلة، لا يسعني إلا أن أشعر بالقلق حيال ما قد ينتظرهم.

نقلاً عن : اندبندنت عربية