يعتبر الكاتب الألماني غوتهولد إفرايم ليسنغ (1729 – 1781)، المؤسس الحقيقي لما سمي من بعده، الدراما البورجوازية الألمانية. والحقيقة أن وصف بورجوازية هنا لا يأتي جزافاً، وكمجرد توصيف اجتماعي، بل هو توصيف سياسي، بالنظر إلى أن الزمن الذي عاش فيه ليسنغ وكتب (أواسط القرن الـ18) كان بالتحديد زمن الانتقال من الحكم الأرستقراطي إلى الحكم البورجوازي في بلاده، كما أن البورجوازية المدينية الصاعدة بخاصة، كانت تعتبر الحامل والضامن للفكر التنويري الذي كان ليسنغ، في ذلك الحين أيضاً، واحداً من كبار مؤسسيه في ألمانيا. ومن هنا إذا كان اسم “المسرح السياسي” ينطبق على العدد الأكبر من مسرحيات ليسنغ، فإنه ينطبق في شكل خاص على واحدة من مسرحياته الأساس “إميليا غالوتي”. وهي مسرحية قدمت للمرة الأولى في مدينة برونشفيك، في الثامن من مارس (آذار) 1772، فحققت نجاحاً جماهيرياً كبيراً، لكنها أوجدت في الوقت نفسه سوء تفاهم جعل الناقد والفيلسوف شليغل يقول عن زميله ليسنغ إنه إنسان يكاد يكون بلا عواطف، وإن حسابات العقل لديه تفوق كثيراً حسابات القلب، واصلاً إلى حد القول إن “إميليا غالوتي” مسرحية تنتمي إلى علم الجبر.
ولادة من رحم فكر صارم
ولافت أن كثراً لم يشاركوا شليغل رأيه هذا، بل على العكس رأوا في هذه المسرحية ولادة للمسرح الألماني الحديث، حتى وإن كان معروفاً أن ليسنغ اقتبس موضوعها من مسرحية رومانية قديمة، أرخت في حينه للمسرح بوصفه أداة سياسية وثورية، رابطة إياه بانتفاضة شعبية كبرى، فإن الأمر لم يكن كذلك مع ليسنغ. بالنسبة إلى ليسنغ، لم يصل طموحه، طبعاً، إلى هذا الحد. كان كل ما يريده من اقتباسه هذا العمل أن يقدم للمسرح الألماني عملاً يمكن أن يعتبر سياسياً، لا سيما من ناحية كشفه عن دناءة الأرستقراطية وفساد حكمها هي التي كانت تعتبر كل شيء ملكها، بما في ذلك سعادة الناس وحياتهم وعواطفهم، على عكس الطبقة البورجوازية التي ستحل مكانها في الحكم وفي الهيمنة على المجتمع موفرة للناس حرية أكبر، في الأقل في ما يتعلق بحياتهم الخاصة. والحقيقة أن ليسنغ لم يغير في المسرحية الرومانية القديمة كثيراً، حتى يجعل منها نصاً معاصراً، بل إنه جعل الأحداث تدور في إيطاليا وليس في بلده ألمانيا، حتى وإن كان حرص على أن يكون الإسقاط، بالنسبة إلى متفرجيه واضحاً، أي أن يعرفوا أن الجوهر المقصود هنا هو الأرستقراطية الألمانية الحاكمة.
زواج بورجوازي مرتب
تدور مسرحية “إميليا غالوتي” ذات الفصول الخمسة من حول الحسناء الرائعة إميليا التي أعارت عنوان المسرحية اسمها، وهي امرأة مثقفة واعية تنتمي إلى الشريحة الكبرى من البورجوازية. وعلى رغم أن هذه الحسناء كانت مخطوبة إلى الكونت آبياني، في زواج مرتب على الطريقة البورجوازية، فإن كل من كان يلتقي بها أو يجلس إليها، كان يقع في حبها، أو في الإعجاب المفرط بها. وهذا ما حدث، إذاً، للحاكم أمير غواستالا، هتوري غونزاغا، الذي منذ لقائه الأول بإميليا أغرم بها وقرر أن تكون له. وكما يمكننا أن نتوقع، تفشل كل محاولات الأمير لاجتذاب إميليا، فلا يكون منه إلا أن يطلب من مستشاره الأول والداهية مارينيلي، أن يعمل ما في وسعه لمنع أو تأخير الاقتران بين آبياني وإميليا. ومارينيلي الذي اعتاد خدمة سيده بكل أمانة ودهاء، لا يجد أمامه لإنجاز المهمة، إلا أن يتخلص من آبياني، فيرسل بعض المجرمين لقطع الطريق على عربة كانت تقله وخطيبته. فيفعلون لتنتهي العملية باغتيال آبياني، ونقل إميليا الشابة إلى قصر الأمير بداعي الحفاظ على سلامتها وحياتها. وفي البداية لا تتفهم إميليا حقيقة ما حدث، على عكس أمها كلاوديا التي سرعان ما يبدو عليها أنها فهمت كل شيء. وهنا تدخل إلى مكان وجود المرأتين الكونتيسة أورسينا، التي كانت عشيقة الأمير السابقة. وهذه، بسبب الغضب الذي راح يتآكلها من جراء تخلي الأمير عنها، تروح موسوسة في أذن أودوياردو، والد إميليا، بأن الفاعل في جريمة اغتيال آبياني إنما هو الأمير غونزاغا، ولذا يجب أن يثأر منه، مرسلاً من يطعنه حتى يموت كما حدث للكونت الشاب.
عندما تغضب الحسناء
بيد أن الوالد، لجبنه، يستبد به تردد مدهش ويقرر في نهاية الأمر أن يترك الأمور للتدبير الإلهي. إن الله فاعل كل شيء هو القادر على الانتقام للأمير الراحل. وهذا الموقف يغضب، طبعاً، إميليا، التي تجد نفسها في خضم ذلك كله، مجبرة على البقاء في قصر الأمير وتحت حمايته بفعل مؤامرة جديدة دبرها مارينيلي، فتطلب من أبيها إيصالها إلى حل ما، أمام يأسها وإدراكها أن الأمير سينفذ بما فعله، وقد ينتهي به الأمر إلى امتلاكها بالفعل. ومن هنا تندفع إميليا طالبة من أبيها أن يطعنها بالخنجر حتى تموت وتتخلص من آلامها النفسية المستبدة بها، من الناحية الأولى، وتتمكن من الحفاظ على شرفها، وعلى شرف خطيبها المغدور من الناحية الثانية. هنا يتردد الأب مرة أخرى ولكن، ليس على مثل القوة التي كان تردد بها حين طلب إليه أن يثأر من الأمير، إذ ها هو أمام إلحاح ابنته إميليا، يأخذ الخنجر ويطعنها به حتى الموت… غير أنه سرعان ما يندم ويهرع إلى الأمير واضعاً المسألة برمتها بين يديه. وهذا الأخير إذ يجد نفسه أمام وضعية تتطلب منه موقفاً وقراراً، يرى أن مارينيلي، وليس أحداً غيره، هو المسؤول عما حصل أولاً وأخيراً. هو المجرم الذي خطط كل شيء وفعل كل شيء… فيقرر معاقبته بطرده من البلاط. أما بالنسبة إلى والد إميليا، فإنه سينهي الأمر بأن يترك المسائل كلها لحكم الله. ذلك أن الله، بالنسبة إليه، هو السيد الأول والأخير… هو السلطة المطلقة الوحيدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إدانة مطلقة للأرستقراطية
قد لا يكون من الضروري هنا إجراء مقارنات لتحديد رمزية كل شخصية وكل طبقة في المجتمع. ولذا من الأفضل القول بصورة إجمالية إن ما أراد ليسنغ أن يقوله هنا إنما هو التعبير عن إدانة مطلقة لطبقة النبلاء والأرستقراطية التي يصورها وبين أيديها سلطات ظالمة لا يحلو لها إلا استخدامها من أجل تدمير حياة الآخرين وسعادتهم، معتقدة أنها تملكهم كما تملك الأراضي ومقدرات الدولة، لا سيما إذا كان هؤلاء الآخرون – كما حالهم هنا – من أبناء الطبقة الوسطى الصاعدة. إن ما يتصدى له ليسنغ هنا، بحسب رأي مؤرخي المسرح الألماني الحديث هو تلك السلطة العمياء التي تمكن صاحبها من أن يقتحم حياة إحدى العائلات ويبطش بها، لكنه في الوقت نفسه يفقد شعور الطبقة الوسطى بالضعف إزاء ما ينتابها، إذ إن الرد الوحيد الممكن بالنسبة إليها إنما هو تضحية إميليا بنفسها، كطريقة وحيدة للوقوف في وجه الظلم القائم… بدلاً من أن تمارس فعل مجابهة حقيقية.
ونعرف أن هذه المسرحية، كان لها – حتى بنهايتها السلبية إنما الفعالة – تأثير كبير في الشبيبة الألمانية في ذلك الحين. وحسبنا أن نذكر أن غوته، كاتب ألمانيا الأكبر، جعل نسخة من مسرحية “إميليا غالوتي” مفتوحة قرب المكان الذي جلس فيه بطل روايته “أشجان الفتى فرتر” حين انتحر. أما غوتهولد إفرايم ليسنغ (1729 – 1781) فهو، كما أشرنا، يعتبر من كبار أدباء وفلاسفة عصر التنوير الألماني. وهو كتب في الفكر والأدب والشعر، كما كان ناقداً فنياً وأدبياً، ألقى بظله الكبير على عصر التنوير. ولكن أيضاً على المسرح الألماني، كتابة ونقداً (لا سيما في كتاب أساس له، جمعت فيه مقالاته عن المسرح الهامبورغي. وهي مقالات نظر فيها للمسرح، متهماً النقد الفرنسي بأنه لم يفهم أفكار أرسطو تماماً، كما حدث نظرية التطهير في المسرح. ومن أبرز كتب ليسنغ “ناثان الحكيم” و”تربية الجنس البشري” و”آنتي – غويتزي” و”فيلوتاس” و”الآنسة سارة سامبسون”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية