انطلق فن “الرومانسية القاتمة” بدءاً من 2010، ومنهم من يعتبر سلسلة “خمسون درجة من الرمادي” (Fifty Shades of Grey) شرارة إطلاق هذا النوع الروائي لما حققته الكتب والأفلام في هذه السلسلة من نجاح وشهرة، وقد عرفت في تاريخ الأدب العالمي روايات رومانسية عريقة لا عد لها ولا حصر، وقد توجه أدباء كثر في الغرب إلى كتابة قصص حُب لا يزال القراء يشترونها ويتعلقون بشخصياتها ويصنفونها ضمن كلاسيكيات الأدب العالمي حتى يومنا هذا، مثل أول رواية بالفرنسية وهي رواية “أميرة كليف” التي نشرتها مدام دو لافاييت (1634-1693) في أواسط القرن الـ 17، والتي تتالت من بعدها الروايات الرومانسية الفرنسية لعقود مثل روايات بلزاك (1799-1850) ومنها “الزنبقة في الوادي”، وكذلك روايات ألكسندر دوما (1802-1870) منها “كونت مونتي كريستو” أو “سيدة الكاميليا”، وروايات غوستاف فلوبير (1821-1880) أبرزها “مدام بوفاري”.
حتى السرد الأنغلوسكسوني تمحور حول قصص حُب في عدد من أبرز أعماله الخالدة، فظهر كتاب كثر عرفوا عالمياً بأعمالهم الرومانسية، منهم ماريا إيدغوورث (1768- 1894) وجاين أوستين (1775- 1817) بروائعها الخالدة مثل “العقل والعاطفة” أو “كبرياء وتحامل” وغيرهما، وطبعاً الأميركية شارلوت برونتي (1816-1855)، ومن بعدهن بأعوام فيتزغيرالد (1896-1940) برائعته “غاتسبي العظيم”. من ناحيته عرّف الأدب الروسي بدوره رائعة تولستوي (1828-1910) “أنا كارنينا” كما عرف أدب أميركا اللاتينية روايات الكولومبي ماركيز (1917-2014) مثل “حُب في زمن الكوليرا” وروايات ألليندي التشيلية المغرقة في الدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة والحق في الحُب والحرية.
أما في ما يخص الأدب العربي نفسه فقد اعتبر نقاده أن أولى رواياته إنما هي رواية رومانسية واقعية وهي رواية “زينب” للكاتب المصري محمد حسين هيكل التي نشرت عام 1913 باسم مستعار هو “فلاح مصري”. وتعد “زينب” بمواضيعها رواية الريف المصري، وهي أيضاً رواية رومانسية تدور أحداثها حول قصة حُب وصراع الطبقات وإلى ما هنالك من عقبات تواجه العشاق منذ الأزل. وإذا ما أردنا التوقف عند قصص الحُب كلها في تاريخ الأدب العالمي لاحتجنا إلى مجلدات ومجلدات، وهذا فقط إن لم نتوقف عند المسرح أو الشعر العربي القديم بقصص أبطاله العاشقين من قيس وليلى وعنتر وعبلة وجميل بثينة وغراميات العاشق الوسيم الدون جوان عمر بن أبي ربيعة.
روائيون كثر كتبوا الحُب والرومانسية والعشق الحارق، إنما لم يخطر ببال أحد منهم ظهور فن جديد في القرن الحالي يسمى بروايات الرومانسية القاتمة (Dark romance novels)، وعلى عكس روايات الحُب التي تبجل المعشوق والعشق والتخبط بحبال الحيرة والتردد والاشتياق للآخر والمشاعر الجياشة، تجسد هذه الروايات مشاعر مختلفة تدور في محاور الغضب والعنف والعلاقة القائمة على سيد آمر مستبد وامرأة مستضعفة خاضعة.
الرومانسية القاتمة: موضة سردية معاصرة
ظهر فن “الرومانسية القاتمة” في بدايات القرن الحالي، أي بين عامي 2010 و2013، ومنهم من يعتبر سلسلة “خمسون درجة من الرمادي”
(Fifty Shades of Grey) شرارة إطلاق هذا النوع الروائي لما حققته الكتب والأفلام من نجاح وشهرة، ويبدو أن هذا الفن اعتمد النشر الذاتي قبل أن ينتقل إلى مرحلة وجود دار نشر تعنى بتحويل الكتاب إلى نسخته النهائية، فيبدأ الكتاب اليافعون بالكتابة على إحدى المنصات الإلكترونية مثل Wattpad”” أو”BookTok” على “تيك توك” أو “Bookstagram” على “إنستغرام”، وبعد أن ينال الكتاب النجاح “أونلاين” يتبناه ناشر ويحوله إلى كتاب موجود في المكتبات الحقيقية أو الإلكترونية.
وليس اختيار اسم روايات “الرومانسية القاتمة” لهذا الفن الروائي الجديد خياراً اعتباطياً ولا ساذجاً، فهذا النوع من الروايات الذي يجتاح المكتبات رويداً رويداً ويتحول كتابه إلى أصحاب أرقام مبيعات عالية، يحمل كل ما يحمله اللون الأسود القاتم المظلم من دلالات على العنف والوحشية والغضب ومحو الحُب والممنوعات.
وطالما ربط اللون الأسود القاتم والحالك في التاريخ بالموت والحداد والسحر الظلامي، لكنه رمز أيضاً إلى القوة والبطش والاستبداد، وقد امتزجت هذه المعاني كلها للأسف مع روايات الرومانسية القاتمة الجديدة لتخلق فناً سردياً معاصراً يقوم على التنكيل بالمحبوبة وإخضاعها ومعاملتها بوحشية عنيفة مذلة مع السخرية من التفاني ومن التضحية والتملص الواضح من جماليات البطولة في الحُب. وبوصف ممعن للمعاملة القائمة على الانتهاك والإذلال والعقاب والتعنيف والإخضاع والظلم، يجد القارئ نفسه في دوامة غريبة من العلاقات، أيشفق على المرأة وموقع الضحية الذي تضع نفسها فيه؟ أيكره الرجل القوي المتسلط الذي يعامل المرأة بشديد القسوة والاضطهاد والتنكيل؟ وهذه العلاقات القائمة على تخطي الخطوط الحمر والممنوعات الإنسانية والقانونية والخروج على أصول التعامل مع الحبيب كيف تؤثر في الجيل الجديد؟
تظهر النساء في هذا النوع من الروايات خاضعات ذليلات مستسلمات مغرمات بجلادهن، وكأن القارئ أمام متلازمة ستوكهولم إنما بحلة جديدة، أهي ظاهرة ستحل محل علاقات الرومانسية المتعارف عليها؟ أتراها موضوعة سنجدها بكثرة في روايات هذا القرن؟ أن تغرم المختطفة بخاطفها؟ والسجينة بسجانها؟ والمجلودة بجلادها؟ وأين هي هذه الروايات من الحركات النسائية/ النسوية العالمية التي عملت لعقود طويلة على حماية المرأة والدفاع عن حقوقها وتحريرها من نير الظلم والاستبداد والقهر والاضطهاد؟ وكيف تحول المرأة نفسها بنفسها إلى أسيرة وضحية وكائنة خاضعة بعد أن مرت بتاريخ الأدب نساء قويات أبيات، كتبن الحرية والحق بالتعلم والعمل والحق باتخاذ القرارات في ما يخص جسدهن وشخصيتهن ومستقبلهن؟
والغريب في هذا الفن الروائي القاتم الجديد هو أن أبرز الكتاب فيه هن من الروائيات النساء، من الأميركية – الصينية أنا هويانغ، مروراً بالأميركية بينيلوبي دوغلاس ورينا كنت، وصولاً إلى الجزائرية – الفرنسية سارة ريفينز. ونذكر كذلك الكندية كارينا هال والأميركية بيبير وينترز كاتبة سلسلة “وحوش” وسينتيا هافيندين الكندية، والفرنسية ريبيكا ليغييري، فتيات شابات يكتبن قصص حُب سوداء قاتمة مبنية على الخضوع والتذلل والعجز، فما كان ليكون رد فعل سيمون دو بوفوار (1908-1986) أو مارغريت دوراس (1914-1996)، أو حتى المصرية المتمردة نوال السعداوي (1931-2021)؟ أتراه هذا الفن الأسود الجديد يغزو عالمنا العربي وروايته المعاصرة؟ واليوم إذا ما سألنا علوية صبح وغادة السمان وحنان الشيخ وجمانة حداد عن مواقفهن، ما تراهن يقلن وهن اللواتي يدفعن كل يوم من كلماتهن وطاقتهن الكثير لحث النساء على التعلم والتحرر والعمل؟ وما رأي كل كاتبة عربية حرة متحررة اليوم كافحت وكابدت لتأخذ بيد النساء المقهورات المظلومات المنتهكات الجسد والعقل والروح؟
حكايات العصر الحديث المخيفة
نشأ معظم القراء على قصص خرافية جميلة زاخرة بالحُب والرومانسية والنهايات السعيدة، فانتهت القصص عموماً بجملة “عاشوا بثبات ونبات وجابوا الصبيان والبنات، وتوتة توتة خلصت الحتوتة”، إنما هذه الـ happily ever after كيف تراها تتبلور اليوم في ظل روايات “الرومانسية القاتمة”؟ وكيف يؤول المآل بالمرأة الخاضعة الخنوعة المغلوب على أمرها؟ ولماذا هذه الرومانسية الجديدة التي لا تنتهي دوماً نهاية سعيدة؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يبدو أن قارئات الروايات الرومانسية القاتمة إنما هن من الشابات المراهقات على غرار كاتبات هذا الفن الفتيات، وبدلاً من أن يقرأن قصص سندريلا والجميلة النائمة وبيضاء الثلج اللواتي ينقذهن الأمير الساحر الفاتن الطيب المقدام، يتحول الأمير إلى معذب وجلاد مستبد بدلاً من قصة الجميلة والوحش التي تغرم بالوحش وتحوله إلى أمير، ويتحول الأمير في عصرنا اليوم إلى وحش، فلماذا هذا التغير في المعايير والقيم؟
يذكر أن قصص الصغار والأساطير التي نشأ عليها قرّاء القرن الـ 20 والتي تمثل الأميرة والأمير ونهايتهما السعيدة، إنما كتبها رجال كمثل شارل بيرو (1628-1703)، ومثل الأخوين غريم: جاكوب (1785-1863) وويلهلم (1786-1859)، وهانس كريستيان أندرسن (1805-1875)، بينما تكتب اليوم قصص الوحشية والعنف واستضعاف المرأة واستغلالها وانكسارها على يد نساء، فعلامَ يدل هذا؟
والأغرب من ذلك أن الهدف من الأساطير القديمة كان منح الأمل بأن الحُب موجود والسعادة ممكنة والأحلام والإيمان غالباً ما تسير بأصحابها إلى السعادة والأمان، فما هي مرسلة هذه الروايات الجديدة؟ وما هي صورة البطلة المعاصرة التي تروج لها؟ وما هي الصورة عن المرأة التي ترسمها في لاوعي القارئات الفتيات؟
روايات “الرومانسية القاتمة” (dark romance) موضة جديدة بدأت تلقى صداها على الإنترنت وفي المكتبات وعلى الشاشات لدى تحويل الكتب إلى أفلام ومسلسلات، فهل هي ظاهرة خطرة أم أنها ثورة ستسير بالأدب إلى آفاق جديدة كما فعلت فنون روائية أخرى؟
نقلاً عن : اندبندنت عربية