يستعد البرلمان التونسي لمناقشة مشروع قانون قدمه 20 نائباً حول الحرية الاقتصادية ومكافحة اقتصاد الريع في خطوة لقطع ممارسات اقتصادية أنهكت قطاع المال والأعمال في البلاد وكبلت المبادرة الاقتصادية.
وترنو المبادرة التشريعية إلى إعطاء دفع جديد للاستثمار في البلاد، خصوصاً الاستثمار الخاص بتحرير الفاعلين الاقتصاديين ومنحهم حرية أكثر للنشاط في قطاعات عدة أبرزها كان مقتصراً على بعض الأشخاص بعينهم.
وعانت تونس خلال العقود الأخيرة ضعف الاستثمار الخاص، خصوصاً في ظل وجود قوانين غير مشجعة بل مكبلة، مما أثر بصورة لافتة في جاذبية البلاد لدى أهم صناع القرار الاقتصادي العالمي.
وتقدم أخيراً 20 نائباً في البرلمان من مختلف الكتل البرلمانية بمبادرة تشريعية تحت عنوان “مشروع قانون الحرية الاقتصادية ومكافحة اقتصاد الريع”، تبناه مكتب البرلمان وأحاله على اللجان المتخصصة للشروع في التداول فيه قبل عرضه على الجلسة العامة للمصادقة.
اقتصاد الريع يعني الدخل الإضافي الذي المحصل من قبل الأفراد من دون بذل جهد أو تضحية موازية، ومن دون استثمار أو ابتكار يبرر الحصول عليه.
عدم تجريم المخالفات والجنح المالية
ويقترح المشروع حزمة من القرارات الجريئة والقوية أبرزها عدم تجريم المخالفات والجنح المالية وتطبيق العقوبات البديلة وإلغاء العقوبات السالبة للحرية في بعض الحالات وإحداث بطاقة خاصة بالمستثمرين، علاوة على التزام الدولة تحسين المناخ الإداري والرقمي لتأسيس الشركات.
ونص على إلغاء جميع التراخيص الإدارية باستثناء بعض الحالات التي لها علاقة بالأمن العام أو الصحة العامة مع عدم تجريم أي نشاط اقتصادي مشروع ومعلن إلا في حالات محددة.
وأوضح المشروع، الوارد في 13 فصلاً، أن الحرية الاقتصادية تعتبر حقاً أساسياً يكفل للأفراد والمؤسسات ممارسة أنشطتهم الاقتصادية بحرية من دون تدخل غير مبرر من طرف السلطات، في إطار احترام القوانين والأنظمة المعمول بها التي تضمن حقوق المستهلك في المنافسة النزيهة والاستقرار الاقتصادي.
وتطرق إلى الحد من تجريم الأنشطة الاقتصادية، مؤكداً أنه لا يجوز تجريم أي نشاط اقتصادي مشروع ومعلن، إلا في حالات الانتهاكات الجسيمة التي تهدد النظام العام أو السلامة العامة، على أن تكون مبررة قانونياً وتحت إشراف القضاء.
وشدد على أنه يمنع على السلطات العامة ممارسة الضغوط غير القانونية أو التهديد بالعقوبات الجزائية ضد الأفراد أو المؤسسات لمجرد ممارسة نشاط اقتصادي قانوني.
القطع مع هيمنة المجموعات الاقتصادية
إلى ذلك، تؤكد تقارير رسمية دولية لعدد من منظمات المجتمع المدني التونسي أن الاقتصاد التونسي تهيمن عليه “كارتيلات” (مجموعات اقتصادية متغولة تقتسم السوق فيما بينها) ومجموعات بعينها وعائلات تهيمن تاريخياً على ميادين اقتصادية حيوية على غرار قطاعات البنوك والتأمين والسيارات والصناعات الغذائية.
ونتج من هذه الوضعية غلق هذه القطاعات على بقية المستثمرين التونسيين والأجانب، فبقيت حكراً على هذه المجموعات الاقتصادية التي باتت تتحكم وحدها في السوق، مما أثر في مناخ الاستثمار من جهة وتنامي الاحتكار من جهة أخرى.
ضمان حرية الاستثمار
وتطرقت المبادرة التشريعية الجديدة إلى توضيح مسألة ضمان حرية الاستثمار، بالتأكيد على أن حرية الاستثمار للأفراد أو المؤسسات تكفل من دون الحاجة إلى ترخيص مسبق في جميع القطاعات الاقتصادية، ما لم ينص القانون صراحة على تنظيم قطاع محدد لأسباب تتعلق بالأمن العام أو بالصحة العام أو المصلحة العامة، على أن تكون الضوابط في هذه الحال معللة وواضحة.
ويقترح في هذا الإطار إلغاء جميع التراخيص الإدارية المسبقة للأنشطة الاقتصادية، باستثناء تلك التي تمس الأمن العام أو النظام العام أو الصحة العامة، وتحدد الأنشطة المستثناة من هذا الإلغاء بقرار حكومي يصدر للغرض وتشكل على سبيل الذكر لا الحصر الأنشطة المتعلقة بالصحة العامة والسلامة البيئية وسلامة الأفراد والممتلكات، وتتعين على الجهات المختصة مراقبة الأنشطة المعفاة من التراخيص وضمان التزامها القوانين والأنظمة المعمول بها.
وفي حال ثبوت الإخلال بالنظام العام أو الأمن العام من طرف أصحاب الأنشطة المعفاة، تحتفظ السلطات بحق اتخاذ الإجراءات اللازمة، بما في ذلك فرض عقوبات أو إيقاف النشاط إن لزم الأمر.
حماية المنافسة النزيهة
في غضون ذلك، تم تأكيد أهمية حماية المنافسة النزيهة من خلال التزام السلطات حماية المنافسة النزيهة وتشجيعها من خلال مكافحة الممارسات الاحتكارية والتدابير التقييدية التي تعوّق انفتاح السوق، وأنه لا يجوز سن قوانين أو إصدار لوائح تمنح امتيازات احتكارية أو تقييدية لأي جهة اقتصادية، إلا إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك ووفق ضوابط واضحة ومحددة.
والتزم المشرع توفير بيئة قانونية مستقرة وآمنة للمستثمرين المحليين والأجانب ويحق للمستثمرين الاعتماد على استقرار القوانين والإجراءات الاقتصادية ولا يجوز إجراء تغييرات تؤثر في استثماراتهم، إلا وفق أسس قانونية معللة.
ومنح المشروع الحق للأفراد والمؤسسات في ممارسة الأنشطة التجارية داخل تونس وخارجها بكل حرية مع التزام القوانين المحلية والدولية المتعلقة بالتجارة وبحماية الملكية الفكرية وحماية المستهلك.
عدم تجريم المخالفات والجنح المالية
من جانب آخر، اقترح مشروع القانون عدم تجريم المخالفات والجنح المالية وتطبيق العقوبات البديلة، وأبرز أنه يحظر تجريم الأفعال المالية أو الاقتصادية البسيطة التي تصنف كجنح مالية أو مخالفات غير جسيمة باستثناء الحالات التي يثبت فيها التزوير أو السرقة.
واقترح أيضاً أنه في حال ارتكاب جنحة مالية أو اقتصادية لا تتضمن تحايلاً متعمداً أو ضرراً كبيراً على الاقتصاد الوطني أو حقوق الأطراف المعنية، تطبق العقوبات البديلة أو الإدارية، مثل الغرامات المالية أو تسوية النزاع خارج المحكمة، بدلاً من العقوبات السالبة للحرية.
التطبيق بأثر رجعي
ونص المشروع كذلك على أن تطبق فصول هذا القانون بأثر رجعي على الأفعال الاقتصادية والجنح المالية التي وقعت قبل دخوله حيز التنفيذ، شرط أن يكون التطبيق لمصلحة الأفراد والمؤسسات ويؤدي إلى إلغاء التجريم عن بعض الأفعال التي كانت تعتبر مخالفة سابقاً، وفي المقابل استُثنيت من التطبيق بأثر رجعي الحالات التي تنطوي على فساد أو تلاعب جسيم بالمال العام أو انتهاكات خطرة تمس النظام العام.
وتلتزم الدولة من خلال المشروع المعروض تحسين المناخ الإداري والرقمي وتبسيط إجراءات تأسيس الشركات لتقليل الكلف الزمنية والإدارية المرتبطة، مما يمنع تأثير الوسطاء أو الـ”كارتيلات” أو المزادات غير القانونية في الشركات الناشئة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن جهة أخرى، اقتُرح منح المستثمرين بطاقة خاصة تمكنهم من الحصول على أولوية في الخدمات الإدارية والنفاذ إلى المعلومات المتعلقة بمشاريعهم، بما يسهم في دعم أعمالهم.
وينتظر تدشين منصات إلكترونية متخصصة للمستثمرين تتيح لهم التواصل مباشرة مع الأجهزة الرقابية وتمكنهم من الإبلاغ بصورة سريعة عن أي تهديدات أو مضايقات تهدف إلى ابتزازهم أو الحد من نشاطهم الاقتصادي.
محاربة الـ”كارتيلات” الاقتصادية
وأكد النائب صاحب المبادرة ظافر الصغيري أن هذه المبادرة تتنزل ضمن الحرية الاقتصادية التي تعتبر حقاً أساسياً يكفل للأفراد والمؤسسات ممارسة أنشطتهم الاقتصادية بحرية من دون تدخل غير مبرر من قبل السلطات أو مضايقات من خلال الرسوم والتعطيلات الإدارية.
وكشف في تصريح إعلامي عن أن “هناك قطاعات بقيت حكراً على مجموعات اقتصادية بعينها وتنعدم فيها المنافسة، إضافة إلى نظام الرخص الذي فرّق بين المستثمرين وعطل تقدم البلاد”، مشيراً إلى أن المبادرة “تهدف إلى التعامل على قدم المساواة مع جميع المستثمرين وباعثي المشاريع من دون منح امتيازات لأشخاص أو مؤسسات بعينها ومحاربة بعض الكارتيلات الاقتصادية التي أعاقت المبادرة الاقتصادية”.
وشدد الصغيري على أهمية الفصل الخامس للمبادرة الذي ينص على ضمان الأمن القانوني للمستثمرين، إذ تلتزم الدولة توفير بيئة قانونية مستقرة وآمنة للمستثمرين المحليين والأجانب ويحق للمستثمرين الاعتماد على استقرار القوانين والإجراءات الاقتصادية ولا يجوز إجراء تغييرات تؤثر في استثماراتهم، إلا وفق أسس قانونية معللة.
ولفت إلى أن مكافحة اقتصاد الريع يتضح من خلال إلغاء الرخص وفتح باب المنافسة بين الجميع وتطبيق الرقمنة، وتبسيط إجراءات تأسيس الشركات وتقليل الكلف والإجراءات الإدارية المرتبطة بها، مما يمنع تأثير الوسطاء أو الـ”كارتيلات” أو المزادات غير القانونية في الشركات الناشئة.
وأوضح الصغيري أن هذه المبادرة التشريعية تحفز المبادرات الخاصة وتشجع المنافسة وإدماج الأنشطة غير الرسمية في النظام الرسمي من خلال تعزيز النمو الاقتصادي وتقليل الاعتماد على اقتصاد الريع، مما يسهم في تحقيق التنمية المستدامة.
قانون أفقي قد يصطدم بعراقيل
وتعليقاً على مشروع القانون، قال المتخصص المالي بسام النيفر إن المبادرة جيداً جداً ومن شأنها أن تسهم في تحسين مناخ الاستثمار في البلاد، لا سيما التقليص من التعطيلات الإدارية المكبلة لعدد واسع من المستثمرين التونسيين والأجانب.
واستدرك “لكن عملياً، مشروع القانون لا يمت للواقع التونسي بأية صلة، فالتعطيلات الإدارية متأتية من ممارسات بواسطة نصوص قانونية موجودة”، موضحاً لـ “اندبندنت عربية” أن “الإدارة التونسية التي ينتقدها مجتمع الأعمال والاقتصاد التونسي بصورة عامة، هي في النهاية تطبق النصوص القانونية الموجودة”، واعتبر أن هذه المبادرة التشريعية الجديدة تُعدّ قانوناً أفقياً يتعلق بقوانين أخرى ومن المنتظر أن يلغي قوانين أخرى سارية المفعول.
وأكد النيفر أن التطبيق على أرض الواقع يظل غير ممكن، مستدلاً في ذلك على مثال الشركات الأهلية في تونس الذي تتخطى التشريعات في قطاعات عدة، موضحاً أن “مشاريع القوانين الأفقية تصطدم عادة بمشكلات كبيرة في التطبيق، إذ تعترضها قوانين وإدارات أخرى، من خلال تقيّدها بالنص القديم وليس بالنص الأفقي”، واقترح أن يترافق تطبيق المبادرة التشريعية مع ثورة تشريعية موازية بتغيير عشرات القوانين ذات العلاقة بدفع الاستثمار والحرية الاقتصادية.
وانتقد النيفر مسألة إلغاء العقوبات والجنح المالية الواردة في المبادرة التشريعية، مبرراً ذلك بأن التخلي عن العقوبات قد يسبب فوضى وعدم احترام القوانين على غرار ما حدث في قانون الصكوك البنكية بعد التخلي عن العقوبة السجنية.
نقلاً عن : اندبندنت عربية