لم يكن الطبيب البريطاني توماس لاتا يدرك أن اختراعه، الذي سخره لإنقاذ أرواح المرضى الذين كانوا يعانون الجفاف الحاد في خضم تفشي وباء الكوليرا في إنجلترا عام 1832، سيصبح بعد قرن ونصف قرن محط اهتمام كبير في عالم الصحة والجمال.

إذ كانت فكرته البسيطة تعتمد آنذاك على حقن المرضى بسوائل ملحية مباشرة في الوريد لتعويض الأملاح والسوائل المفقودة، لكن هذا الحل الطبي الطارئ تطور مع مرور الزمن ليأخذ شكلاً جديداً في ما يعرف اليوم بـ”الفيتامينات الوريدية” أو “الفيتادريب”.

تعد هذه السوائل وسيلة لإعطاء تركيزات عالية من الفيتامينات والمعادن عن طريق الوريد، متخطية الجهاز الهضمي، مما يضمن امتصاصها بسرعة. ومع ذلك لم تسلم هذه الصيحة من الزخم التسويقي، إذ يروج لها بين الأصحاء كحل شامل يعالج عدداً من المشكلات الصحية، بما في ذلك الجمال والنضارة.

الفيتامينات الوريدية

في العاصمة السعودية الرياض تقصت “اندبندنت عربية” تلك السوائل، ورصدت ترويج بعض المراكز الصحية لها تحت عناوين جذابة وبراقة، إلا أن كثيراً منها يفتقر إلى أدلة علمية راسخة، مما يضعها في دائرة الشك والجدل.

وتنوعت “كوكتيلات الفيتامينات” بمسمياتها، فمنها ما يعرف بأسمائها التقليدية، وأخرى تحمل تسميات مثيرة، مثل محلول لـ”مكافحة أعراض الشيخوخة” الذي يزعم أنه يقلل علامات تقدم العمر، كما تشمل محاليل “لتخفيف إرهاق السفر” التي تدعي إعادة النشاط والحيوية للمسافرين بعد الرحلات الطويلة، إلى جانب محاليل “لترطيب الجسم وتبييضه” التي توحي بتحسين صحة البشرة وزيادة إشراقها وتوحيد لونها.

كما ظهرت محاليل تروج لـ”تخفيف أعراض الاكتئاب”، بزعم تحسين المزاج بصورة فورية، وأخرى مخصصة بعد عمليات تكميم المعدة، تهدف إلى تعزيز الطاقة وتسريع عملية التعافي ودعم المناعة. وتشمل هذه المحاليل جرعات من “فيتامين دال”، إلى جانب فيتامينات أخرى مثل البيوتين وفيتامين ب 12.

خدمة منزلية

تواصلت “اندبندنت عربية” مع عدد من المراكز الصحية التي تقدم باقات متنوعة من الفيتامينات والمعادن من دون اشتراط إجراء فحوص طبية لتحديد احتياجات الجسم من هذه الجرعات المركزة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ تقدم مراكز أخرى خدمات منزلية لإعطاء المحاليل الوريدية، بإشراف فريق طبي متخصص، مما يثير التساؤلات حول مدى الالتزام بالمعايير الصحية والرقابة الطبية اللازمة.

 

ويوفر أحد المراكز الصحية باقة تتضمن ثلاثة محاليل وريدية تؤخذ في جلسة واحدة بسعر يقارب 10 آلاف ريال سعودي (2665 دولاراً)، تعطى هذه الجرعات كل ثلاثة أشهر، وتحتوي على أكثر من 25 نوعاً من الفيتامينات والمعادن التي يدعى أنها تعزز الصحة العامة للجسم، وتحسن الأداء الجسدي والعقلي. وتستغرق الجلسة الواحدة ما بين 45 دقيقة إلى ساعة، بينما قد تصل بعض الجلسات الأخرى إلى ثلاث ساعات، ما يثير التساؤلات حول أسباب تلك المدة الطويلة.

وزعم المركز أن المحاليل “آمنة جداً” ولا تسبب أي آثار جانبية، مشيراً إلى أنها تحتوي على فيتامينات ومعادن فقط، ومؤكداً عدم الحاجة إلى إجراء تحاليل مسبقة قبل الحصول على الجرعات. وأوضح أن هذه الباقات مناسبة للجميع، ذكوراً وإناثاً، ممن تجاوزوا 12 سنة. أما مركز آخر فأكد ضرورة إجراء تحليل طبي قبل استخدام المحاليل، مما أوحى بوجود تناقض قد يعكس غايات مالية، خصوصاً أن المركز يشترط الدفع المسبق قبل حجز الموعد الذي يجب أن يكون قبل الجلسة بيومين، بحجة تحضير المحاليل بحسب طلب العميل.

فعاليتها على الأصحاء

وعن فعالية تلك الفيتامينات الوريدية، أوضحت وزارة الصحة السعودية عبر موقعها الرسمي أن “من الشائع استخدامها عن طريق الوريد للأشخاص الذين لا يستطيعون الحصول على احتياجهم من الفيتامينات والمعادن، إما لأنهم لا يستطيعون تناول ما يكفي من الطعام، أو بسبب وجود حالة طبية تعوق امتصاص العناصر الغذائية داخل الجسم”، وأشارت الوزارة إلى أن الأدلة العلمية الحالية لم تؤكد الآثار الصحية لاستخدام تركيبات الفيتامينات الوريدية لدى الأشخاص الأصحاء، كما أن سلامة استخدامها لا تزال غير واضحة.

الأعراض الجانبية

تبين أن للفيتامينات الوريدية أخطاراً صحية جسيمة قد تتجاوز فوائدها المزعومة، وذكرت وزارة الصحة السعودية على موقعها أن الأعراض الجانبية المحتملة لتركيبات الفيتامينات الوريدية تشمل زيادة تعرض الجسم للإصابة بالعدوى وتكوين جلطات دموية وحرقة في موضع الحقن، كما أن تعريض الكبد والكليتين لكميات كبيرة من الفيتامينات قد يضعهما تحت ضغط كبير، مما قد يؤدي إلى خلل في وظائفهما.

 

إضافة إلى ذلك فإن حقن جرعات عالية من الفيتامينات مع المغذيات قد يزيد من حمل السوائل في الدم لدى مرضى ارتفاع ضغط الدم أو القلب، مما يعرضهم لخطر تلف الكلى أو القلب.

موضة صحية

في سياق متصل قال أستاذ الطب الوقائي والصحة العامة محمود عبدالرحمن، في حديثه مع “اندبندنت عربية”، إن بعض الممارسات الترويجية لخدمات تطرح تحت غطاء تحسين الصحة بدأت بالظهور. وتشمل هذه الممارسات تقديم جرعات من المواد والمكملات كحل سريع لمشكلات لا تعد مرضية في أصلها، بل هي ناتجة من أنماط حياة غير صحية.

 

وأضاف عبدالرحمن أن هذه التوجهات امتدت إلى “موضة” تزويد الجسم بالفيتامينات والمعادن عبر السوائل الوريدية، وأوضح أن هذه المحاليل مخصصة علمياً لفئات مرضية تواجه صعوبة في امتصاص هذه المواد، أو للمرضى المنومين الذين يعانون عدم القدرة على تناول الطعام بالفم أو جفافاً ونقصاً حاداً في بعض العناصر الغذائية، ومع ذلك بدأ بعض المتخصصين بتقديم هذه الحلول للشباب والعامة بدلاً من تحسين أنماط غذائهم اليومية.

وأوضح أستاذ الطب الوقائي أن الاحتياجات اليومية للفيتامينات والمعادن للبالغين الأصحاء لا تتجاوز كميات دقيقة، مثل احتياج الجسم إلى فيتامين دال الذي يبلغ 600 وحدة دولية يومياً (ما يعادل 15 ميكروغراماً). أما بقية الفيتامينات والمعادن فهي تقاس بوحدات صغيرة جداً، وأقصاها 1000 مليغرام مثل الكالسيوم. وأكد أن هذه الاحتياجات يمكن تلبيتها من خلال الغذاء المتوازن الذي يشمل الخضراوات والفواكه والمنتجات الزراعية واللحوم.

وأشار الأكاديمي السعودي إلى أن استخدام المحاليل الوريدية من دون حاجة طبية يمثل عبئاً إضافياً على الجسم، إذ يؤدي إلى فرط السوائل ويؤثر في أعضاء حيوية، مما قد يتسبب في اختلال الأملاح والمعادن في الجسم، مسبباً اضطرابات في القلب وارتفاع ضغط الدم واحتباس السوائل.

التسمم الفيتاميني

من جانبها قالت اختصاصية التغذية الدكتورة رويدة إدريس إن الجسم يحتاج إلى الفيتامينات والمعادن بنسب محددة تقاس بالمايكروغرام، وأشارت إلى أن الحصول على هذه العناصر من المصادر الطبيعية مثل الغذاء يعزز من كفاءتها وامتصاصها مقارنة بالمصادر الصناعية كالحبوب أو الإبر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأضافت إدريس أن الإصابة بالتسمم الفيتاميني من المصادر الطبيعية تكاد تكون مستحيلة، لأن الجسم يتخلص من الفيتامينات والأملاح الزائدة عبر الإفرازات، أما عند تناول المكملات الغذائية مثل الحبوب فيمكن أن يكون هناك احتمال للإصابة بالتسمم الفيتاميني.

وأكدت إدريس لـ”اندبندنت عربية” أن الطريقة الأمثل لتلبية احتياجات الجسم من الفيتامينات والمعادن هي من خلال الغذاء الطبيعي، ويمكن اللجوء إلى المكملات الغذائية فقط في حال وجود نقص محدد، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه المكملات قد تسبب لبعض الأشخاص حساسية أو مشكلات صحية، كما أشارت إلى أن الفيتامينات والمعادن المستمدة من الغذاء الطبيعي تتمتع بكفاءة امتصاص أعلى مقارنة بالمصادر الصناعية.

نقلاً عن : اندبندنت عربية