أتحدث هنا عن الكتاب الجيد أدبياً كان أو فكرياً، إذ إن سردية الكِتاب تعد مؤشراً موثوقاً لمعرفة حال الاقتصاد الوطني، ولقياس مستوى الصحة الجسدية والفكرية والسياسية للمواطن في بلد بعينه، ولمراقبة صلابة الوحدة الوطنية وكذلك جس نبضه للوقوف على طبيعة العلاقة مع الآخر.

يعتبر الكتاب في عين الجزائري رفاهية عيش أو وسيلة من وسائل الترفيه، فهو ليس من الأولويات الوطنية للمواطن، إذ إننا غالباً ما ننسى أو نجهل أو نتجاهل بأن الأمم القوية والمتماسكة عبر التاريخ الإنساني الحديث والمعاصر هي تلك التي منحت الأولوية للإبداع والمعرفة من خلال تقديس الكتاب والقراءة، سواء في أوقات السلم أو كقوة ناعمة لتجنب الحروب القذرة المفروضة.

البيت الذي يخلو من مكتبة، بغض النظر عن مستوى معيشة الأسرة التي تسكنه، فقيرة كانت أو متوسطة الحال أو غنية، هو بيت ملعون بلا نور، فالكتاب يطرد التفاهة والجهل والعنف والكراهية.

تتغير حياة الكتاب من مجتمع إلى آخر ومن حقبة زمنية إلى أخرى، وحتى من لغة إلى أخرى، فكل لغة لها سلّم قيمها ولها ذاكرتها الخاصة المحتوية على مفاتيح رمزية، وقبل ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي كانت مكانة الكتاب في حياتنا اليومية تتميز برؤية بسيطة وتقليدية قريبة من حال التقديس، وها هو هذا العصر الجديد للاتصال قد هز حياتنا بالكامل سواء على مستوى الاستهلاك أو العلاقات الإنسانية، وفي ذلك لم يكن الكتاب بمنأى عن هذا الزلزال الثقافي والاجتماعي.

المواطن الجزائري مثل نظيره المغاربي يمر بمنطقة اضطرابات ثقافية حادة تؤثر في علاقته الحميمة بالكتاب وبالقراءة، وها هي حقبة كاملة بكل ما لديها من تقاليد متجذرة في الكتاب الورقي تتلاشى لتحل محلها حقبة إلكترونية ورقمية جديدة بكل ما تحمله من سلوكيات وردود أفعال جديدة وأخطار أيضاً، ونحن نقطع “منطقة الاضطراب” الثقافي هذه ينبغي على علماء الاجتماع والمتخصصين في نظريات القراءة التفكير بجدية في خصوصيات هذه المنطقة التي تهدد الكتاب ويصل تأثيرها إلى حدود تغيير قيم المواطنة برمتها، فنحن أمام سؤال تاريخي وحضاري جوهري: كيف يمكن ضمان انتقال سلس من صورة القارئ التقليدي الذي ظل لقرون يعتمد على الورق، وهو تقليد محكوم عليه بالزوال، إلى قارئ جديد ينتمي إلى حقبة أكثر تعقيداً ومنفتحة على كل الاحتمالات السلبية والإيجابية؟

بالتأكيد لا يمكننا الهرب من حتمية زحف وتقدم آلة الزمن الرقمية، ولكن يجب أن نتكيف معها وندخل فيها، وأن نتلاءم مع تطورها الحتمي بذكاء عبر النقاش والمقترحات الجادة البعيدة من الـ “نوستالجيا” والقريبة من البراغماتية.

وأمام زحف التكنولوجيا الرقمية بما فيها من وحشية وأيضاً من خيرات إنسانية متداخلة، فنحن مدعوون إلى إعادة النظر في سلسلة إنتاج الكتاب في الجزائر برمتها بشجاعة ومسؤولية فكرية، فأولاً يجب العمل على تغيير العادات القديمة البالية التي تهيمن على مهنة المكتبات Les Bibliothèques  والتي يعود بعضها لزمن اختراع الطباعة بل وقبلها، فالمكتبة ليست مستودعاً للكتب / الجثث أو الكتب / الموتى، والمكتبة ليست مقبرة للكتب أو مقبرة مشتركة للأدب، المكتبة الحديثة هي مكان حيّ للمواطنة الثقافية والدفاع عن الحياة، الكتاب، أي كتاب، لا يُقرأ صدفة بل يجب الترويج له وإعادة إحيائه والتعريف به والدفاع عنه، وهذا من مهمات أمين المكتبة الجيد، لذا تحتاج المكتبة إلى مكتبيّ على دراية وعاشق للقراءة ومستعد وقادر على منح الكتب القديمة منها والجديدة حياة جديدة من خلال اقتراحها والدفاع عنها لدى القارئ.

لنحرر المكتبات من صورتها القاتمة والمنغلقة ولنمنح المكتبة الأوكسجين الضروري من خلال النقاش المسؤول والحرّ والمثمر حول الكتاب وحول منتجيه من كتّاب وناشرين، وحول القراء والقراءة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سردية الكتاب يتقاسمها: الكاتب والناشر والموزع والمكتبي البائع Le libraire وأمين المكتبة والقارئ والإعلام، ومكتبة البيع La librairie حلقة أساس في سلسلة إنتاج الكتاب، فهي ليست متجراً عشوائياً للكتب، ومهنة بائع الكتب مثل مهنة أمين المكتبة، مهنة نبيلة ومرهقة وحاسمة، ومع ذلك تبقى أفقر نشاط تجاري في سوق المهن، فتحية احترام لكل بائعي الكتب أو من بقي منهم والذين لا يزالون يقاومون من أجل الكتاب والقارئ.

ولكي تحتفظ مكتبة البيع بمكانتها الحيوية والمركزية التي لا يمكن الاستغناء عنها في العصر الرقمي الجديد، يجب أن تتكيف مع التغيرات الكبرى التي تجتاح الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والأخلاقية والسياسية، فالمكتبة مدعوة إلى تجديد مظهرها ومحتواها، وهي تعبر منطقة اضطراب ثقافي كبير كي تصمد، بل وعليها أن تعيد النظر في مفهوم “التجارة الكتبية” في حد ذاتها، وكي تخرج مكتبة البيع سالمة من منطقة الاضطراب هذه يجب عليها أن تعرف كيف تجمع بين تجارة الكتاب وتجارة الوسائط السمعية والبصرية والترفيهية، مما يمنح الكتاب حياة جديدة وأفقاً جديداً من دون المساس بجوهره أو خيانته، ولا يمكن تحقيق ذلك من دون ضمان حرية تداول الكتب وحرية التعبير وحرية النقد  ودعم الدولة، فالدولة يجب أن تسهر على حياة المكتبات وبقائها بكل الوسائل الممكنة، القانونية والتجارية والمالية بعيداً من الوصاية.

ويعد النشر L’édition حلقة أساس في سلسلة الكتاب، ودار النشر ليست المطبعة بل هي رؤية ثقافية ومشروع تجاري والتزام مواطني ونضال فكري وسياسي، وفي الجزائر كما في البلدان العربية والمغاربية جميعها تقريباً، يفتقر الناشرون بلا استثناء إلى التكوين الجاد للتعامل ومواجهة الخيبات المالية والأيديولوجية، ففي بلد مثل الجزائر يضم 12 مليون تلميذ وما يقارب 1.5 مليون طالب جامعي، يفترض أن يكون هؤلاء جميعهم من مستهلكي الكِتاب بكل تنوعاته الأدبية والعلمية والفكرية، للأطفال واليافعين والكبار، ولذلك يبدو الاستثمار في الكتاب استثماراً واعداً.

ومع ذلك والمجتمع يعبر منطقة الاضطراب الثقافي هذه، وحتى في وجود القارئ المحتمل بهذا العدد الكبير، لكنه يحتاج إلى الاكتشاف والمرافقة والتأطير، ففي هذا الزمن الذي نعبره في شكل منطقة اضطراب يحتاج العالم إلى التفكير في ورقة طريق جادة قادرة على إنقاذ “أمير الثقافة” الكتاب من أزمته، وفي غياب رؤية واضحة واستشرافية للكتاب فلن تكون هناك سينما مستدامة ولا مسرحاً جاداً ولا إنتاجاً سمعياً بصرياً تنافسياً.

نقلاً عن : اندبندنت عربية