التطورات الأخيرة في سوريا والتي كانت متسارعة ولم تسمح لطهران والنظام السياسي فيها بالتقاط الأنفاس لمعرفة ما يجري واتخاذ الخطوات التي تخفف الخسائر والتداعيات، وضعت أمام قيادة النظام مسلمة واضحة وصادمة إلى حد ما في الوقت نفسه، نتيجة ما لمسته من تنسيق وتعاون وتخطيط ثلاثي الأبعاد بين الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا باعتبارها عضواً في الـ “ناتو”.
هذا التعاون المدروس وضع القيادة الإيرانية أمام حقيقة أن هذه التطورات من التخطيط إلى التنفيذ كانت تهدف إلى إحداث تغييرات جذرية في موازين القوى في المنطقة والعالم بما يخدم الهدف الأميركي والإسرائيلي بإضعاف “محور المقاومة” الذي تقوده طهران وإحداث تصدعات في موازين القوى الإقليمية، في حين أن تركيا باعتبارها لاعباً محورياً استغلت موقعها الجيوسياسي لتحقيق طموحاتها بلعب دور في المنطقة.
وإذا ما كانت هذه التطورات تشكل مرحلة جديدة لإعادة تشكيل الأوزان الإستراتيجية للاعبين الإقليميين ووضعت القوى المتضررة أمام أزمات جديدة، فإن هذه القراءة تستند إلى معطيات غير دقيقة تقوم على اعتقاد أن إيران ومحورها هما الجهة المتحكمة في مسارات ومعادلات الإقليم، وأن القوى الأخرى تسعى إلى أن تكون شريكاً لهما في هذه المعادلات، مما يعني أن هذا المحور لم يأخذ بالاعتبار عينه أياً من مصالح الدول الأخرى بالاعتماد على فائض القوة التي يشعر بها وقدرته على التحكم في مسارات الأحداث.
ما حدث من تطورات في سوريا ثم ما أدت إليه تداعيات الحدث اللبناني والخسائر القاسية التي لحقت بـ “حزب الله”، وما يشكله من نقطة ارتكاز للنفوذ والمشروع الإيراني في الإقليم، وضع إيران أمام حقيقة الاعتراف بالأدوار الإستراتيجية التي تملكها أطراف إقليمية أخرى عملت على عدم الاعتراف بها خلال العقود الماضية، أو سعت إلى إضعافها وإخراجها من المعادلات الإقليمية.
الدور الكبير والمفصلي الذي تقوده تركيا في المشهد السوري بالتعاون مع الدولة القطرية، وحجم الانكفاء الروسي الذي قد يصل حد تعزيز الاعتقاد لدى القيادة الإيرانية بوجود صفقة روسية – تركية من جهة، وروسية – أميركية – إسرائيلية من جهة أخرى، جعل طهران تستفيق من آثار الصفعة التي تلقتها من هذه الأطراف لتجد نفسها وحيدة في مواجهة هذه المتغيرات المتسارعة التي تستهدف فقط وجودها ونفوذها ومصالحها الإستراتيجية، لتصب في الهدف الأميركي – الإسرائيلي المشترك الساعي إلى محاصرتها وتقليم أظافرها وتقطيع أذرعها وإجبارها على العودة لداخل حدودها، بخاصة أن التطورات السورية ستوافر الأرضية الصلبة لكل من تركيا وقطر في تحقيق الأهداف القديمة التي تطمحان إليها في هذه المنطقة من البوابة السورية، ليحلّ التركي مكان الإيراني في المعادلات الإقليمية، وتستطيع الدوحة تحقيق أهدافها الاقتصادية ذات البعد الإستراتيجي الذي يسمح لها بتصدير مصادر طاقتها إلى الأسواق الأوروبية بسهولة.
أمام هذه الوقائع والحقائق السياسية والجيوسياسية التي شهدتها المنطقة تشكل الحلقة السورية المحور الأساس في قراءات القيادة الإيرانية، إذ تخرج الساحة اللبنانية من أية رؤية مستقبلية لكيفية التعامل مع هذه المستجدات، بمعنى أن الساحة اللبنانية التي كانت تعتبر المحور في أي حراك إيراني باتجاه الإقليم فقدت هذا الموقع نتيجة ما أصاب حليفها “حزب الله” من ضربات وخسائر وتراجع جعله يقف على عتبة الترنح، بخاصة أنه بات غير قادر على التصدي أو استيعاب حجم ما يتعرض له من حصار وتراجع أمام خصومه على الساحة الداخلية، إضافة إلى تراجع قدرة إيران على أن تشكل جبهة دعم له وبخاصة بعد أن استخدمت ورقة انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان كورقة على طاولة مفاوضاتها مع الـ “ترويكا” الأوروبية، وكمقدم لأية مفاوضات محتملة مع إدارة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حجم الإرباك الذي تشعر به القيادة الإيرانية من التطورات السورية وتداعياتها ظهر بصورة واضحة في الخطابات المتكررة لمرشد النظام الذي انشغل في البحث عن مسوغات لهذه الخسارة أو الصفعة التي لحقت بمشروع إيران الإقليمي، إضافة إلى محاولة امتصاص الأصوات الداخلية التي بدأت تطرح أسئلة حول الجدوى من أعوام الدعم التي قدمتها إيران للنظام السوري على حساب مصالحها الداخلية وأمنها الاقتصادي، وبالتالي فإن المرشد والقيادة معه يسعيان إلى تهدئة الداخل انطلاقاً من إحساسهما بإمكان حصول انفجار داخلي وتزايد الضغوط على التركيبة السياسية للنظام.
المناورات العسكرية المركبة التي قامت بها قوات “حرس الثورة” مع قوات التعبئة “باسيج” ومشاركة الوحدات الخاصة والدفاع الجوي والصاروخي والقوات البرية والجوية تهدف إلى إيصال رسالة إلى الداخل والخارج أن النظام على استعداد لمواجهة أية تحديات قد تطرأ على الساحة الداخلية، سواء في مواجهة أية محاولة لزعزعة استقراره الداخلي إن من خلال التظاهرات والاعتراضات، أو من خلال أي تحرك للجماعات المعارضة، أو في استعراض قدراته في التصدي لأي عدوان جوي، مما يعني أنه استعاد قدراته بعد أن تعرضت لخسائر جراء الهجوم الإسرائيلي الأخير، وأنه قادر على مواجهة أي هجوم من الخارج.
في المقابل لا تزال القيادة الإيرانية تعتقد أن الأمور لم تصل إلى المستوى الذي يضعها في خانة خسارة كل الأوراق، إذ تعتقد أن عليها إعادة النظر في سياساتها الإقليمية بالتزامن مع تعزيز قدراتها الدفاعية الشعبية وزيادة الاهتمام بتحقيق العدالة الاجتماعية والأمور المعيشية للإيرانيين والانسجام الداخلي، ومن ثم الانطلاق باتجاه إعادة ترتيب ما بقي لها من أوراق إقليمية وما تملكه من نفوذ وتوظيفه في ترميم موقعها.
الرهانات الباقية للنظام الإيراني تراجعت إلى حدود العمل من أجل الحفاظ على ما تملكه من نفوذ على الساحة العراقية وإبعاد هذه الساحة عن التجاذبات الحاصلة بينها وبين الولايات المتحدة، إضافة إلى تعزيز موقف جماعة الحوثي في اليمن والتركيز على الدور الإستراتيجي الذي تلعبه هذه الجماعة من خلال تحكمها بمضيق باب المندب والبحر الأحمر وطرق التجارة الدولية فيه، بخاصة أنه يشكل استكمالاً للمناورة العسكرية لـ “الحرس” والتي تضمنت محاكاة لعملية إقفال مضيق هرمز، لتكون في نهاية المطاف قادرة على توظيف كل هذه الأوراق من أجل بناء تحالفات مع دول الشرق لتعزيز مناعتها لمواجهة الضغوط الأميركية، وبالتالي تكون قادرة على وضعها على طاولة التفاوض المحتملة مع واشنطن كمدخل لإنهاء العقوبات والحصار وما يحملانه من أخطار تضع النظام في مواجهة مصير معقد داخلياً وإقليمياً.
نقلاً عن : اندبندنت عربية