يشهد كثير من دول جوار الجزائر، وبخاصة الساحل الأفريقي تحديات أمنية واقتصادية عدة، تنعكس على مستوى التنمية والتنسيق الثنائي بينها، مما جعلها تعيد هندسة علاقاتها متخذة من ملفات الطاقة والمصالح المتبادلة ركيزة لإعادة تموقعها كقوة إقليمية واقتصادية.
الاقتصاد
ومن الواضح أن الاقتصاد يتحكم بعلاقات الجزائر مع البلدان المحيطة بها بالدرجة الأولى لأن معظمها يعاني تدهوراً أمنياً وعدم استقرار سياسي أو هشاشة تنموية، وهو مجال ضروري لاستعادة السلام وتجاوز أزمة الصراعات على الحكم التي تعيشها منذ فترة من دون انفراج مثلما هي الحال في النيجر وليبيا.
ولهذا الغرض استحدث الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قبل خمسة أعوام وكالة للتعاون الدولي من أجل التضامن والتنمية جرى رصد مليار دولار لها وتعمل على مساعدة دول الجوار عبر تنفيذ مشاريع في النيجر ومالي، وتتكفل حالياً بتمويل الطريق البري بين الجزائر وموريتانيا.
ومع ارتفاع حدة التحديات المالية والاقتصادية في تونس تدخلت الجزائر مطلع عام 2025 لحل أزمة الغاز المنزلي في البلاد لمواجهة زيادة الطلب المحلي بسبب برودة الطقس.
بين الجزائر وتونس
ولم تكن هذه المرة الأولى التي تساعد فيها الجزائر جارتها الشرقية، فقد أودعت مبلغ 150 مليون دولار لدى تونس مطلع عام 2020 ثم أتبعته بقرض بقيمة 30 مليون دولار في ديسمبر (كانون الأول) 2021، وآخر بقيمة 200 مليون دولار، إضافة إلى منحة مالية بقيمة 100 مليون دولار في ديسمبر 2022، وتجاوز تعزيز التعاون من المساعدات إلى الاستثمار بعدما وقع البلدان على 27 اتفاقاً منها ما يخص الصناعة والطاقة.
ووقعت تونس والجزائر في الـ 10 من يناير (كانون الثاني) الجاري اتفاقي شراكة في مجال الكهرباء بهدف تعزيز الشراكة الاقتصادية والاجتماعية بين الطرفين، والربط الكهربائي الثلاثي مع ليبيا بهدف مواجهة جملة من التحديات الطاقية وبخاصة في ما يتعلق بالاستجابة لذروة استهلاك الكهرباء خلال فصل الصيف وتخفيف الضغط على شبكات النقل والتوزيع، علماً أن تونس ترتبط بخط كهربائي مشترك مع الجزائر يجري من خلاله دعم الشبكة الكهربائية في تونس بقدرات تتراوح ما بين 400 و600 ميغاوات خلال أوقات الذروة في الصيف.
الملف الطاقوي
وفي ظل ربط متابعين بين الملف الطاقوي ومحاولات الهيمنة، نفى الخبير الاقتصادي الجزائري نبيل جمعة بحث الحكومة الجزائرية في هذا الأمر، وقال إن “استخدام ورقة الطاقة يعد إستراتيجية فعالة لإعادة تموقعها كقوة إقليمية واقتصادية ودبلوماسية، مما يمكنها من لعب دور حيوي في تعزيز العلاقات الدبلوماسية وتحقيق المصالح المشتركة لهذه البلدان”، في حين يحمل الاقتصاد والطاقة أهمية كأداتين فعالتين من أجل تعزيز النفوذ الاقتصادي، ولا سيما في ظل تمتع الجزائر ببنية تحتية وتطلعها لاستكمال مشاريع ضخمة مثل أنبوب الغاز العابر للصحراء مع النيجر ونيجيريا.
النيجر وليبيا
وأوضح جمعة أن هذه المجالات من شأنها خلق روابط طويلة الأمد بين البلدان المجاورة والحبيسة التي لا تملك منافذ بحرية، “مما يسهم في استقرار العلاقات ولا سيما مع النيجر وليبيا”.
وحول أهدافها قال أيضاً إن “مشاريع التنمية الاقتصادية توفّر بدائل للشباب مما يحد من انتشار التطرف والجريمة المنظمة في هذه المنطقة”، لافتاً أيضاً إلى أهمية فتح فروع جزائرية بنكية كما فعلت في موريتانيا “إذ سيدعم هذا الإجراء عمليات التحويل المالي بين الجزائر وهذه الدول، ويوافر خدمات تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة ويسهم في تطوير القطاع الخاص”.
موريتانيا
وتوجهت السلطات الجزائرية بثقلها الدبلوماسي نحو موريتانيا التي تربط بها حدود شاسعة عبر زيارات مكثفة ومشاريع مشتركة، إذ زار تبون نواكشوط الشهر الماضي للمشاركة في منتدى أفريقي حول “الشباب والتوظيف”، كأول زيارة لرئيس جزائري منذ ثلاثة عقود، بعد شهور من إقامة البلدين منطقة حرة للتبادل التجاري، كما يواصل البلدان أشغال بناء طريق حدودي يربط مدينة تندوف الجزائرية بمدينة الزويرات الموريتانية لمسافة 850 كيلومتراً بتمويل جزائري، لتجد بذلك منفذا آخر باتجاه دول غرب أفريقيا في ظل تأثير الوضع الأمني على منفذي مالي والنيجر.
الاستثمارات طويلة الأمد
وبالنسبة إلى تحديات الوضع الأمني غير المستقر في ليبيا والنيجر فقد اقترح الخبير نبيل جمعة تكثيف الاستثمارات طويلة الأمد وتعزيز التعاون الأمني لضمان حماية المشاريع والعمل عبر المؤسسات القارية مثل الاتحاد الأفريقي لتوفير التمويل وتحقيق التكامل الإقليمي، وقال تبون في أحد تجمعاته الانتخابية الصيف الماضي بمحافظة جانت الحدودية إن “ليبيا والنيجر ومالي دول شقيقة ولا نريد لها إلا الخير”، ليؤكد رغبته في رفع التبادلات التجارية مع كل دول الجوار.
وفي ليبيا التي تشهد اضطرابات أمنية متقطعة وأزمة حكم في أعقاب تأجيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية مرات عدة، تبنت الجزائر مقاربة براغماتية تقوم على بعث استثماراتها الطاقوية المعطلة منذ ما يزيد على عقد من الزمن نتيجة الأوضاع الأمنية في البلاد، وأعلنت شركة “سوناطراك” الحكومية استئنافاً كاملاً لأعمالها في ليبيا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي، في وقت أكد المدير العام للشركة رشيد حشيشي أن “المجمع يعمل حالياً على تطوير واستكشاف حقول النفط والغاز في مناطق الامتياز المتفق عليها، مع التركيز على حوض غدامس”.
المسائل الاقتصادية
من جهته رأى الباحث السياسي الليبي حسام الدين العبدلي أن المسائل الاقتصادية وعلى رأسها النفط والغاز واليورانيوم، تعتبر محوراً رئيساً لتوطيد العلاقات بين الدول الجارة، منوهاً بالاستثمارات الجزائرية في ليبيا أو النيجر وموريتانيا ومرافقتها بالحراك الدبلوماسي، “فخلال الفترة الأخيرة عرضت الجزائر على طرابلس، انطلاقاً من تجربتها الطويلة في تحييد المتطرفين، القيام بالوساطة في المصالحة الوطنية، وهو الملف الذي يعمل عليه المجلس الرئاسي الليبي عبر الاتحاد الأفريقي”، موضحاً في الوقت عينه أن “ما يجمع البلدين علاقات خاصة جداً تختلف عن منطقة الساحل الأفريقي لما يجمعهما من تاريخ ودم مشترك”.
ولفت المحلل الليبي إلى أن “القضايا الاقتصادية دائماً ما تفتح أبواب المصالحة والحوار ما بين الدول، والسير عبر هذا الطريق أفضل مجال لاستعادة العلاقات”، في إشارة إلى تمكن الجزائر والنيجر من استعادة علاقاتها بعد جمود دبلوماسي شهده البلدان منذ إسقاط نظام الرئيس محمد بازوم وتولي رئيس المجلس العسكري عبدالرحمن تياني السلطة صيف عام 2023.
واتفقت شركة “سوناطراك” – الجزائر ووفد نيجري يضم خبراء ومتخصصين في مجال التكرير والبتروكيماويات على مشروع إنشاء مصفاة ومجمع بتروكيماوي بمدينة دوسو في النيجر، وأعلنت “سوناطراك” استئناف أنشطتها بمربع كفرا في النيجر حيث توصلت إلى اكتشافين نفطيين خلال الأعوام الماضية باحتياطات تصل إلى 270 مليون برميل، بحسب بيانات رسمية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اضطرابات أمنية
وبعد توقفه بسبب اضطرابات أمنية في نيامي عاصمة النيجر، اتفق البلدان على استكمال مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء بين الجزائر والنيجر ونيجيريا الذي لم يتبق على إتمامه سوى 800 كيلومتر من مجموع 4 آلاف كيلومتر، وتصل موازنته إلى أكثر من 13 مليار دولار.
ويستهدف المشروع نقل نحو 30 مليار متر مكعب سنوياً من الغاز النيجيري إلى أوروبا عبر الجزائر، بينما يحظى بدعم كبير من البنك الأفريقي للتنمية والاتحاد الأفريقي، وتُعول عليه القارة العجوز للاستغناء عن الغاز الروسي.
وفي السياق أكد القيادي في حزب “التجديد الديمقراطي والجمهوري” بالنيجر عمر الأنصاري استخدام الجزائر دبلوماسية التنمية الاقتصادية مع دول الجوار ومنها بلاده، “ولكن جدوى تلك المبادرة التنموية تتوقف على مدى تأثير ذلك في الدبلوماسية السياسية من منظور من يرى أن السلطة السياسية تسيطر على الاقتصاد وليس العكس”، ولفت إلى تأثير الأزمة الدستورية منذ التغييرات الدستورية غير القانونية في نيامي على اقتصاد البلاد.
وبحسب تقديراته فإن “المشاريع التنموية المشتركة من خط الأنابيب العابر للصحراء وحقل كفرا وبناء مصفاة في دوسو وغيرها ربما تجعل نيامي براغماتية” في علاقاتها مع الجزائر.
أمن الجزائر
بدروه رأى الباحث في علم الاجتماع السياسي بجامعة “وهران” الجزائرية كرايس الجيلالي أن “الحديث عن هذه البلدان حديث عن أمن الجزائر وعمقها الإستراتيجي، ولذلك فأي استثمار في هذه الدول هو بمثابة تعزيز لأمنها وتأمين حدودها وتكريس للاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في هذه المنطقة، فمن خلال تلك الاستثمارات يمكن الحد من كثير من التهديدات الأمنية مثل الهجرة غير الشرعية وتجارة الأسلحة والجماعات الإرهابية”، وأكد أنها “مخاوف لا بد من الحد منها والتحكم فيها من طريق خلق شراكات اقتصادية حقيقية وتعاون إقليمي بمنطق رابح رابح”.
وواصل الجيلالي “أنه في ظل شعور فرنسا بتقلص نفوذها في الجزائر والدول الأفريقية بصفة عامة، فيستوجب أن تعوض الجزائر الدور الفرنسي وتحاول خلق شركات اقتصادية تعزز أمنها، وفي الوقت نفسه تقدم الدعم لهذه الحكومات وتساعدها في حل أزماتها الاقتصادية من طريق نظرة شاملة ذات بعد استشرافي”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية