مع بداية كل عام، يأتي شهر يناير (كانون الثاني) حاملاً معه دفء السينما وسط برودة الشتاء، ويفتح شهية عشاق الفن السابع حول العالم، حيث تتناثر مهرجانات السينما في كل أصقاع الأرض.

أكثر من 10 مهرجانات تقام خلال هذا الشهر وحده، لتتحول الشاشة الكبيرة إلى نافذة تطل منها الثقافات والإبداعات والتجارب الإنسانية المختلفة. وعلى رأس هذه المهرجانات يبرز مهرجان “صندانس” في الولايات المتحدة، إلى جانب مهرجانات أخرى مثل روتردام في هولندا وبالم سبرينغز في كاليفورنيا.

لكن ما الذي يجعل المهرجانات تنبض بالحياة بهذا الشكل؟ ربما تكمن الإجابة في الحوادث الطريفة أو اللحظات المدهشة التي سجلها تاريخ السينما. هل تعلمون مثلاً أن مهرجان “كان” السينمائي، تأجل انطلاقه الأول في عام 1939 بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية؟ أو أن مهرجان “صندانس” كان في بداياته مجرد منصة متواضعة للأفلام المستقلة، لكنه تحول الآن إلى عاصمة السينما البديلة؟

أرقام وإحصاءات مذهلة تكشف مدى شغف العالم بالسينما، مثل ما أشار إليه تقرير حديث بأن أكثر من 800 مهرجان سينمائي يقام سنوياً حول العالم.

ما المهرجان السينمائي؟

المهرجان السينمائي هو حدث ثقافي وفني يعنى بعرض مجموعة مختارة من الأفلام، ويهدف إلى توفير منصة تجمع بين صنّاع السينما والنقاد والجمهور للاحتفاء بالفن السابع والترويج له. إنه أكثر من مجرد شاشة عرض كبيرة، فهو يمثل وسيلة لتعزيز التنوع الثقافي وتكريم الإبداع ودعم الإنتاج المستقل، إلى جانب كونه فرصة للتواصل والتفاعل بين الفنانين والمستثمرين والمهتمين بصناعة السينما.

بدأت فكرة المهرجانات السينمائية في أوائل القرن العشرين عندما أصبحت السينما شكلاً متزايد التأثير من أشكال الفن والترفيه. وكان مهرجان البندقية السينمائي، الذي انطلق في عام 1932 كجزء من “بينالي البندقية” Venice Biennale، أول مهرجان رسمي من نوعه. جمع هذا الحدث كبار المخرجين والممثلين من مختلف أنحاء العالم في احتفالية تهدف إلى تكريم الأعمال السينمائية والتأكيد على مكانة السينما كفن عالمي.

نشأت المهرجانات السينمائية بدوافع متعددة؛ أبرزها الرغبة في توفير منصة للأفلام التي قد لا تجد طريقها إلى العرض التجاري، مثل الأفلام التجريبية أو المستقلة. كما أنها سعت إلى تعزيز الحوار الثقافي من خلال تسليط الضوء على التنوع الإنساني والاحتفاء بقصص الشعوب المختلفة. إضافة إلى ذلك، لعبت دوراً اقتصادياً بارزاً في تنشيط السياحة وزيادة الاستثمارات في الصناعة السينمائية، حيث يقدّر الأثر الاقتصادي لمهرجان “كان” على سبيل المثال بأكثر من 200 مليون يورو سنوياً، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة “ذا غارديان”.

أما الجوائز المرموقة مثل “السعفة الذهبية” و”الدب الذهبي”، فقد أصبحت رمزاً لتكريم التفوق الفني، وشكلت حافزاً لصنّاع الأفلام حول العالم. وهكذا، ليست المهرجانات مجرد احتفال بالأفلام، بل منصة لإعادة تشكيل صناعة السينما وابتكار مساحات جديدة تجمع بين الفن والتجارة والثقافة.

البث الرقمي

تطورت المهرجانات السينمائية على مر السنين بشكل كبير من حيث الحجم والأهداف والتنوع في الأفلام المعروضة، مما جعلها محطات ثقافية وفنية هامة تجذب ملايين المتابعين من جميع أنحاء العالم.

في بداياتها، كانت المهرجانات تقتصر على عرض مجموعة محدودة من الأفلام الوطنية والدولية، وكان لها طابع فني ثقافي أكثر من كونه تجارياً. على سبيل المثال، اقتصر مهرجان “كان” السينمائي في سنواته الأولى على عرض أفلام ذات طابع فني تجريبي وتقدمي، بينما بدأ مهرجان برلين في عام 1951 في التركيز على السينما الأوروبية والعالمية في محاولة لتقديم أعمال تجسد الواقع السياسي والاجتماعي لأوروبا ما بعد الحرب.

مع مرور الوقت، تطورت هذه المهرجانات بشكل كبير من حيث الحجم والتنوع. فبينما كانت بعض المهرجانات في البداية تقام في أماكن صغيرة، أصبحت اليوم تعرض أفلاماً من جميع أنحاء العالم، ويشارك فيها آلاف من السينمائيين والنقاد والمشاهدين. مثلاً، في عام 2019، وصل عدد الأفلام التي تعرض ضمن فعاليات مهرجان “كان” إلى أكثر من 2000 فيلم، ما بين أفلام قصيرة وطويلة، وأصبح يشهد مشاركة مئات المخرجين العالميين. أضحت المهرجانات السينمائية اليوم أكثر تنوعاً من حيث الأنواع السينمائية، إذ لا تقتصر العروض على الدراما فقط، بل تشمل الوثائقيات والأفلام التجريبية والرسوم المتحركة، إضافة إلى الأفلام التجارية من هوليوود وغيرها.

أما على صعيد التكنولوجيا، فقد أسهم تطورها في تغيير جذري في شكل المهرجانات وطريقة تنظيمها. مع ظهور العروض الرقمية، أصبحت المهرجانات السينمائية قادرة على عرض أفلام عالية الجودة، حتى في الأماكن التي كانت تفتقر إلى معدات العرض التقليدية.

 

كما أن البث المباشر أصبح وسيلة شائعة لنقل العروض والأحداث الهامة للمهرجانات إلى جمهور أوسع عبر الإنترنت. على سبيل المثال، منذ عام 2016، بدأ مهرجان “كان” السينمائي ببث عروضه عبر الإنترنت للمرة الأولى ليتمكن المتابعون من مشاهدة الأفلام في وقت لاحق من العرض.

وفي السنوات الأخيرة، غيرت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير من طريقة التفاعل بين المهرجانات والجمهور. أصبح بإمكان المهتمين بمهرجانات السينما متابعة التطورات اليومية، والتواصل مع المشاركين في الفعاليات، ومشاركة آرائهم حول الأفلام على منصات مثل “إكس” و”إنستغرام” و”فيسبوك”. أتاح ذلك للجماهير التفاعل بشكل أكبر مع الأفلام والسينمائيين، كما سهل الترويج لها عالمياً.

يرى عديد من النقاد أن التكنولوجيا سهلت وصول الجمهور إلى المهرجانات، ولكنها في الوقت نفسه قد تضر بالتجربة الفريدة التي يقدمها حضور العروض الفعلية. كما يؤكد المخرج الفرنسي فرانسوا أوزون أن المهرجانات لا تزال تشكل مساحة حيوية لتبادل الثقافات، ولكنه يعترف بأهمية الابتكار التقني لتوسيع نطاق التأثير الثقافي لهذه الفعاليات. بينما كان المخرج الأميركي الشهير ديفيد لينش يرى أن تجربة المهرجانات بشكل مباشر تظل ضرورية لتقييم ردود فعل الجمهور بشكل فوري، وهو ما يصعب تحقيقه عبر منصات الإنترنت.

لكن لا يمكننا إنكار الدور المهم الذي لعبته التكنولوجيا خلال وباء كورونا، حيث شهد عديد من المهرجانات تحولاً سريعاً نحو العروض الرقمية والجولات الافتراضية. مهرجان البندقية السينمائي، على سبيل المثال، كان من بين أولى المهرجانات الكبرى التي أقيمت بشكل شبه كامل عبر الإنترنت في عام 2020، ليتيح للمشاهدين من مختلف أنحاء العالم متابعة العروض ومناقشة الأفلام من منازلهم. وعلى رغم التحديات، أظهر الجمهور تفاعلاً كبيراً مع هذه الطريقة الجديدة، حيث حضر أكثر من 30 مليون شخص مهرجانات سينمائية افتراضية خلال فترة الوباء.

الأبرز عالمياً

من بين الأسماء البارزة على الساحة العالمية نجد مهرجان “كان” في فرنسا، الذي يعد واحداً من أرقى وأقدم المهرجانات السينمائية في العالم، والذي أُقيم للمرة الأولى في عام 1946.

يضم مهرجان “كان” العديد من الفئات مثل الأفلام الطويلة والقصيرة والأفلام الوثائقية، ويتم اختيار المشاركين بناء على معايير مهنية وشديدة التنافس. أبرز جائزة في المهرجان هي السعفة الذهبية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هناك أيضاً مهرجان “البندقية” السينمائي في إيطاليا الذي يُعد الأقدم في تاريخ السينما. ويشتهر بقدرته على تقديم أفلام جريئة ومختلفة تسهم في خلق موجات جديدة في السينما العالمية.

أما مهرجان برلين السينمائي، فيجمع بين الطابع الفني والمحتوى الاجتماعي والسياسي، حيث يتمكن الفيلم الذي يعرض فيه من توصيل رسائل قوية لمختلف الثقافات والمجتمعات.

الأبرز عربياً

في العالم العربي، راحت المهرجانات السينمائية تكتسب أهمية كبرى مع الوقت، مثل مهرجان “القاهرة” السينمائي الدولي الذي يعتبر من أبرز مهرجانات العالم العربي، ويقام سنوياً في مصر منذ عام 1976، ويعرض أفلاماً محلية ودولية ويعد أحد أكبر منصات السينما العربية.

كذلك، كان ينظر إلى مهرجان “دبي” السينمائي الذي انطلق في عام 2004، كملتقى مهم للأفلام العربية والعالمية، ويعد من أبرز مهرجانات السينما في منطقة الشرق الأوسط، على رغم توقفه في السنوات الأخيرة.

 

بدورها، شهدت السعودية أخيراً تحولات ملحوظة على صعيد المهرجانات السينمائية. ففي عام 2020، أُقيم مهرجان “البحر الأحمر” السينمائي في جدة، ليكون حدثاً رئيساً في السينما السعودية والعربية، حيث جلب اهتماماً كبيراً لصناعة السينما المحلية والأفلام العربية، كذلك تشهد السعودية اهتماماً متزايداً بالصناعة السينمائية وفتح دور السينما، مما يتيح الفرصة لتنظيم مهرجانات أخرى مستقبلية.

ما يجعل مهرجاناً سينمائياً ما “بارزاً” هو تاريخه العريق وتأثيره الثقافي والفني وقدرته على جذب جمهور عالمي. علاوة على ذلك، يلعب التنوع في الأفلام المعروضة دوراً مهماً في إبراز مكانة المهرجان، فكلما كانت الأفلام المشاركة تغطي مجموعة واسعة من المواضيع والتوجهات، كان المهرجان أكثر تأثيراً في مختلف الأوساط. أما بالنسبة للأفلام التي تعرض في هذه المهرجانات، فإن إدارة المهرجان تختار عادة الأفلام التي تمتاز بالإبداع الفني وجودة السرد والتأثير الثقافي، إضافة إلى محاكاة القضايا الاجتماعية والإنسانية التي تهم الجمهور العالمي.

تأثير ثقافي وجدل فني

تلعب المهرجانات السينمائية دوراً محورياً في صناعة السينما وتسهم بشكل كبير في تطويرها، فهي بمثابة منصات لعرض الأفلام المستقلة، وتقديم فرص للمخرجين والمبدعين الذين لا يجدون دائماً مساحة في الأسواق التجارية.

من خلال مهرجانات عالمية مرموقة مثل مهرجان “كان” و”صندانس” و”البندقية”، يستطيع المبدعون عرض أعمالهم التي قد لا تجد مكاناً في صالات العرض التقليدية. على سبيل المثال، فوز الفيلم الكوري الجنوبي المستقل “طُفيلي” Parasite بسعفة مهرجان “كان” الذهبية في عام 2019، يظهر كيف يمكن للأفلام الصغيرة والمختلفة أن تصل إلى جمهور عالمي وتحصد الجوائز الكبرى بفضل المهرجانات.

من جانب آخر، تسهم المهرجانات في تشكيل ذوق الجمهور وتوسيع آفاقه. من خلال عرض مجموعة متنوعة من الأفلام التي قد تكون مختلفة تماماً عما يعرض في صالات السينما التجارية، تتيح المهرجانات للجمهور فرصة لاكتشاف أفلام من ثقافات متعددة، وبأساليب فنية متنوعة. يعزز هذا تقدير الأفلام غير التجارية، ويسهم في فتح عيون الجمهور على تجارب سينمائية غير مألوفة.

أما في الجانب الثقافي، فتعد المهرجانات السينمائية منصات هامة لتعزيز التنوع والحوار بين الشعوب، فهي تجمع ممثلين ومخرجين ومنتجين وجماهير من ثقافات مختلفة. وغالباً ما تكون الأفلام التي يتم عرضها في المهرجانات تعبيراً عن هوية الثقافات المختلفة، وتساعد في تسليط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية التي تهم المجتمعات في كل مكان.

لكن، على رغم هذه الأدوار الإيجابية، تثير المهرجانات السينمائية العديد من النقاط الجدلية. فعلى سبيل المثال، يختلف النقاد والجمهور حول كيفية اختيار الأفلام التي تُعرض، حيث يرون أن بعض المهرجانات قد تركز على أفلام بعينها بسبب علاقات صناعية أو مصلحية وليس بالضرورة بسبب جودتها الفنية.

عدالة الجوائز

وهناك جدل مستمر أيضاً حول الجوائز التي تُمنح في المهرجانات، هل هي عادلة أم لا؟ هل تتمثل في الأذواق العامة أو تركز على الاتجاهات السائدة في الفن؟ غالباً ما يكون هذا الجدل حاضراً في مهرجانات مثل “الأوسكار” أو “كان”، حيث يتساءل عديد من النقاد عن مدى التأثير التجاري على منح الجوائز.

أما من حيث تأثير المهرجانات على صناعة السينما بشكل عام، فالآراء متباينة. بينما يعتقد البعض أن المهرجانات تسهم في تحسين جودة الأفلام عبر تسليط الضوء على الأعمال الفنية غير التجارية، يرى آخرون أنها تسهم في تعزيز الأفلام ذات الطابع التجاري، التي تسعى لجذب الجوائز أكثر من تقديم أعمال مبدعة.

ويعتقد بعض النقاد أن بعض المهرجانات مثل “صندانس” قد تفضل الأفلام المستقلة ذات الطابع التجاري التي تحمل أهدافاً اجتماعية، بينما تذهب مهرجانات أخرى مثل “كان” نحو أفلام ذات طابع فني عميق قد لا تكون قادرة على النجاح في الأسواق التجارية، وهو ما يثير الكثير من الجدل بشأن الاتجاهات التي يجب أن تتبعها الصناعة.

في النهاية، تظل المهرجانات السينمائية بمثابة بوابة لعالم من الإبداع والتنوع، حيث تتلاقى الأفكار والرؤى على شاشات ضخمة وسط حشود من عشاق الفن السابع. وعلى رغم التحديات التي فرضتها التكنولوجيا والتغيرات السريعة، تبقى هذه الفعاليات مهداً لكل حديث في صناعة السينما، وكل دورة جديدة تفتح أفقاً مختلفاً للمتعة والإلهام.

ومع استمرار تزايد عدد المهرجانات وتنوعها، يظل يناير شاهداً على الاحتفال الأكثر حضوراً للسينما في كل مكان، مرشداً لنا لاكتشاف أفلام تروي قصصاً نادراً ما نراها في صالات العرض المحلية.

نقلاً عن : اندبندنت عربية