قبل مئة عام، صدر كتاب “ملوك العرب” للكاتب أمين الريحاني، في طبعته الأولى، وفيه يترجم لثمانية من الملوك والأمراء العرب، في تلك الحقبة التاريخية، وفي مقدمهم الملك عبد العزيز آل سعود، ذلك أن علاقة خاصة تقوم على الصراحة والثقة والاحترام المتبادل ربطت، في الربع الأول من القرن العشرين، بين الأديب والملك، إلى حدّ أن الأول كان يطلع الثاني بالتدريج على مسودة الكتاب المحتفى به، كما يتبين من رسالته إليه المؤرخة في نوفمبر(تشرين الثاني) 1923، وقد وضعه الريحاني في محاولة من المؤلف لتعريف المترجَم لهم بعضهم ببعض، وإرساء قاعدة للتفاهم فيما بينهم على مصلحة البلاد العربية التي يتولون حكمها.
وهو ما يعبر عنه في المقدمة بالقول: “فها أنا إذن في هذا الكتاب، ولا فخر ولا اعتذار، أعرّف سادتي ملوك العرب بعضهم إلى بعض تعريفاً يتجاوز الرسميات والسطحيات. وليتحقق سادتي أن ليس في الثناء فيما كتبت تزلف أو مداهنة، ولا في النقد تشيع أو تحامل. إنما غايتي القصوى تمهيد السبيل إلى التفاهم المؤسس على العلم والخبر اليقين”، على حد تعبيره. وهذه الغاية ليست بغريبة على الريحاني، المسكون بهاجس الوحدة، والحالم بتأسيس “الولايات العربية المتحدة”.
هاجس الوحدة
المفارق في هذا السياق، أن المؤلف يعزو الفضل، في ملازمة هذا الهاجس له، إلى بعض الكتاب الأجانب الذين أتيحت له قراءتهم، وبعض المستشرقين الذين التقى بهم في الولايات المتحدة الأميركية، كما ورد في مقدمة الكتاب. فبعد فكرة مسبقة عن العرب، انتقلت إليه في الصغر، ترى في البدوي والأعرابي “بعبعاً” تخوّف به الأم أولادها، يشكل اطلاعه على كتاب “الأبطال” للكاتب الانكليزي توماس كارليل، وكتاب “الحمراء” للكاتب الأميركي واشنطن إيرفينغ فرصة لتصحيح الفكرة المسبقة عن العرب، حتى إذا ما اطلع على لزوميات أبي العلاء المعري، يروح يفاخر بانتمائه إلى الأمة التي نبغ فيها “شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء”، ويقوم بترجمة الكتاب إلى الانكليزية.
ويأتي لقاؤه ببعض المستشرقين الذين يرسمون صورة زاهية عن البلاد العربية، باديةً وواحاتٍ ونخيلاً وشعراً ونبوءة، ليعزز انتماءه إلى الأمة العربية. وهو ما يتم التعبير عنه في كتاب “ملوك العرب” الذي انتهى من تأليفه في 14 سبتمبر (أيلول) 1924. وبذلك، يكون الريحاني من أوائل القائلين بالقومية العربية، والمناضلين لتحقيق وحدة البلاد العربية بالقلب واليد واللسان.
وإذا كان الريحاني، الأديب والشاعر والفيلسوف والرحالة والصحافي والمصلح الاجتماعي والمناضل السياسي، قد مرّ بمراحل مختلفة في مسيرته الأدبية والفكرية، وكتب المقالة والقصة والرواية والمسرحية والقصيدة والمقالة النقدية والنص الفلسفي، مما يجعل الكاتب حازم صاغية يصفه بالكائن الكوزموبوليتي الذي “يعرف العالم ويجيد فهمه والعيش فيه وفي ثقافاته والتجوال على تخومها”، فإن “ملوك العرب” ينتمي إلى مرحلة النضج في هذه المسيرة الطويلة. لذلك، نراه يتخطى المرحلة الرومنسية التي طبعت بداياته الأدبية، فيهتم بالقضايا السياسية والوطنية والقومية والدينية والدنيوية، في كتابه، مما يجعل منه خزانة ملأى بالمعارف التاريخية والجغرافية والسياسية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية، المتعلقة بالمنطقة المدروسة، في تلك الحقبة التاريخية. ولعل هذا ما يختصره العنوان الفرعي للكتاب “رحلة في البلاد العربية مزينة برسوم وخرائط وفهرس أعلام”. وهي رحلة تغطي الحجاز واليمن وعسير ولحج والنواحي المحمية، في الجزء الأول من الكتاب. وتغطي نجد والكويت وعربستان والبحرين والعراق، في الجزء الثاني منه.
همّ المستقبل
يهدي الريحاني كتابه إلى “الناشئة العربية الناهضة في كل مكان” ما يستبطن انهماماً واضحاً بالجيل الجديد. لذلك، يحرص في كتابه على نقل وقائع الماضي والحاضر إلى المستقبل المعني هذا الجيل بصناعته. وبهذا المعنى، يكون الريحاني رؤيوياًّ بامتياز. وبالانتقال من عتبات العنوان الرئيس والعنوان الفرعي والإهداء إلى متون الكتاب، يتبين لنا أن الريحاني يترجم فيه لعدد من الملوك والأمراء والعائلات الحاكمة في الجزيرة العربية؛ فيترجم، في الجزء الأول منه، للملك حسين بن علي، والإمام يحيى بن حميد الدين، والسيد الإدريسي، وسلاطين (ومشايخ) لحج. ويترجم، في الجزء الثاني، للسلطان عبد العزيز آل سعود، والأمير أحمد جابر آل الصباح، وآل خليفة، والشيخ خزعل خان، والملك فيصل بن الحسين. وفي إطار هذه التراجم، وعلى هوامشها، يحفل الكتاب بمعلومات زاخرة في أخلاق الملوك، طبائع الشعوب، الملل والنحل، البداوة والحضارة، العادات والتقاليد، التربية والتعليم، البداوة والحضارة، اللغة والأدب، الشعر والشعراء، الموسيقى والغناء، الأمراض والأوبئة، وغيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الكتاب ” طائفة من الآراء التي تهم العرب خصوصاً والإسلام عموماً، والتي تهم الأوروبيين عموماً والانكليز خصوصاً، يجدها القارئ في مكانها من البحث. أمّا الذين لا تهمهم السياسة بقدر ما يهمهم العلم والأدب، والأسفار، فقد خصصتهم بقسم مما كتبت”، على حد تعبيره في مقدمة الكتاب، ما يجعل منه عملاً موسوعياًّ بامتياز، يأخذ من كل علم بطرف، وفق تعريف ابن خلدون للأدب.
يشكل الكتاب دعوة مفتوحة للترحل في البلاد العربية، بعيداً من التفرنج والتأمرك اللذين كانا سائدين، في تلك الحقبة التاريخية، ولا يزالان حتى أيامنا هذه، ومن شأن تلبية هذه الدعوة أن يعود السائح إلى حقيقته، وأن يعثر على نفسه التي أضاعها في برج بابل المدنية الغربية. فالريحاني الذي يهرب من ضوضاء نيويورك وماديتها المفرطة، ويجد في الصحراء العربية واحة يفيء إليها من ضجيج المدن وإيقاع الحياة السريع فيها، يدعو الأدباء العرب، في سوريا ومصر وأمريكا، إلى السياحة معه، “إلى حقائق لمسنا ظلها في آداب العرب القديمة، وإلى حقائق أنستنا إياها الأيام والغربة، وإلى حقائق يجهلها كثيرون حتى من العرب أنفسهم، وإلى حقائق ننقلها عن علماء الإفرنج ملتوية مشوّهة”، على حد تعبيره.
بعد الرحلة المتنوعة التي يدعونا إليها الريحاني على متن 965 صفحة من الكتاب، يخلص في خاتمته إلى تشخيص الداء الذي تعاني منه الجزيرة العربية ووصف الدواء الناجع لها. أمّا الداء، فيشخّصه بتغلب المذهبية على الدين، وتقدّم القبلية على القومية، والخلط بين الخلافة والسياسة. وأمّا الدواء، فيصفه بـفصل الخلافة عن السياسة، على غرار ما فعل كمال أتاتورك في تركيا، وحكومة منظمة عادلة، ومدارس وطنية عامة، وطرق مواصلات حديثة. ويعلم أن دون ذلك عقبات كثيرة، داخلية وخارجية. لذلك، يقترح فترة سماح طولها 25 عاماً كي يؤتي الدواء الموصوف ثماره المرجوّة.
لا بد من الإشارة إلى أن سعة ثقافة الريحاني ودقة ملاحظته وحسن مقارنته جعلته يخرج بخلاصات مختصرة، جامعة مانعة، تتعلّق ببعض الشخصيات المترجَم لها في الكتاب. ففي معرض المفاضلة بين ملوك شبه الجزيرة، في تلك الحقبة التاريخية، يقول في خاتمة الكتاب: “رعية الملك حسين تطيعه وتخافه. رعية ابن سعود تطيعه وتحبه. رعية الإمام يحيى تطيعه دون حب ودون خوف. رعية الملك فيصل لا تخاف ولا تطيع إلاّ مكرهة”. ويخلص بنتيجة المفاضلة إلى التساؤل: ” فمن من الملوك المذكورين في شبه الجزيرة يستحق أن يسود العرب؟”. والجواب، من وجهة نظره، هو الملك الذي تطيعه الرعية وتحبه. هو الملك عبد العزيز آل سعود.
نقلاً عن : اندبندنت عربية