إذا استندنا إلى ما تركه لنا مؤرخو عصر النهضة الأقدمون، وربما يكون جورجيو فازاري على رأسهم، من نصوص تتعلق بالصورة التي يمكن أن تبقى لدينا عن ذاك الذي لا شك أن علينا أن نعتبره واحداً من الثلاثة الكبار في فنون عصر النهضة، وربما واحداً من كبار الكبار في فنون كل الأمكنة والأزمنة، سنطلع في النهاية بصورة في غاية السلبية تتناقض ربما مع العبقرية والأريحية والرهافة التي تطالعنا في فنه نفسه. والحال أن ذلك التصور سيخلق تناقضات مزعجة تفرق بين الأداء الفني والأداء السلوكي لصاحب سقف كاتدرائية سكتين الفاتيكانية، ويمكننا أن نقول هنا إن معظم النصوص الكبرى التي تناولت سيرة ميكائيل أنجلو قد اتسمت بذلك التناقض، مما رسخ عنه صورة غير مستحبة، وفي الأقل حتى الربع الأخير من القرن الـ19، أي بعد ما يزيد على ثلاثة قرون من رحيله عن عالمنا.

ولكن لماذا كان كل ذلك الانتظار؟ ببساطة لأنه حدث في عام 1875 تحديداً أن اكتشف باحثون من بينهم الإيطالي جوفاني بابيني نحو 500 رسالة تأكدوا بسرعة أنها تمثل متن مراسلات ذلك الفنان الكبير، حتى وإن كانوا قد أدركوا أن ثمة عدداً كبيراً من رسائل أخرى لا تزال في حاجة إلى أن يعثروا عليها، وهم عثروا لاحقاً على رسائل إضافية لكن الكنز الأول كان هو الأهم ولا سيما منذ نشرت محتوياته مرتين، أولاهما عام العثور على الكنز والثانية عام 1910 وفي فلورنسا تحديداً، ولقد كان من أبرز ما عثر عليه لاحقاً بضع رسائل متبادلة مع فازاري اكتشفت عام 1908.

مع الكبار والصغار

فهل يمكننا أن نقول هنا إن تلك الرسائل قد بدلت وبصورة جذرية النظرة العامة إلى ميكائيل أنجلو؟ بالتأكيد، وبخاصة أنها لم تكن من نوع الرسائل التي يكون تبادلها محدوداً مع أشخاص معينين، فتكشف نوع العلاقات التي كانت قائمة ضمن ذلك الإطار المحدود، بل كانت رسائل مع عدد كبير من الأشخاص، من كبار القوم إلى أقلهم أهمية في السلم الاجتماعي، من الكبار في السن أو الصغار، من الأقارب والأصدقاء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

رسائل مجاملة أو بوح عائلي، رسائل شكوى من إجحاف ما، ورسائل تعبر عن آراء فنية، رسائل تبرر مواقف فنية أو سياسية، وأخرى تفسر عملاً فنياً معيناً، رسائل نصح عائلي أو أخرى تلوم تلاميذ على إخفاقاتهم، كل أنواع الرسائل تراكمت في تلك المجموعة، لتقول بكل هدوء: لا… لم يكن ذلك النحات والرسام والمعماري الكبير الفنان المتعارف الجلف الذي كنا نعتقده! ولم يكن ذلك الشخص الذي يعيش في عزلة متجنباً الآخرين غير مبالٍ بحياتهم وآلامهم وإحباطاتهم، ولم يكن ذلك الأناني الذي ينطوي على فنه مفضلاً ألا يتحدث عما يفعله زملاؤه ولا سيما منهم منافسوه وخصومه وبخاصة دا فنشي ورافائيل مجايلاه اللذان يقول لنا التاريخ المتداول، وبعض الفقرات لدى فازاري، إنه بالكاد كان يهتم بهما أو يلقي بالاً لأعمالهما الكبرى.

والحقيقة أن الصورة الجديدة تلوح واضحة وبلغة ميكائيل أنجلو التي تكاد تماثل لغته في القصائد التي كان يبدع في كتابتها وبخاصة حين يتحدث فيها عن أعماله الفنية، والحقيقة أنه إذا كان الشعر مقصوداً لذاته في تلك النصوص التي من المنطقي القول إن الفنان كان يكتبها أولاً وأخيراً لنفسه، فإن الحال مع الرسائل يفترض أن تكون مختلفة، ومع ذلك يفاجئنا الفنان حين يتعامل لغوياً وأسلوبياً مع الرسائل تعامله مع الشعر.

بين البابا والقريب العاق

وفي هذا السياق من اللافت أن ميكائيل أنجلو لا يفرق في المعاملة بين كبار الكبار وصغار الصغار، ففي المجموعة المكتشفة كما في ما اكتشف من بعدها، رسائل تلفتنا أسماء أولئك المتبادلة معهم، وهي لفتت حقاً الباحثين الذين صنفوها ليجدوا أن العدد الأكبر من بينها رسائل عائلية تبادلها الفنان بخاصة مع أبيه لودوفيغو، كما مع أخويه جوفاني سيموني وجيسموندو، والطريف الغريب هنا هو أن الرسائل المتبادلة مع هؤلاء الثلاثة ليست مؤرخة في الحقبة نفسها، فهو مثلاً تراسل مع أبيه بين 1497 و1523، ثم مع أخيه الأول بين 1487 و1527، فمع أخيه الثاني بين 1507 و1546، ولكن هناك في المراسلات العائلية رسائل كثيرة متبادلة مع ابن أخيه ليوناردو بين 1540 و1563 تكشف عن أنه كان يحب ذلك القريب الشاب أكثر مما أحب أي قريب له آخر، وذلك على رغم أن ليوناردو كان شاباً عقوقاً تسبب لعمه بكثير من المشكلات وضروب الأسى، وتحكي لنا هذه الرسائل الأخيرة كيف أن ميكائيل أنجلو كان يعتبر علاقته مع ابن أخيه من مآسي حياته الكبرى في أعوام عمره الأخيرة.

 

وإلى جانب تلك الرسائل العائلية نجد رسائل أكثر أهمية بكثير، منها تلك التي تبادلها الفنان مع اثنين من كبار القوم ربي نعمته، البابا كليمان السابع والملك الفرنسي فرنسوا الأول، وهي في معظمها مراسلات تتعلق بالعمل والمشاريع الكبرى التي كلفه بها هذان العاهلان، ولا تقل أهمية عن ذلك بالطبع الرسائل المتبادلة مع عدد من أمراء آل مديتشي في فلورنسا من الذين كانوا رعاته ومموليه في اللحظات الصعبة من حياته، وتعرف بفضلهم إلى الكبار الآخرين، وفي مقدم أولئك لورنزو دي مديتشي الأول والدوق كوزيمو دي مديتشي.

دعوة إلى الهدوء

وطبعاً لم يكن ذلك كل شيء، فمن المهم أن نذكر هنا أيضاً وبصورة بخاصة أن ثمة رسائل كثيرة في مراسلات ميكائيل أنجلو تتعلق مباشرة بالعمل، وهي رسائل كان يتبادلها مع معاونيه في العمل وبخاصة منهم قاطع الحجارة دومنيكو، الذي كان يلقب بتوبولينو، وكان الفنان الكبير يعتبره من أقرب معاونيه إليه، وكان، كما يبدو من الرسائل، يحب أن يمازحه ويدلله بكل بساطة ومحبة، معتبراً إياه رفيقه الخاص في العمل كما في الحياة، وهو كان يذكره بصورة متواصلة بخاصة في الرسائل التي كان يتبادلها مع فازاري، حين لا تكون ثمة فترات زعل بينه وبين هذا الأخير، كما تحدث عنه كثيراً في تراسله مع بلومبو وفيتوريو كولونا، ولعل ما يجدر بنا أن نلاحظ في عدد لا بأس به من الرسائل المتبادلة بين فناننا وفازاري وبينه وبين بلومبيو وكولونا، كونها المكان الوحيد الذي يأتي فيه على ذكر خصميه الأساسين ومنافسيه كما أسلفنا، رافائيل وليوناردو دا فنشي، ناهيك بالمعماري برامانتي الذي كان في المرحلة التي تحدث عنه ميكائيل أنجلو مناصراً لدا فنشي ضده، والحقيقة أن حديث ميكائيل أنجلو عن أولئك ندر له أن أشار إلى فنهم، بل كان مجرد شكوى، بخاصة موجهة إلى فازاري، من تلك التصرفات التي يمارسونها ضده، ولكن من دون أن يفصل لفازاري كنه تلك الممارسات، ما يفترض أن هذا الأخير كان على علم بما يفعلون، وأن المناكفات الفنية بين مكاتبه وبينهم كانت معروفة ومنتشرة أخبارها في البيئة الفنية في فلورنسا وحتى في روما، لكن ميكائيل أنجلو يعف عن الخوض في تفاصيلها أملاً من فازاري أن يتولى هو الأمر، وربما يكون استنكاف فازاري عن التدخل هو ما أغضب الفنان الكبير منه، وأوقع شيئاً من العداوة بينهما، لكنها عداوة لم تدم طويلاً، وربما يمكن لمجموع تلك الرسائل أن يكشف لنا إلى جانب كثير عن شخصية ميكائيل أنجلو، جزءاً كبيراً من سلوكياته التي اتسمت بالمرارة والتمزق بين رغبته في أن يكون طيباً وممارسات الآخرين التي تحول بينه وبين التمسك بكل تلك الطيبة المختبئة في داخله.

نقلاً عن : اندبندنت عربية