ربما كان روبرت كينيدي الابن مستعداً لمواجهة الهجمات عليه سواء كانت جسدية أو سياسية، إلا أنه لم يكن مستعداً على الإطلاق لتلقي أشد الانتقادات من امرأة غاضبة داخل أسرته. كما أن الاستجواب المكثف الذي خضع له من لجنة المالية في “مجلس الشيوخ” الأميركي – التي تمتلك من خلال التصويت الكلمة الفصل في المضي في ترشيحه لمنصب وزير الصحة والخدمات الإنسانية – كان أقل وطأة، مقارنة بالرسالة المفتوحة التي كتبتها ابنة عمه كارولين كينيدي.
كارولين الابنة الوحيدة للرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي التي ما زالت على قيد الحياة – وأول امرأة تتولى منصب سفيرة الولايات المتحدة لدى اليابان – ظهرت في تسجيل مصور لها وهي تقرأ نص الرسالة، عبر حسابها على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ وجهت سلسلة من الاتهامات القاسية إلى قريبها أمام العالم.
قالت كارولين في الفيديو إن روبرت كينيدي الابن “يفتقر لأية خبرة ذات صلة بالعمل الحكومي أو الشأن المالي أو الإدارة، أو الطب. أما مواقفه في شأن اللقاحات فلا تمثل خطراً فحسب بل مليئة بالتضليل”. ولا تتوقف عند هذا الحد، بل تضيف “ليس مستغرباً أن يحتفظ بطيور جارحة كحيوانات أليفة، لأنه هو نفسه مفترس”. ولتأكيد وجهة نظرها في ما تسوقه إليه، تعود بالذاكرة إلى أعوام شبابه لتزعم أنه كان “يستمتع بوضع صغار الدجاج والفئران في الخلاط وتقطيعها لإطعام صقوره”.
وتتهم نسيبها بأنه استغل “الأهالي اليائسين الذين لديهم أطفال مرضى” من خلال حضهم “بصورة منافقة” على تجنب اللقاحات، على رغم أن أولاده كانوا يتلقونها. وتزيد الانتقادات حدة بتأكيدها أن “بوبي مدمن على جذب الانتباه إليه والسعي إلى السلطة”، وزعمها أنه “شق طريقه في الحياة باستخدام الخداع والمكر”.
وعلى رغم أن ماضي روبرت كينيدي مع تعاطي المخدرات معروف جيداً لدى الرأي العام (خصوصاً بعد إقراره عام 1984 بحيازة مادة الهيروين على متن طائرة)، فإن ابنة عمه تعاود تسليط الضوء على هذا الفصل من حياته، مستفيدة من معرفتها الدقيقة بتفاصيل حياة العائلة خلف الأبواب المغلقة، بحيث تصف قبو منزله ومرآبه إضافة إلى مسكنه الجامعي، بأنها كانت أماكن يسودها “اليأس والعنف”، على حد تعبيرها.
قد يكون من السهل تجاهل مثل هذه الاتهامات لو كانت صادرة عن خصم سياسي، لكن هذه الادعاءات الحادة تأتي من قريبة تربطها صلة دم مباشرة بروبرت كينيدي، ومن امرأة نشأت في مجمع كينيدي [مجموعة من المنازل التي تمتلكها عائلة كينيدي في هيانيس بورت، ماساتشوستس، والتي كانت مقراً للعائلة ونشاطاتها] ولعبت مع بوبي في طفولته، والتُقطت صورة لها وهي تتكئ على كتفه عام 1974. وتأتي هذه الانتقادات القاسية من امرأة تعترف بأنها “ترددت” في التحدث علناً بسبب الروابط العائلية القوية. ففي عالم السياسة كما في العلاقات الأسرية، يعد الولاء وصلة الدم أمرين مقدسين، ومع ذلك قررت ابنة العم كارولين أن تتجاوز هذه المحرمات وتكشف كل شيء على الملأ.
إذا كان روبرت كينيدي الابن يعاني وطأة الهجوم الشخصي القاسي عليه من ابنة عمه، فهناك شخص واحد فقط يمكنه اللجوء إليه كي يتفهم تماماً ما يشعر به، وهو الرئيس الأميركي الجديد. فقد عانى دونالد ترمب أيضاً على مدى أعوام طويلة من انتقادات حادة وقاسية من ابنة شقيقه. فخلال الأعوام الخمسة الماضية، نشرت ماري – ابنة فريد ترمب جونيور، شقيقه الأكبر الراحل الذي كان مدمناً على الكحول – ثلاثة كتب تكشف فيها تفاصيل خاصة وعميقة عن دونالد ترمب وعن تجارب العائلة التي أسهمت في تشكيل شخصيته.
وفي محاولة لإسقاط ترمب، أصدرت ماري أول كتاب لها بعنوان “أكثر من اللازم وغير كاف أبداً: كيف صنعت عائلتي أحد أكثر الرجال خطورة في العالم” Too Much and Never Enough: How My Family Created the World’s Most Dangerous Man، وقد بيع منه ما يقارب مليون نسخة في أول يوم من صدوره عام 2020. وتبع ذلك كتاب “الحساب: صدمة أميركا وإيجاد طريقة للشفاء” The Reckoning: America’s Trauma and Finding a Way to Heal، ثم مذكرات أكثر شخصية بعنوان “من يمكنه أن يحبك على الإطلاق” Who Could Ever Love You.
وتصف ماري في ما كتبته كثيراً من الشخصيات الذكورية في عائلة ترمب بأنهم متعجرفون ومتسلطون، يتجنبون مسؤولياتهم المدنية (مثل دفع الضرائب)، ويستخدمون لغة عنصرية ومعادية للسامية أثناء تناول الوجبات. وتبدو هذه التصرفات وكأنها أشبه بسلوكات طاغية صغير.
ووفقاً لماري، لم يحظ دونالد ترمب بحب والده، لذا كان عليه أن يمنح نفسه جرعات هائلة من الإعجاب الذاتي. وباعتبارها من المقربين للأسرة، قامت بتفنيد عيوبه بالتفصيل واحداً تلو الآخر، بدءاً من النرجسية والاعتلال الاجتماعي مروراً بالغطرسة والسطحية، وصولاً إلى النفاق والغش (بحيث زعمت في كتابها الأول أن دونالد دفع لأحد الأشخاص لإجراء اختبار القبول الجامعي نيابة عنه، وهو ادعاء نفاه)، وأشارت أيضاً إلى خلل في تطور نموه العاطفي. وفي إحدى المقابلات قالت “أعتقد أن سلوكه يعكس بلا شك سلوك العنصريين البيض”. وربما كان أبرز ما أوردته ملاحظتها أنها لم تر عمها يضحك على الإطلاق، وأضافت “لم أر جدي يضحك أيضاً. عندما تكون قادراً على الضحك، فهذا يعني أنك تخفض دفاعاتك، وكان ذلك أمراً مستهجناً”.
ماري ترمب – شأنها شأن كارولين كينيدي – امرأة مرموقة بلا أدنى شك. فهي حائزة درجة ماجستير في الأدب الإنجليزي من “جامعة كولومبيا”، ودكتوراه في علم النفس من “معهد ديرنر للدراسات النفسية المتقدمة” Derner Institute of Advanced Psychological Studies. وبعبارة أخرى، هي خبيرة في فهم تعقيدات السلوك البشري وكشف ما يدور خلف الكواليس، مما يجعل آراءها ونظرتها للأمور جديرة بالاهتمام. وعلى غرار كارولين، لديها معرفة وثيقة بما كان عليه هؤلاء الرجال في مرحلة نموهم، وبالتجارب الأسرية التي أسهمت في تشكيل نظرتهم للعالم، وكيف تنعكس مختلف تلك التجارب علينا نحن اليوم.
عندما تكتب ماري قائلة إن الطريقة الوحيدة التي كان “الرئيس المستقبلي للولايات المتحدة” – يتواصل بها مع أفراد العائلة الأصغر سناً، هي من خلال رمي كرة بيسبول عليهم بقوة حتى يشعروا بالألم، فإنك تصدقها. ومن باب الإنصاف، من المهم أيضاً الإشارة إلى أن ماري أمضت (إلى جانب شقيقها فريد) ما يقارب 25 عاماً في خوض معارك مثيرة للجدل حول الميراث ضد بقية عائلة ترمب، ولم تحقق في النهاية ما كانت تصبو إليه. وعلى رغم أن كلامها قد يحمل بعضاً من مشاعر الانتقام نظراً إلى تاريخها الطويل ضمن الدائرة الداخلية للعائلة، فإن آراءها تظل جديرة بالاهتمام.
أما بالنسبة إلى الأفراد الراغبين في معرفة مزيد عما تسميه ماري ترمب “عائلة مضطربة بصورة خبيثة” – خصوصاً مع انتهاء عرض مسلسل “الخلافة” Succession (على شبكة “أتش بي أو” HBO) – فإن الخبر السار أن هناك مزيداً من الحقائق التي تواصل عالمة النفس الكشف عنها عبر منصة “سابستاك” Substack، من خلال نشرتها بعنوان “الخير فينا” The Good in Us التي تواصل تقديم محتوى شيق ومؤثر.
ربما يجدر بالسياسيين الشباب الطموحين أن يتعاملوا بحذر مع علاقاتهم العائلية، لأن الأقارب الذين تجمعهم روابط الدم من دون ولاء متين، قد يلجأون إلى “التمرد”، مما يمكن أن يتسبب بأضرار كبيرة للعائلة
وكانت أعربت خلال شهر أغسطس (آب) 2024 عن إحباطها من تخطيط دونالد ترمب لإلقاء كلمة في تجمع لـ”رابطة الحرس الوطني” National Guard Association في مدينة ديترويت، على رغم انتقاداته المستمرة للقادة العسكريين أثناء فترة ولايته الأولى داخل البيت الأبيض. وروت كيف كان والدها فريد جونيور الشخص الوحيد في العائلة الذي أبدى اهتماماً حقيقياً بالخدمة العسكرية، عندما انضم إلى “الحرس الوطني للقوات الجوية” Air Force National Guard بعد تخرجه. أما دونالد، كما تزعم، فقد “تجنب التجنيد عبر أربعة تأجيلات قيل إن والده حصل عليها بناء على تشخيص مزيف بوجود نتوءات عظمية لديه”.
وخلال الشهر نفسه، تناولت ماري محاولات دونالد ترمب المستمرة لإقناع الناخبين بأن تجمعاته كانت تجذب أكبر عدد من الحشود في تاريخ السياسة، مشيرة إلى ادعائه بأن عدد المشاركين في احتجاجات السادس من يناير (كانون الثاني) فاق بكثير عدد الذين حضروا خطاب مارتن لوثر كينغ الشهير “لدي حلم”. وفي تحليلها لتلك المزاعم المبالغ فيها، خلصت ماري إلى أن سعيه الدائم إلى تضخيم الأمور والتفاخر بها يعكس افتقاراً شديداً لتقدير الذات، ويعود إلى الإهمال الذي عاناه دونالد ترمب في طفولته. وتشير إلى أن والدته كانت مريضة وغائبة عنه خلال أعوامه الأولى، بينما كان والده يفتقر تماماً لأية مشاعر عطف ورعاية يحتاج إليها الطفل. ونتيجة لذلك، نشأ ترمب مع شعور داخلي بالفراغ الذي يسعى الآن إلى ملئه من خلال تضخيم أعداد مؤيديه. وفي ختام تحليلاتها، قالت عالمة النفس بنبرة لاذعة “كثيراً ما وصفته بثقب أسود من الحاجات”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتستنتج أن “المبالغة” في كل شيء كانت الوسيلة الوحيدة التي كان بإمكانه من خلالها جذب الانتباه. ومن وجهة نظر ابنة شقيقه، فقد سعى ترمب خلال فترة نشأته إلى أن يكون “الأفضل والأعظم والأذكى والأكثر صلابة”، في كل ما يطلبه منه والده من دون تردد. وللحظات وجيزة، تستدرك قائلة “إنها مأساة، يجب أن نشعر بالتعاطف مع ذلك الطفل”. لكن بلا شك لا مجال للتعاطف مع ترمب البالغ، إذ تضيف “علينا أن ندرك أن هذا الرجل وحش يريد الأذى لنا جميعاً”.
ومن الصعب عدم استحضار مشهد روبرت كينيدي جونيور ودونالد ترمب أثناء جلوسهما معاً داخل إحدى غرف البيت الأبيض، وهما يتهامسان متأملين في أنه “مع وجود أقارب مثل هؤلاء، من يحتاج لأعداء؟”. وفي الوقت نفسه، ربما يجدر بالسياسيين الشباب الطموحين أن يتعاملوا بحذر مع علاقاتهم العائلية، لأن الأقارب الذين تجمعهم روابط الدم من دون ولاء متين قد يلجأون إلى “التمرد”، مما يمكن أن يتسبب بأضرار كبيرة للعائلة.
وفي المقابل، يمكن أن تكون لأفراد العائلة من الإناث سلطة أكبر مما قد توحي به التسلسلات الهرمية التقليدية في البداية. والأهم من ذلك، أن عامة الناس يميلون إلى تصديقهن.
نقلاً عن : اندبندنت عربية