“إنكم تجلسون من كراسي التعليم على عروش ممالك، رعاياها أطفال الأمة، فسوسوهم بالرفق والإحسان، وتدرجوا بهم من مرحلة كاملة في التربية إلى مرحلة أكمل. إنهم أمانة الله عندكم، وودائع الأمة بين أيديكم، سلّمَتهم إليكم أطفالًا، لتردوهم إليها رجالاً، وقدّمَتهم إليكم هياكل لتنفخوا فيها الروح، وألفاظاً لتعمروها بالمعاني، وأوعية لتملأوها بالفضيلة والمعرفة، وإنكم بناة وإن الباني مسؤول عما يقع في البناء من زيغ أو إنحراف”، هكذا أوصى العلامة الجزائري الراحل، محمد البشير الإبراهيمي، المعلمين في كتابه “آثار”، حينما بيّن لهم أهمية العملية التعلمية، باعتبارها إحدى ركائز تربية النشء الصاعد ونهضة المجتمع والأمة.
هذه التوصية تعود إلى الواجهة في كل مرة يُفتح فيها النقاش حول المدرسة ومستقبل التعليم في الجزائر، ومرده هذه المرة إعلان الحكومة الجزائرية عزمها البدء بإصلاحات تربوية تحت شعار “تحسين جودة التعليم”، إذ ستتكفل لجنة وطنية بمهمة بحث مسألة الجودة في مختلف المراحل الدراسية.
وفي تصريح لافت قال الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون إن بلاده قررت إعطاء المعلمين أهمية خاصة وعدم اعتبارهم مجرد موظفين، وتعهد بإعادة الهيبة للأستاذ ورفع مستوى التحصيل لدى التلاميذ.
البيت يبني والمدرسة تكمل
وتثار تساؤلات في الوسط التربوي والأكاديمي حول كيفية تحسين جودة التعليم، وهل يبدأ ذلك من المناهج والمقررات التعليمية أم من تطوير أداء المعلمين؟ وبينما لا يزال البحث عن الإجابة مستمراً، يقول مختصون في شؤون التربية إن تطوير التعليم والرفع من مستوى جودته يبدأ بانخراط المؤسسات التربوية في الرؤية الاستشرافية للبلد والنهضة المراد تحقيقها، بما يخدم أهدافاً إستراتيجية تنموية بدل أهداف تعليمية محدودة الأفق.
ويقول مختصون إنه إذا أردنا نهضة علمية فنحن بحاجة إلى عقول مفكرة ومدبرة وقادرة على الإبداع والابتكار، أما إذا أردنا تحسين جودة حياة السكان ودفعهم نحو الرفاهية فإن ذلك يتطلب التركيز أكثر على المهارات الوظيفية كتحسين الأداء والخدمات والرفع من القدرات الإنتاجية وغيرها.
وبرأي المتخصصة النفسانية والتربوية، منيرة زناف، فإن “أساس التربية الصحيحة ينطلق من البيت واستثمار الوالدين في أبنائهم بتنمية قدراتهم المعرفية والإبداعية وتحسين التواصل الفعال والحوار داخل أسوار المنزل، حتى يكون عمل الأستاذ في المدرسة مكملاً لتربية الوالدين حيث لا يكتفي المعلم بتلقين الدروس فقط، وإنما الانخراط في العملية التعليمية والتربوية من خلال تدريس المهارات واكتشاف الأطفال في المرحلة الإعدادية وتوجيههم حتى يكونوا قادرين على توظيفها في حياتهم الواقعية”.
وهنا تلفت المتخصصة إلى ضرورة “وقف الضغط الممارس ضد الأطفال في تحصيل العلامات، ليحتاج الأولياء إلى تغيير نمط تفكيرهم بعدما أصبح همهم تحصيل أبنائهم على نقاط مرتفعة، على حساب تنمية القدرات المعرفية للطالب”.
معالجة الداء وليس عارضه
وتبدو الحكومة الجزائرية على اطلاع بالاختلالات التي تواجهها المنظومة التعليمية، فوزير التربية محمد صغير سعداوي اعترف عبر منبر البرلمان وأمام ممثلي الشعب أن انتشار الدروس الخصوصية التي تحولت إلى ظاهرة اجتماعية “يعكس خللاً في العملية التعليمية”، خصوصاً في أعقاب التقرير الحكومي الذي أعده مجلس المحاسبة ووصفه مختصون بـ”الكاشف”، إذ بقدر ما كان صادماً إلا أنه شخّص الواقع بذكره الاختلالات الجوهرية في البرامج والأساليب والمقررات التي باتت تهدد جودة التعليم في الجزائر، ومن ثم يمكن الارتكاز عليه للبدء بوضع خريطة طريق جديدة للإصلاح التربوي في البلاد، كما يرى مختصون.
وهنا يعتبر الباحث في الفيزياء النظرية بجامعة وادي سوف (جنوب الجزائر)، جمال ضو، أن “دروس الدعم ليست عرضاً للداء الأصل أو الورم السرطاني الذي تفشى في المجتمع الجزائري”، مشيراً إلى أنها “ظاهرة تعبر عن فشل المنظومة التربوية، وتشكل انعكاساً لانهيار مستوى التعليم، بداية من المناهج إلى المعلمين ونهاية بالجامعة الموكل إليها تكوين الأساتذة”.
وشدد ضو على “ضرورة معالجة إشكالية دروس الدعم، عبر تنظيمها من الناحية المالية وضبطها من ناحية الضرائب وكيفية تسييرها بشفافية، وأيضاً وضع عدد من الشروط على ممارسيها وطرق ممارستها، حتى لا نصنع فجوة بين أبناء عامة الشعب وميسوري الحال، لأن ميسوري الحال سيكون أمامهم أكثر من حل لإيجاد بدائل لأبنائهم، بينما يُحرم أبناء عامة الشعب من المدرسة العمومية”.
إعادة تصميم المناهج وتخفيف المحتوى
في السياق، يرى السياسي الجزائري محسن بلعباس أنه “بدل التركيز على تطوير مهارات التفكير النقدي، والإبداع وحل المشكلات تظل المناهج الدراسية تعتمد على الحفظ الآلي والتلقين، مما يعمق الفوارق الاجتماعية ويضعف فرص التلاميذ في تحقيق تطلعاتهم”.
وفي ورقة تحليلية نشرها على حسابه الخاص في مواقع التواصل الاجتماعي اعتبر بلعباس أنه “كثيراً ما كانت المدرسة العمومية رمزاً للعدالة الاجتماعية في الجزائر، لكنها اليوم تواجه تحديات غير مسبوقة، البنى التحتية المتهالكة والاكتظاظ في الفصول وغياب الموارد التعليمية جعلت من المدرسة مكاناً يعكس التفاوتات الاجتماعية بدلاً من أن يقلصها”.
ولتحقيق نقلة نوعية في التعليم، يقترح محسن بلعباس خطوات عملية وجذرية، أبرزها إعادة تصميم المناهج الدراسية وتخفيف المحتوى الدراسي والتركيز على بناء المهارات العملية مثل التفكير النقدي والتكنولوجيا وريادة الأعمال، إضافة إلى الاستثمار في المعلمين من خلال تحسين الأجور وتوفير برامج تكوين مستمر وتحفيزهم لتقديم أفضل ما لديهم، وكذلك تحديث البنى التحتية من طريق ترميم المدارس وتجهيزها بوسائل حديثة وتقليل أعداد التلاميذ في الفصول، كذلك يقترح المتحدث ذاته “تعزيز الحوار التشاركي بخلق قنوات حوار بين جميع الأطراف المعنية لضمان صياغة وتنفيذ إصلاحات فعالة على اعتبار أن إصلاح التعليم ليس خياراً، بل ضرورة إستراتيجية لضمان مستقبل مشرق للبلاد”.
وتزامناً مع كثرة الحديث عن الإصلاحات التربوية تعالت الدعوات إلى ضرورة الانتصار للعلم وتحييد المدرسة عن السياسة والصراعات الأيديولوجية قدر الإمكان، لا سيما مع ما شهدته بعض المدارس من إضرابات ومقاطعة للدروس، وطالب التلاميذ بتخفيف البرنامج الدراسي وساعات الدراسة.
ودعت جمعيات أولياء التلاميذ في عدد من المدارس عبر الجزائر جميع أولياء الأمور إلى مرافقة أبنائهم إلى المدارس، في وقت تعهدت فيه وزارة التربية بمراجعة المناهج الدراسية بما يسمح بتطويرها وتخفيف حجمها من أجل ضمان تعليم ذي جودة عالية، وفقاً للنصوص التنظيمية، وبالتشاور مع مختلف أسلاك الأسرة التربوية وأولياء التلاميذ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
معلمون لا موظفون
هذا ولا يزال القانون الأساس والنظام التعويضي الخاص بالموظفين المنتمين للأسلاك الخاصة بالتربية محل تجاذب بين الوزارة والنقابات، وأقر المرسوم الصادر في الصحيفة الرسمية بتخفيف الحجم الساعي إلى جميع المراحل التعليمية، إضافة إلى تثمين الشهادة في الترقية والإدماج لكل الرتب، كذلك تقرر تثمين الشهادات في الترقية والإدماج ضمن المسار المهني للأستاذ، واستحداث رتبة “أستاذ مميز” ضمن المسار المهني لموظفي التعليم، وهي أعلى رتبة في الأستاذية.
كذلك أقر القانون الأساس إمكانية استفادة الموظفين التربويين من خفض يراوح ما بين ثلاثة وخمسة أعوام في سن الإحالة على التقاعد، مع تأكيد حماية الدولة للموظفين ضد التهديدات، وهذا بعد تنامي ظاهرة الاعتداءات الجسدية والنفسية التي طاولت أساتذة وعمال قطاع التربية في الأعوام الماضية.
واعتبر المستشار السابق في وزارة التربية الجزائرية محمد بوخطة أن “النص الجديد للقانون الأساس في قطاع التربية، وفي ظل ما أحاط بإنجازه من سجال وتجاذبات، استجاب بقدر محترم لطموحات المطالبين بتعزيز الأستاذية وإبراز مكانتها من خلال حصر الترقية فيها وتخصيص تعويض مادي محترم بمنحة الـ30 في المئة من الأجر”.
كما أكد بوخطة أن “النص القانوني حافظ على مكانة التكوين المتخصص في سلك التعليم وإلزامية التوظيف فيه، إضافة إلى تعزيز مكانة الأستاذ بصفته محور العملية التربوية وركيزة الجماعة التربوية”.
بعض المآخذ
لكن المجلس المستقل لمستخدمي التدريس في قطاع التربية بالجزائر “كنابست” له بعض المآخذ على مضمون القانون الأساس الخاص بالموظفين في قطاع التربية، إذ اعتبره “مخيباً للآمال وتطلعات الأسرة التعليمية مادياً ومعنوياً واجتماعياً”.
وتساءلت النقابة عن الطابع العقابي للنص القانوني، الذي ركز على توسيع دائرة الأخطاء المهنية مع فرض إجراءات مشددة قد ينتج منها نزاعات وانتقام بدلاً من تعزيز بيئة تعليمية صحية، في حين اعتبرت أن المنحة التعويضية التي لا تتجاوز 30 في المئة من الأجر الرئيس لا تفي بتلبية حاجات الأساتذة ولا يمكن معالجة مشكلات الأجور الحالية من دون تعديل النظام التعويضي.
وتقول إحصاءات رسمية إن تعداد التلاميذ الجزائريين في الدخول المدرسي لعام 2024 – 2025 بلغ قُرابة 12 مليون طالب في مؤسسات التربية والتعليم بينما ارتفعت نسبة التلاميذ الأطفال (ست سنوات) إلى 99.89 في المئة عام 2024.
وبخصوص الأساتذة فقد بلغ عددهم أكثر من 600 ألف أستاذ في مؤسسات التربية والتعليم العمومية (حكومية) بالجزائر بنسبة تأطير عامة تراوح ما بين 19 و28 تلميذاً لكل أستاذ، ويُذكر أن 75.62 في المئة من الأساتذة حالياً هن نساء من خريجات معاهد التكوين الجزائرية.
نقلاً عن : اندبندنت عربية