هناك تناقض في الرأي العام البريطاني حول الهجرة. فبينما يعد معظم الناس أن الهجرة بصورة عامة غير مرحب بها، إلا أنهم خلال الوقت نفسه لا يعارضون المهاجرين أنفسهم. ويقول معظم البريطانيين إن أعداد المهاجرين يجب أن تكون أقل، ولكن عندما يسألون عن الوظائف التي يشغلها المهاجرون، يكونون مؤيدين لزيادة أعداد المهاجرين أو إبقاء الأعداد على حالها.
وينطبق ذلك خصوصاً على الأطباء والممرضين والعاملين في دور الرعاية والمهندسين. ومع ذلك، لا يوجد غالبية تؤيد تقليص أعداد حتى أكثر الوظائف غير شعبية كالعاملين في القطاع المصرفي، وفقاً لاستطلاع حديث من مؤسسة “إبسوس” Ipsos.
من ثم، وعلى رغم التوقعات المقلقة التي أطلقها “مكتب الإحصاء الوطني” Office for National Statistics (ONS)، والتي تتوقع زيادة عدد السكان بنحو 5 ملايين نسمة بعد عقد من الزمن، لا بد من أخذ بعض الأمور في الحسبان.
وتتمثل النقطة الأبرز والأهم في الترابط الوثيق بين النجاح الاقتصادي وأعداد المهاجرين. لكن ليس بمعنى أن نقول إننا في حاجة إلى أطباء وعاملين في الرعاية الصحية وإلا فستنهار خدمات الصحة الوطنية، وينهار معها نظام الرعاية الاجتماعية عموماً. وفي هذا الصدد، يحق للمعترضين على الهجرة الرد بالقول إنه ينبغي علينا تدريب العاملين الذين نحتاج إليهم داخل بريطانيا.
لكن الأمور ليست بهذه البساطة، فالطريقة الموثوقة الوحيدة لوضع حد نهائي لحركة الهجرة الصافية – وهو الهدف الذي وضعه لنفسه رئيس حزب “ريفورم” نايجل فاراج – هي جعل البلاد في حال اقتصادية سيئة، بحيث يرغب مزيد من الناس في المغادرة بدلاً من الانتقال إليها.
وقال توني بلير في إحدى المرات “يمكن اعتماد قاعدة جيدة عند السؤال عن أية دولة، هل يسعى الناس إلى الانتقال للعيش في هذا البلد أم إلى مغادرته؟”.
وفي حال نجح فاراج في تقليص جاذبية بريطانيا بما فيه الكفاية لخفض مستويات صافي الهجرة إلى الصفر، فقد يتسنى لنا تدريب أطباء قدر ما نشاء. بيد أنهم سيرحلون في النهاية عن البلاد – أكثر مما يحدث الآن – ويقصدون أستراليا وكندا وأية وجهة أخرى.
ولا تقتصر العلاقة بين انخفاض مستويات صافي الهجرة والازدهار الاقتصادي على الإسهام المباشر للعمالة الجديدة، أو على الرسوم التي يدفعها الطلاب الأجانب، بل هي نتيجة لمزيج من الازدهار من جهة، ومن الانفتاح الاقتصادي من جهة أخرى.
لكن منذ أن أصبحت البلاد تتحكم بالكامل بسياستها الحدودية عقب انتهاء المرحلة الانتقالية لـ”بريكست” خلال يناير (كانون الثاني) 2021، أصبح هذا التبرير أكثر تعقيداً. وفي هذا السياق، يكاد الجميع باستثناء الأكثر انفتاحاً يتفقون على أن وصول صافي أعداد المهاجرين الوافدين إلى 906000 شخص سنوياً، وفق الأرقام المعدلة لعام 2023 وحتى شهر يونيو (حزيران)، كان غير قابل للاستدامة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد مثل ذلك، بلا أدنى شك، خطأ فادحاً ارتكبته حكومة انتُخبت تحت شعار “إنجاز بريكست”. فبصرف النظر عن ميول بوريس جونسون الفطرية تجاه الهجرة، كان يدرك أن ملايين الناس صوتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي، لأنهم أرادوا الحد من أعداد المهاجرين الوافدين إلى بلادهم. وكان عليه أن يعرف أيضاً أن زيادة أرقام الهجرة بثلاثة أضعاف بدلاً من انخفاضها، لن يكون فقط مصيبة له ولحزبه بل أيضاً كارثة تقوض الثقة في السياسة الديمقراطية ككل.
من ثم، فإن التفسير الأكثر تسامحاً لما جرى هو أن بوريس جونسون لم يكن مدركاً تماماً لأفعاله، وكان غافلاً عن “نظام النقاط على الطريقة الأسترالية” الذي أطلقه، والذي حظي بترويج واسع، مما سمح بارتفاع أعداد الوافدين إلى البلاد من خارج الاتحاد الأوروبي، بمعدلات تجاوزت تلك التي سمحت بها يوماً قوانين حرية التنقل في الاتحاد الأوروبي.
واليوم ومع عودة الأرقام إلى مستوياتها السابقة لعهد جونسون بإمكاننا خوض نقاش منطقي عن المستوى الأمثل للهجرة، ومع ذلك لا شك في أن الحكومة يجب أن تبدأ في التحكم بأكثر أنواع الهجرة وضوحاً وظلماً، والمتمثلة بتدفق الوافدين إلى بريطانيا على متن قوارب صغيرة.
ومن المؤكد أن الرأي العام سيتقبل مستويات هجرة معتدلة إن رأى فيها إنصافاً، إذ يدرك الناس أن الاقتصاد المزدهر يجب أن يكون منفتحاً على العالم.
من ثم، فقد شدد “مكتب الإحصاء الوطني” على هذه النقطة في رسم بياني، عرض فيه توقعاته في شأن ما قد يحدث لو نجحت بريطانيا في سياسة “صفر هجرة” التي اقترحها فاراج. ففي هذا الرسم إشارة إلى أن عدد السكان سيبدأ بالانخفاض بصورة ملحوظة بعد 20 عاماً، ليصل إلى نصف ما هو عليه بعد 100 عام، ويتراجع من 67 مليون نسمة حالياً إلى 35 مليون نسمة.
أما متوسط العمر الأكثر شيوعاً خلال تلك الفترة فسيكون 75 عاماً، ويعيش الناس في مجتمع يعاني قلة الأطفال. لكن ما لا يكشفه “المكتب الوطني للإحصاء” أن ذلك لن يحصل، إلا إن تحولت بريطانيا إلى بلد منغلق وفقير، وإن بقيت على هذه الحال طوال عقود.
نقلاً عن : اندبندنت عربية