لا تزال العملات الرقمية المشفرة في موقع عدم الرضا أو القبول من جانب عدد من البنوك المركزية حول العالم، ومن بينها البنوك العربية التي كثيراً ما حذرت من أخطار تلك الأصول الافتراضية شديدة التقلب، غير الخاضعة لمعايير واضحة تسهل التنبؤ بمسارها في الأسواق.

وعلى رغم اتجاه بعض هذه البنوك إلى تبني مفهوم العملة الرقمية المصدرة عن بنوك مركزية كوسيلة للتبادل التجاري في عصر الرقمنة، فإن مبدأ الرفض لا يزال قائماً تجاه العملات المشفرة اللا مركزية مثل “بيتكوين” وشقيقاتها.

العملات المشفرة تفتقر إلى خصائص العملة الورقية

ومنذ نشأتها، أثارت عملة “بيتكوين” وغيرها من العملات المشفرة نقاشات بين المتحمسين والمنتقدين حول طبيعتها وقيمتها، وتقول إحدى وجهات النظر إن العملات المشفرة تفتقر إلى خصائص العملة الورقية، على رغم أن بالإمكان استعمالها وسيلة للتبادل، وكثيراً ما تتبنى البنوك المركزية هذا الرأي، فيما يستمر النقاش حول ما إذا كانت العملات المشفرة مؤهلة لتصبح أصولاً مالية، مع الأخذ في الاعتبار عوامل مثل قدرتها على تخزين القيمة أو فائدتها الأساس.

لكن هل تتخلى البنوك المركزية العربية عن هذا الرفض المطلق مع اتساع مساحات قبول تلك المشفرات من جانب أسواق وبنوك يعتد بها ويشار إليها بالبنان عالمياً، خصوصاً بعد تعهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال حملته الانتخابية بجعل بلاده عاصمة للعملات الرقمية المشفرة؟ ثم ما الأسباب والدوافع التي تقف وراء هذا الرفض من جانب سلطات النقد العربي؟

أسباب رفض العملات المشفرة

“اندبندنت عربية” تحدثت إلى عدد من المتخصصين والتكنولوجيين العرب ممن ساقوا عدداً من المبررات حول أسباب رفض العملات المشفرة من قبل سلطات النقد العربي، وقدموا رؤاهم مستشرفين ما يحمله مستقبل هذه العملات في المنطقة خلال الأعوام المقبلة من قبول أو ربما مواصلة الرفض.

في البداية، يرى الكاتب الاقتصادي الأردني فايق حجازين أن كثيراً من البنوك المركزية العالمية وليست العربية فقط رفضت ولا تزال هذا النوع من العملات الافتراضية، على رغم قبول بعض الدول واعترافها رسمياً بتلك العملات، لكن يبقى هذا الاعتراف اعتماداً جزئياً وليس كلياً.

عمليات غسل الأموال أو تمويل الإرهاب

ويشير حجازين في حديثه لـ”اندبندنت عربية” إلى وقوف عدد من العوامل وراء تحفظ البنوك المركزية على مبدأ قبول التعامل بتلك العملات الرقمية، أولها غياب القواعد المصرفية التي تنظم هذه العملات، إذ تظل من دون غطاء كما هي الحال مع ربط بعض العملات برصيد من الذهب، إلى جانب عوامل أخرى مثل غياب ضوابط التعامل بهذه العملات واحتمالات استعمالها في عمليات غسل الأموال أو تمويل الإرهاب.

ويلفت حجازين إلى ذلك النوع من العملات المشفرة التي تتبناها بنوك مركزية كأصل رقمي مدعوم للتداول، ونابع من قوة الاقتصاد، وفي هذا النوع تخضع هذه العملات إلى عمليات مراقبة رقمية من قبل البنك ذاته، مشيراً إلى أن هذه العملات لا ريب فيها، إذ يمكن التعامل بها بأريحية كاملة، كما هي الحال مع النقود التقليدية عبر التحويلات الإلكترونية، مشيراً إلى أنها تعبير عن التطور الرقمي للنقود.

تجربة البنك المركزى الأردني

ويتحدث حجازين عن تجربة بلاده مع العملات المشفرة، فيقول إن البنك المركزى الأردني كان رافضاً لمبدأ التعامل مع العملات المشفرة بصورة نهائية، وحظر على البنوك التجارية والمؤسسات المالية أياً من صور التعامل بها، لكن في الوقت ذاته أتاح للأفراد التعامل بتلك العملات مع تحميلهم المسؤولية الكاملة على ذلك، من ثم فإن بإمكان الأردنيين التعامل بالشراء والبيع والادخار من دون اعتماد هذه العملات، وفاء لخدمة أو سلعة.

ويشير في حديثه إلى أن هذا التطور في موقف “المركزي الأردني” جاء بعد تشكيل مجلس حكومي لدراسة تشريع وتنظيم عملية الرقابة على الأصول المشفرة والافتراضية، لافتاً إلى أن هذا المجلس يضم في عضوية هيئة الأوراق المالية التي تشرف على الشركات المساهمة العامة، وجهات أمنية أخرى.

“هذه العملات الافتراضية أصبحت واقعاً”

وينظر الاقتصادي الأردني إلى أن هذه العملات الافتراضية أصبحت واقعاً يستلزم التعامل معه، لكن مع تنظيم هذا التعامل وإخضاعه للرقابة، ووضع الضوابط التشريعية والتنظيمية الضامنة لعدم استعمال تلك العملات في الأنشطة المشبوهة كالابتزاز والتحايل أو غسل الأموال، متوقعاً تطبيق الأمر ذاته في عدد من البنوك المركزية العربية على الأمد القريب.

وتشير تقارير وكالة إنفاذ القانون في الاتحاد الأوروبي (يوروبول) إلى أن الاستخدام غير المشروع للعملات المشفرة يرتبط في الغالب بغسل الأموال، والتجارة عبر الإنترنت في السلع والخدمات غير المشروعة والاحتيال، ولا يزال نطاق الاستخدام غير القانوني للعملات المشفرة غير مؤكد خلال وقت تختلف التقديرات التي استشهد بها “يوروبول” على نطاق واسع، بين 0.34 و23 في المئة من جميع معاملات العملات المشفرة.

سلب البنوك المركزية واحدة من أهم أدوارها

وفي المقابل، يرى المتخصص التكنولوجي المصري حاتم القاضي أن قبول البنوك المركزية للعملات الرقمية لن يكون سهلاً، إذ إن هذه العملات لا تخضع إلى إطار قانوني أو تنظيمي محكم، ولا تعرف جهة يمكن أن تتحمل المسؤولية حيالها كما هي الحال مع البنوك المركزية المصدرة للنقد.

وفي حديثه، يوضح القاضي أن هذه العملات لا يمكن اعتمادها كأدوات لكبح جماح التضخم أو السيطرة عليه مثلما هي الحال مع النقود، من ثم فإن هذه الأصول الافتراضية تنطوي على سلب البنوك المركزية واحدة من أهم أدوارها الرئيسة لمعالجة التضخم وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، نظراً إلى خضوع هذه العملات إلى نظام لا مركزي، مستدركاً “هذا كله لا ينفي امتلاك العملات الرقمية سوقاً كبيرة تتجاوز في حجمها 4 تريليونات دولار، بغض النظر عن الديناميكية وآليات هذه السوق”.

العملات الرقمية وتطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي

ويلفت المتخصص المصري إلى أن سلطات بلاده تدرس إصدار عملة رقمية للتسويات بعد تجربة على اليوان الرقمي مع بنك الشعب الصيني، مضيفاً “نستطيع القول إن سوق العملات الرقمية ستفرض نفسها لكنها ستحتاج إلى آليات تمكن من التحكم بتلك العملات”.

ويربط القاضي بين العملات الرقمية وتطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ويعتقد أن ثمة رابط مهم بينهما، إذ يؤثر الذكاء الاصطناعي على سوق العملات الرقمية، والذي يمكن من خلاله التنبؤ بالتغيرات الاقتصادية والسيناريوهات المختلفة.

التعامل مجرم بموجب قانون البنك المركزي المصري

وسبق للبنك المركزي المصري التحذير من التعامل في أسواق العملات المشفرة الافتراضية، مشيراً إلى أن هذا التعامل مجرم بموجب قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي رقم 194 لعام 2020، وقال إنه لم تصدر أية تراخيص لأي من هذه الأنشطة بالعمل في السوق المصرية، نظراً إلى ما تكتنفه من أخطار عالية من بينها تذبذب قيمتها بصورة كبيرة، واستخدامها في الجرائم المالية والقرصنة الإلكترونية، إضافة إلى أنها لا تصدر من أي بنك مركزي أو أية سلطة إصدار مركزية رسمية يمكن الرجوع إليها، من ثم تفتقر لأي غطاء مادي يضمن استقرار العملة وحماية حقوق المتعاملين بها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن جانبه، يصف المستشار في تكنولوجيا المعلومات الأردني زياد الشوبكي التعامل بالعملات المشفرة “مقامرة” لا تتحملها الاقتصادات الضعيفة التي من بينها اقتصاد بلاده، وقال إن ترخيص “المركزي الأردني” خلال الآونة الأخيرة عمل إحدى منصات تداول العملات الرقمية، “قرار سلبي” أكثر مما هو إيجابي للاقتصاد الأردني، خصوصاً في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعانيها الشارع الذي لا يتحمل بضعفه خطر هذا النوع من التداولات، بما قد تلقيه من أعباء على المواطنين.

أداة للمضاربة والمقامرة المالية

ويوضح الشوبكي أن هذا النوع من العملات بدأ فكرة ثورية تهدف إلى إعادة تشكيل النظام المالي العالمي، لكن سرعان ما تحولت إلى أداة للمضاربة والمقامرة المالية، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة لعبت دوراً في الترويج لهذه العملات عبر شبكات التواصل الاجتماعي، مما خلق انطباعاً بأنها أصول حقيقية قابلة للمقارنة بالذهب أو الفضة أو النفط، على رغم افتقارها إلى القيمة الجوهرية التي تتمتع بها الأصول التقليدية، مما يجعلها عرضة لتقلبات حادة وغير متوقعة.

ويعتقد الشوبكي أن انتشار العملات الرقمية أسهم بصورة مباشرة في زيادة الطلب على الدولار الأميركي، إذ إن معظم التداولات في العملات الرقمية هي بالدولار، وبلغت القيمة السوقية لهذه العملات 3.6 تريليون دولار، مما يعزز من قوة الدولار كعملة احتياط عالمية، من ثم فإن قوة العملة الأميركية تعتمد بصورة كبيرة على كمية الطلب عليه، سواء في الأسواق التقليدية أو في أسواق العملات الرقمية، وهذا الواقع يطرح تساؤلات حول مدى استفادة الاقتصادات الضعيفة، من هذه التداولات.

85 في المئة من المتداولين يتعرضون للخسائر

ويحذر المتخصص الأردني من التداول في سوق العملات المشفرة، ويقول إن الإحصاءات تدلل على أن 85 في المئة من المتداولين في تلك العملات يتعرضون للخسائر، بينما يجني 15 من المتداولين الأرباح، وهم في الغالب ممن يمتلكون خبرة طويلة ورؤوس أموال كبيرة.

ويلفت إلى تجربة الصين في هذا المجال، إذ منعت بكين تداول العملات الرقمية بصورة كاملة، وأحد الأسباب الرئيسة لهذا القرار هو عدم وجود سلطة سياسية أميركية على الصين، وإضافة إلى ذلك تسعى بكين إلى توجيه استثمارات مواطنيها نحو الأسواق الحقيقية، بدلاً من المضاربة في أصول غير ملموسة.

وعلى الأرجح ستظل الحاجة إلى تنظيم سوق العملات المشفرة ضرورة لثني البنوك المركزية العربية عن رفضها الكامل لهذه الأصول الافتراضية، وعلى رغم المناقشات والدراسات الدائرة حول هذه السوق خلال الآونة الأخيرة، فإن مساحة القبول ربما تتمدد شيئاً فشيئاً خلال الأعوام المقبلة، مع ضوابط ضامنة لعدم التلاعب والاحتيال أو استغلال تلك العملات في تمويل الأنشطة المجرمة قانوناً.

نقلاً عن : اندبندنت عربية