“يعتبر ارتياد الجامعة الأداة الأكثر قوة التي نملكها لتعزيز مستويات المعيشة وتحسين فرص الحياة لكثير من الشباب”. لسخرية القدر، هذه الكلمات قالها أخيراً، من دون سخرية، الرجل الذي ساعد في جعل الحصول على شهادة جامعية خياراً أقل جاذبية للشباب البريطانيين قبل أكثر من عقد من الزمان: وزير الجامعات السابق في حزب المحافظين، ديفيد ويليتس.

ففي معرض رده على “المشككين في التعليم” هذا الأسبوع في تقرير لمعهد السياسة في جامعة كينغز كوليدج في لندن، أعلن أن التعليم العالي لا يزال بعيداً من أن يكون مضيعة للمال. وقال ويليتس: “إذا كنت طبيباً، فستصف مزيداً من التعليم”، مستشهداً بدراسات تشير إلى أن التعليم العالي هو محرك وحافز لتحسين الصحة البدنية والعقلية.

ربما شعر بأنه مضطر إلى الدفاع عن قضية دخول الجامعة لأنه هو نفسه الذي أشرف في الحكومة الائتلافية عام 2012 على زيادة الأقساط الدراسية من 3000 جنيه استرليني (3750 دولاراً) إلى 9000 جنيه استرليني (11250 دولاراً) سنوياً. وقام دفعة واحدة بمضاعفة ديون معظم الطلاب إلى ثلاثة أضعاف، مما أثار استياء واسع النطاق واحتجاجات طلابية في مختلف أنحاء البلاد.

ومع ذلك، كانت الأدلة التي قدمها ويليتس أخيراً لمصلحة الحصول على درجة علمية مقنعة. لأنه بحلول سن الـ31، يحقق الخريجون مكاسب أكثر بنحو 37 في المئة أكثر من غير الخريجين الحاصلين في الأقل على شهادة (A-level) (أو ما يعادل 30750 جنيهاً استرلينياً مقابل 22500 جنيه استرليني على التوالي). وفي هذا السياق، تُقدر قيمة الدرجة الجامعية (شهادة البكالوريوس) في المتوسط ​​بنحو 280 ألف جنيه استرليني للرجال و190 ألف جنيه استرليني للنساء، بعد حسم الضرائب وسداد القروض الطلابية على مدى الحياة مقارنة بما كان الخريج ليكسبه لو لم يقصد الجامعة. يكسب الخريجون الشباب سنوياً 5000 جنيه استرليني أكثر من غير الخريجين- حتى إن كان هذا الرقم أقل مما كان عليه قبل عقد من الزمن . (لم تشهد المكاسب الحقيقية للخريجين الشباب ارتفاعاً كبيراً على مدى الأعوام الـ10 الماضية، خلافاً لما حققه غير الخريجين من مكاسب والتي تعززت بفضل زيادة الحد الأدنى للأجور والمعيشة).

كما تشمل الفوائد الطويلة الأجل الأكثر دقة واقع أن الخريجين يبقون من ضمن القوى العاملة لفترة أطول ويتمتعون بزيادات في الدخل حتى منتصف العمر، خلافاً لأولئك الذين يملكون مؤهلات مهنية متخصصة في الوظائف.

وفي هذا الصدد، بقيت الرسوم أو الأقساط الدراسية متشابهة إلى حد كبير على مدى الأعوام الـ12 الماضية، مما يعني أنها تراجعت من ناحية القيمة الحقيقية، على رغم أن حكومة حزب العمال الجديدة أعلنت في الخريف أن تلك الرسوم سترتفع إلى 9500 جنيه استرليني سنوياً للطلاب بدءاً من سبتمبر (أيلول) 2025. من الناحية الظاهرة، قد يجادل بعضهم بأن شعبية الذهاب إلى الجامعة لم تتأثر كثيراً بالرسوم. فقد انخفضت أعداد المتقدمين للالتحاق بالجامعات عام 2012 في أعقاب ارتفاع الأسعار، ولكنها عادت للارتفاع في العام التالي. ووفقاً لإحاطة بحثية لمجلس العموم البريطاني حول التعليم العالي، “تزايدت أعداد الطلاب إلى مستويات قياسية جديدة خلال الأعوام الأخيرة”. كما ارتفع عدد المتقدمين للجامعات في المملكة المتحدة سنوياً بين عامي 2019 و2022. ولكن حقيقة مغايرة بعض الشيء تكمن خلف هذه الأرقام المرتفعة. فالنمو في عدد الطلاب منذ عام 2020 كان مدفوعاً إلى حد كبير بالزيادات في أعداد الطلاب الأجانب في صفوف الدراسات العليا – وتعود أي زيادة في المتقدمين المحليين لزيادة عدد الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 18 سنة في أوساط السكان.

في هذا الصدد، يقول نيك هيلمان، مدير معهد سياسة التعليم العالي (HEPI) والمستشار الخاص السابق في شؤون التعليم في حزب المحافظين: “تدل المؤشرات كافة على أن الطلب على ارتياد الجامعات يتباطأ. يتعارض هذا الأمر مع التوقعات. فقبل خمس سنوات، كان الجميع يتوقعون أن يكون عام 2025 وقت ازدهار للجامعات لأن عدد الشباب في سن الـ18 كان ينمو كل عام في السنوات التي تلت عام 2020ــ بالتالي فإن عدد الخريجين في المدارس سيكون أكبر من السابق، وتوقعنا أن ينسحب ذلك على التعليم العالي. بيد أن الأعداد ثابتة أو آخذة في التراجع كنسبة من عدد السكان”.

وفي غضون ذلك، أشار تقرير صادر عن معهد سياسة التعليم العالي نُشر في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي أنه بعد تحقيق زيادة مطّردة على مدى العقدين الماضيين، بدأ معدل الشباب الذين يختارون متابعة التعليم العالي في إنجلترا بالتراجع خلال العامين الماضيين منذ جائحة كورونا. ويعاني كثير من الجامعات تراجعاً في أعداد الطلاب. وعند النظر إلى المستقبل، حذر التقرير من أن الطلب العام على التعليم العالي قد ينخفض بنسبة نحو 20 في المئة من عام 2030 إلى عام 2040 نتيجة لانخفاض عدد الشباب في إجمالي عدد السكان بحلول ذلك الوقت.

وفي هذا السياق، قال بهرام بيكرادنيا الذي كان يشغل منصب مدير معهد سياسة التعليم العالي آنذاك إن “الأسباب التي أدت إلى التراجع الأخير في الرغبة المتزايدة لدى الشباب في الالتحاق بالجامعة تحتاج إلى فهم وتعمق”. وأضاف: “من المستبعد أن يكون السبب محصوراً بالكلفة ــ فقد انخفضت كلفة الالتحاق بالجامعة خلال العقد الماضي… مهما كانت الأسباب، ما لم تكُن هناك زيادة في رغبة الشباب في الالتحاق بالجامعة، يبدو المستقبل قاتماً للغاية بالنسبة إلى كثير من المؤسسات”.

ولكن تراجع الاهتمام بالحصول على درجة جامعية لدى بعض أحدث الدفعات أو الأفواج الطلابية لا يؤثر في جميع الجامعات بالتساوي. وفي هذا الإطار، لا تزال الجامعات المرموقة والنخبوية على غرار جامعات “مجموعة راسل” Russel Group، [تضم 24 جامعة تتميز بتقديم تعليم عالي الجودة ولديها سمعة أكاديمية قوية. تأسست المجموعة عام 1994 وتُعرف بإسهامها الكبير في البحث العلمي والتعليم. ومن بين أعضاء مجموعة راسل، هناك جامعات مثل جامعة أكسفورد وجامعة كامبريدج وجامعة لندن للاقتصاد] مرغوبة من قبل الطلاب المحليين والأجانب على حد سواء. ولربما يتعين على هذه الجامعات توسيع أبوابها أكثر وخفض متطلبات العلامات إلى مستوى أدنى قليلاً، ولكنها لا تزال قادرة على ملء الصفوف الدراسية. في المقلب الآخر، لا تزال جامعات البوليتكنيك السابقة واقفة على قدميها.

ويتابع هيلمان: “هناك مشكلة في الطبقة المتوسطة المضغوطة. الجامعات التي تخسر أمام المؤسسات الأكثر شهرة – إذا نظرتم إلى الأسماء التي ظهرت في الصحف لأنها تعاني مالياً، فسترون أنها أماكن مثل جامعة ’كنت‘ في كانتربري وجامعة ’إيست أنجليا‘ في نوريتش.” وتعاني الجامعات الاسكتلندية هي أيضاً من نقص التمويل، وكذلك الحال بالنسبة إلى الجامعات المتخصصة الأصغر حجماً التي تتحمل نفقات عامة مرتفعة.

في هذا الإطار، شهد كونور كوتون مؤسس خدمة التوظيف “نوت غوينغ تو يوني” Not Going To Uni (وتعني بالعربية “لن أرتاد الجامعة”) “ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الشباب الذين يدخلون إلى الموقع الإلكتروني كل عام بحثاً عن بدائل للجامعة”، بحسب ما يقول لي. ويضيف: “شهدنا واحدة من أنجح البدايات للعام الدراسي في ما يتعلق بطلبات التدريب المهني – فقد شهدنا آلاف الطلبات الواردة من سبتمبر (أيلول) 2024 حتى يناير (كانون الثاني) 2025، والتي تخطت بصورة كبيرة أعداد العام الماضي بنسبة 50 في المئة في الأقل”.

وعلى رغم أن زيادة رسوم التعليم التي يعتزم حزب العمال فرضها ستكون ضئيلة من ناحية القيمة الحقيقية، مع احتساب التضخم، لا يزال كوتون يرى أن هذا الأمر يسهم ولو جزئياً في جذب مزيد من الاهتمام بالمسارات البديلة. ويعتبر في هذا السياق أن “خطاب كير ستارمر في شأن رفع الرسوم الدراسية مجدداً قام  بدور كبير في هذا الإطار لأنه تصدر عناوين الأخبار كلها وكان من الصعب جداً تجاهلها.” ومن المؤكد أن حكومة حزب المحافظين السابقة اضطلعت بدور أكبر في زرع بذور الشك هذه، إذ تعهد رئيس الوزراء السابق ريشي سوناك كجزء من حملته الانتخابية الفاشلة، بتمويل 100 ألف برنامج تدريب مهني إضافي وإلغاء الدرجات الجامعية “غير الجادة” التي كانت “تستغل الشباب”.

وعلى رغم أن الرسوم الدراسية في حد ذاتها قد لا تشكل فارقاً ملموساً في قدرة الشباب على الالتحاق بالتعليم العالي، فإن كلف المعيشة الأوسع نطاقاً قد تكون عاملًا مؤثراً. فقد تخطت كلف السكن والطعام إلى حد كبير حجم الإعانات الممنوحة للطلاب لتي بقيت جامدة من دون تغيير. وشارك هيلمان إحصاء يثبت أن أعداداً متزايدة من الطلاب يكافحون حالياً لتغطية نفقاتهم: للمرة الأولى منذ أن بدأ معهد سياسة التعليم العالي بجمع البيانات، يعمل أكثر من نصف الطلاب (57 في المئة) الذين شملهم الاستطلاع في وظيفة مدفوعة الأجر أثناء الفصل الدراسي. ويترافق ذلك مع العناوين الرئيسة المرتبطة “بموت” النوادي الليلية في المملكة المتحدة. غالباً ما يقع اللوم على الجيل “زد” Gen Z (الجيل الذي ولد فيه أشخاص بين عامي 1997 و 2012) ولكن في كثير من الحالات، يقول الشباب إنه لم يعُد بوسعهم تحمل كلف الخروج ليلاً بعد الآن.

يقودنا هذا الأمر إلى عامل مهم آخر: كان من أبرز مغريات الذهاب إلى الجامعة في الماضي هو الجانب الاجتماعي. فقد كان الخروج والاستمتاع بالكحول يُعتبر هواية نبيلة مارسها الطلاب في مختلف أنحاء البلاد على مدى أجيال. ولكن إذا كنت تفتقر إلى المال للمشاركة في هذه الطقوس الاجتماعية هذه، أو إذا كنت في الواقع واحداً من 39 في المئة من البريطانيين الذين تراوح أعمارهم ما بين 18 و24 سنة والذين يمتنعون عن تناول الكحول، ألا يُفترض أن تفقد فكرة الحياة الجامعية بعضاً من بريقها بالنسبة إليك؟. في هذا الإطار يجيب هيلمان أن هذا الأمر “يغير طبيعة التجربة الطلابية برمتها في حال لم يكُن بوسع الطالب أن يحظى بالحياة الاجتماعية نفسها، أو إن لم تتمكن من القيام بأي أنشطة خارج المنهج الدراسي لأنها مكلفة للغاية”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثم هناك مسألة الرضا. لم يتمكن فريق “رولينغ ستونز” من الحصول عليه، ويبدو أن الخريجين أيضاً لا يستطيعون – وفقاً لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة “يوغوف” عام 2022، شعر 69 في المئة من أولئك الذين دفعوا 9250 جنيهاً استرلينياً في السنة في إنجلترا وويلز مقابل رسوم الدراسة بأن شهادتهم الجامعية لا تستحق المال الذي دفعوه. وفي غضون ذلك، وجدت دراسة أجراها معهد السياسة في جامعة “كينغز كوليدج” لندن ونُشرت في الصيف الماضي أن 31 في المئة من السكان بصورة عامة يعتبرون أن التعليم الجامعي لا يستحق الوقت والمال اللذين يستغرقهما عادة – في ارتفاعٍ من 18 في المئة عام 2018 ممن كانوا يقولون ذلك-  في حين يرغب ضعف عدد الأشخاص في الحصول على فرص أكبر للتدريب المهني (76 في المئة) مقارنة بالذين يرغبون في الحصول على فرص أكبر للالتحاق بالجامعة (36 في المئة).

وفي هذا الإطار، يشير كوتون إلى هذا الاهتمام المتزايد باعتباره من الخيارات الأخرى لحث الشباب على الابتعاد من الشهادات التقليدية. ويقول: “هناك كثير من الفرص للحصول على شهادة من دون الالتحاق بالجامعة. أصبح بوسعك اليوم الالتحاق بتدريب مهني والحصول على شهادة ممتازة يسدد رب العمل كلفها فضلاً عن كسب راتب قدره 30 ألف جنيه استرليني”. ولكن يشير كل من هيلمان وويليتس إلى حقيقة مفادها بأن عدد برامج التدريب المهني للحصول على شهادات هو أقل بكثير مما قد تشير إليه المواد الترويجية والإعلانات – وأن معظمها لا يستهدف خريجي المدارس.

إضافة إلى ذلك، تجذب فترة الانقطاع (الفترة بين إنهاء الدراسة والبدء بالجامعة) والسفر لاستكشاف العالم مزيداً من خريجي المدارس وتحول دون ارتيادهم الجامعات، بخاصة أولئك الذين تعطل تعليمهم وحياتهم الاجتماعية كمراهقين بسبب جائحة كورونا. وفي هذا السياق، يقول كوتون: “ضاعت أعوام من تعليمهم لأنهم لم يتمكنوا من مواصلة الامتحانات فحسب، بل من الحصول على حياة مدرسية أو الذهاب في عطلات”. ويضيف: “نلمس بالتأكيد اهتماماً أكبر بالمنظمات الموجودة على موقعنا على غرار “كامب أميركا”Camp America، حيث يبحث الشباب عن فرص مدفوعة الأجر للسفر إلى الخارج لمدة تراوح ما بين ستة أسابيع وعام واحد”. ويشكل هو شخصياً دليلاً حيّاً على أن الجامعة ليست للجميع – أصبح مديراً إدارياً في عمر 25 سنة على رغم أنه لم يرتَد الجامعة قط ولم يحصل على أي مؤهلات رسمية لإدارة الأعمال. وفي سياق الحديث أيضاً، أخبرني عن غريس، واحدة من آلاف قصص النجاح. عمرها 23 سنة وتدير شركتها الخاصة في مجال المحاسبة.

ورداً على سؤال عما يمكن القيام به لإعادة إحياء الحماسة الراكدة بالنسبة إلى كثير من الأشخاص الذين يعتبرون أن الجامعة هي المسار الصحيح لهم، يقول هيلمان: “معالجة الأمور التي تحبط الإقبال”.

وفي هذا الصدد، تتضمن توصياته حزمة صيانة ملائمة للوظيفة وتتناسب مع كلف المعيشة الآخذة في الارتفاع فضلاً عن التركيز على المجموعات الطلابية التي تبقى خارج الجامعات حالياً، مثل المتحدرين من خلفيات منخفضة الدخل والشبان (الذين تقل احتمالية دخولهم إلى مجال التعليم العالي بنسبة 10 في المئة عن الشابات). وشملت التوصيات التي طرحها تزويد معلومات أفضل لخريجي المدارس. ويشرح هيلمان أن أولئك “لا يتم تزويدهم فعلياً بمعلومات حول تنوع الأجور في مختلف القطاعات”، مضيفاً أنه يجب التركيز على جعل التحصيل العلمي الإضافي أسهل لكبار السن الذين فاتهم ذلك في المرة الأولى.

لعل الأوان لم يفُت بعد لتغيير مسار الأمور. ربما لم يفقد البريطانيون حبهم للجامعة بعد، وربما نحن بحاجة إلى إعادة اكتشاف تلك الشرارة مجدداً. الحصول على الشهادات أمر رائع والأروع منه بعد هو توفير الدعم الملائم لها!.

نقلاً عن : اندبندنت عربية