بدا المشهد غريباً: خمسة أو ستة أشخاص يحدقون بعيون شاحبة وجفون مرهقة في شاشة الكمبيوتر المحمول، ويتثاءبون معاً خلال مكالمة “زووم” يجرونها أسبوعياً، لكي يتعلموا الطرق الصحيحة للنوم. أوصاهم أحد استشاريي هيئة الخدمات الصحية الوطنية بالتسجيل في هذه الدورة الجماعية للعلاج السلوكي المعرفي لعلهم يجدون حلاً لمشكلة الأرق. كنت أحد هؤلاء الأشخاص حين أرهقني الأرق أشهراً طويلة وسلب مني النوم في الليل وحولني إلى شبح يهيم في أرجاء المنزل حتى مطلع الفجر. كنت آمل أن أرى في هذه الجلسات حلاً لاستعادة هذه المهارة البشرية الأساس، لكن للأسف، لم يتحقق لي مبتغاي. والمفارقة أنني وجدت نفسي أقاوم النعاس خلال تلك الجلسات التي امتدت ساعتين من خلال عروض شرائح قديمة ورسومات مملة تعود إلى عقود مضت.

ذهبتُ إلى الطبيب للمرة الأولى في أبريل (نيسان) 2022، بعد أربعة أشهر من صراع دائم مع النوم، إذ لم أكن أنال سوى قسط من الراحة لا يتجاوز ثلاث ساعات كل ليلة، الذي كان غالباً بين الخامسة والثامنة صباحاً. لم أكن ممن يلتزمون “موعد النوم” الصارم، بل كنت أشعر وكأنني أسرق الوقت من الليل، أو هكذا كنت أعتقد، أقضي الساعات المتأخرة في الكتابة والقراءة حتى يغلبني النعاس عند الواحدة صباحاً. كنت أشعر بلذة خاصة عندما أسهر وأجد سعادتي في تلك الليالي التي تمتد حتى الشفق.

ثم تبدلت الحال، شيئاً فشيئاً، وطالت الليالي. كنت في البداية أخلد إلى النوم عند الساعة الثانية صباحاً، وتارةً الثالثة، وتارةً أخرى الرابعة. وتحوّل الهدوء الذي كان يمثل لي ملاذاً آمناً من ضغوط النهار إلى وحشة قاسية، وعزلة خانقة. وفجأة أصبحت الساعات التي كنت أقضيها في بحر الأفكار مسرحاً لأسئلة ملحة وكثيرة، مثلاً كيف سأواجه المستقبل؟ ومتى سأشعر بالتعب أخيراً؟ ولماذا أعجز عن النوم؟

الأرق أمر مألوف بالنسبة إليَّ، فقد وصف لي طبيبي حبوباً منومة في صغري، ولكنها لم تجدِ نفعاً. وقضيت أياماً أبحث عن أسباب وحلول لليالي المؤرقة، فألقي باللائمة تارة على برودة الشتاء، أو قلة النشاط البدني، أو شهر يناير (كانون الثاني) “الخالي من الكحول”، وتارة أخرى على ضغوط الحياة. سجلت في صالة ألعاب رياضية وبدأت أمارس البيلاتس (لتقوية الجسم واللياقة البدنية) أربع مرات أسبوعياً على أمل إنهاك جسدي، ولكن الأرق ظل يطاردني في الليل، والفرق الوحيد أنني أصبحت أملك عضلات بطن أقوى.

بدأت روتيناً ليلياً صارماً إذ كنت أعتني ببشرتي، وأتبع جميع النصائح الشائعة مثل وضع قناع على العينين والامتناع عن التحديق في الشاشات الإلكترونية وتوقفت عن تناول الكافيين والكربوهيدرات قبل النوم، بل إنني أفرغت مخاوفي على الورق قبل الخلود للنوم لعلّي أتخلص منها. جربت الاستيقاظ والقراءة والتأمل على مضض، وأصبحت أغضب من أي شخص يذكر أمامي عبارة “sleep hygiene” أو “النوم الصحي”. ولكن لم يجدِ أي من ذلك نفعاً، والآن أصبحت أدرك أن كل تلك المحاولات ربما فاقمت وضعي سوءاً.

وكتاب “كيف تنام مثل رجل الكهف: الحكمة القديمة من أجل راحة ليلية أفضل”، للدكتور ميرين فان دي لار يقدم حلولاً مقنعة لثلث البالغين حول العالم الذين يعانون الأرق، ويدعوهم إلى التخلي عن قواعد “النوم الصحي” المتعارف عليها، مؤكداً أن مفهوم النوم المثالي بحاجة إلى إعادة نظر، وأن التخلص من الهوس بقاعدة الساعات الثماني هو السبيل إلى راحة أفضل.

يقول فان دي لار: “النظريات التطورية حول النوم مذهلة، لأن كثيراً من الناس لا يعرفونها. ومن المهم جداً أن نفهم طبيعة تكوين أجسادنا وكيف صُممت لأداء وظائفها. لقد اندفعنا نحو التكنولوجيا الحديثة في الـ100 عام الماضية، لكننا لا نزال نعيش بأجساد قديمة. ولفهم النوم فهماً كاملاً، علينا العودة إلى جذوره”.

 

الكتاب، الذي تُرجم إلى 20 لغة وحظي بإشادة واسعة، جاء نتيجة لمسيرة فان دي لار الطويلة وبحثه الواسع حول كيفية نومنا. بعدما درس علم النفس السلوكي وأكمل شهادة الدكتوراه في النوم، أمضى حياته في فك رموز أفضل الظروف للراحة، والأهم من ذلك، تصحيح النصائح التي تبقي الناس مستيقظين في الليل من دون قصد.

على سبيل المثال، الفكرة القائلة بأننا بحاجة إلى ثماني ساعات متواصلة من النوم كل ليلة، أو أن الاستيقاظ لبضع ساعات خلال الليل أمر سيئ بطبيعته. في الواقع، أظهر عدد من الأبحاث التي نُشرت على نطاق واسع أن ثماني ساعات من النوم ليست قاعدة صارمة للصحة الجيدة، بل إنها تختلف من شخص لآخر. ويؤكد فان دي لار أن العودة إلى أنماط نوم أسلافنا تُظهر أن الاستيقاظ خلال الليل كان عنصراً طبيعياً من دورة النوم.

ويوضح قائلاً: “نعلم من الدراسات التي أُجريت على قبيلة هادزا (Hadza) في تنزانيا – الذين لا يزالون يعيشون في ظروف مشابهة لما كان عليه أسلافنا قبل مئات آلاف من السنين – أن الاستلقاء مستيقظاً خلال الليل أمر شائع في هذه القبيلة. وفي المتوسط، يقضي أفرادها أكثر من ساعتين مستيقظين كل ليلة”، ويشير فان دي لار إلى أن الفرق الرئيس هو “أنهم لا يشعرون بالتوتر حيال ذلك”.

ويضيف: “الاستيقاظ أثناء الليل له وظيفة مهمة في قبيلة هادزا – فهو جزء أساس من بقائهم على قيد الحياة… وتخبرنا بيانات السكان أيضاً أن سبع ساعات من النوم هي المتوسط، ولكن هذا يشمل الاستيقاظ لمدة تصل إلى 20 في المئة من كل ليلة. كثير من الناس لا يعرفون ذلك، لذا يواجهون صورة مثالية للنوم لثماني ساعات من دون انقطاع، وهو ما يسبب توتراً كبيراً للأشخاص الذين يعانون الأرق”.

 

حتى الذين لم يسبق لهم أن عانوا الأرق المستمر يعرفون تمام المعرفة الدورة المزعجة المتمثلة في مراقبة الساعة والقلق الداخلي أثناء الليالي المضنية، والنصائح المتضاربة التي يسمعونها في شأن كيفية التعامل مع هذا الأمر.

عندما شاركت في جلسات العلاج السلوكي المعرفي الجماعي للنوم، جربتُ طرقاً مختلفة، منها “قاعدة الـ15 دقيقة”، التي تقول إذا كنت لا تستطيع النوم في غضون 15 دقيقة بعد الاستلقاء على الفراش، انهض ومارس “نشاطاً ممتعاً” في غرفة أخرى (مثل حل الألغاز أو الحياكة أو حتى التلوين… إلخ) واستمر في هذا النشاط حتى تشعر بالنعاس، ثم كرر الدورة مرات عدة إذا لزم الأمر. في إحدى الليالي، ظللت أعزف على البيانو مدة ثلاث ساعات تقريباً من دون أن أنام.

ومن الطرق الأخرى التي جربتها مقاومة رغبتي في إغماض عينيّ، واستخدام جداول زمنية وصيغ معينة لتحديد “منطقة عازلة” بين النشاطات اليومية ووقت النوم [فترة زمنية تهدف إلى تهدئة الجسم والعقل قبل النوم، خلالها لا يُنتقل مباشرة من النشاط إلى النوم]، إضافة إلى تحديد “وقت معين يجب ألا تتأخر عنه في الاستيقاظ” بشكل صارم. وكنت أوثق تفاصيل ساعات نومي بدقة على جدول بيانات إكسل (وكان ذلك أمراً كئيباً)، وحساب متوسط وقت نومي باستخدام آلة حاسبة أو مخطط تحويل.

وبعد الأسبوع الأول، توقفت عن تعبئة الجدول، وغمرني الإرهاق والأرق بسهولة، وأيقنت أني لن أنام مجدداً.

والأهم من ذلك، نصحنا القائمون على الدراسة “بالحد من التوتر”، ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك في عالمنا المعاصر اليوم، الذي يختلف تماماً عن البيئة التي كان ينعم فيها أسلافنا بالنوم الهادئ. وهنا يوضح فان دي لار أن التوتر يجعل الجسم يشعر بأنه بحاجة إلى النوم كطريقة للتعافي أو الهرب من هذا القلق.

ويقول: “يميل جسمك بشكل طبيعي إلى الاستيقاظ أكثر في الليل، وذلك لأن أي خطر وشيك سيدفعك إلى التأكد من سلامة بيئتك، بخاصة إذا شعرتَ بوجود خطر. لذا، من المهم أن تغيّر نظرتك حول عدد ساعات النوم التي تحتاج إليها، بدلاً من الشعور بالإحباط لأنك لم تحصل على ثماني ساعات كاملة”.

ويشدد فان دي لار على أن فكرة ضرورة بذل مزيد من الجهد لتحسين جودة نومنا، ما هي إلا خرافة يسعى جاهداً إلى تفنيدها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويقول: “إذا سألت شخصاً ينام قرير العين، ‘كيف تفعل ذلك؟’ سيجيبك، ‘لا أعلم، أغمض عينيَّ وحسب’. أما إذا سألت أحداً يعاني الأرق، كيف تنام؟ سيقول، ‘لقد اشتريت مرتبة بـ5 آلاف جنيه إسترليني، وتوقفت عن تناول القهوة في المساء، و أمور أخرى من هذا القبيل'”.

ويضيف: “لقد دربت قرابة 5 آلاف إلى 6 آلاف شخص يعانون الأرق – وكنت شخصياً أعاني المشكلة نفسها – ولاحظت أن معظم الحالات التي شاهدتها كانت لأفراد أصبحوا مهووسين بالنوم قريري العين. وفي الواقع، يجب على كل من يشعر بالأرق أن يبذل أحياناً جهداً أقل لينام بشكل أفضل”.

ويلاحظ فان دي لار أنه لا يوجد إيقاع يومي “مثالي” ينطبق على الجميع، إذ يختلف كل شخص عن الآخر. والأهم هو أن تدرك ما يناسبك وتحترم “إيقاعك الحيوي الطبيعي” – أي الدورات الطبيعية لجسمك، لا سيما إذا كنت تعاني اضطرابات نفسية معقدة، لأن التغيرات في نمط النوم غالباً ما تكون مؤشراً مبكراً إلى نوبة مرضية.

فكرة أن الاستيقاظ المبكر هو الخيار الأفضل ليست دائماً صحيحة، فقد كان من المفيد في زمن رجال الكهوف أن يستيقظ الناس في أوقات مختلفة. ويوضح فان دي لار ذلك قائلاً: “أعتقد أن التنوع في الإيقاع الحيوي له غاية تطورية، إذ أسهمت هذه الاختلافات في تعزيز فرص بقائنا على قيد الحياة خلال الليل.”

كاثرين ماي، مؤلفة كتاب “الشتاء: قوة الراحة والاعتزال في الأوقات الصعبة”، وهو من الكتب الأكثر مبيعاً، كتبت في “اندبندنت” العام الماضي عن اكتشاف المؤرخ أ روجر إيكيرش دليلاً على وجود فترات استراحة من خلال النوم في منتصف الشتاء عبر التاريخ. وكان الاستيقاظ في منتصف الليل يُعتبر وقتاً هادئاً وقيّماً، إذ كان الناس يتحدثون، ويقضون أوقاتاً حميمية، ويصلّون، بل ويتواصلون مع جيرانهم. وأشارت إلى أنه فقط بعد ظهور الضوء الاصطناعي فقدنا هذا الجانب السري من حياتنا.

أشعة الشمس في الصباح المبكر تُوقف إنتاج الميلاتونين، وهو هرمون يساعد على النوم وتنظيم إيقاعك الحيوي. كذلك فإن ممارسة الرياضة، حتى لو كانت المشي لمسافات قصيرة، تُحسّن جودة النوم، وذلك ليس بأمر مفاجئ. وينصح فان دي لار بقضاء وقت أقل في السرير لمن يعانون الأرق.

لم تفلح تجربة العلاج المعرفي السلوكي معي، فلكل شخص طريقته في التعامل مع الأرق. قررتُ الآن أن أتوقف عن اتباع القواعد والتعليمات، وأن أُجرب طريقة جديدة للتعامل مع الليالي التي أعاني فيها الأرق وهي الاستسلام والهدوء وعدم ممارسة أي نشاط. ربما يبدو الأمر بسيطاً، لكنه قد يكون فعالاً في تنظيم دورات نومي.

كتاب “كيف تنام مثل رجل الكهف” لـ”ميرين فان دي لار” متاح الآن عن دار ويليام كولينز، بسعر 20 جنيهاً إسترلينياً

نقلاً عن : اندبندنت عربية