ظلت قضية “نووية” مدفونة لعقود طويلة تحت رمال الصحراء الكبرى، تشكل تحدياً رئيساً خلال فصول تسوية ملفات الذاكرة بين الجزائر وباريس. ففي تلك الصحراء دفنت الدولة الفرنسية عدة آلاف من الأطنان من النفايات النووية وتتكتم لحد اليوم عن مكان وجودها، ما يمثل مشكلة صحية يتجرعها سكان دول أفريقية وأوروبية أيضاً.

قبل 65 عاماً بدأت باريس عصرها النووي بسلسلة من التجارب في الصحراء الجزائرية، قبل أن تستكملها في بولينيزيا الفرنسية، حيث كانت تريد الدولة الاستعمارية آنذاك إثبات للعالم قدرتها على استخدام القنبلة، في سياق الحرب الباردة والسباق نحو الردع النووي بعد 15 عاماً من وقوع تفجيرات هيروشيما وناغازاكي. وكانت تريد اللحاق بالقوى النووية الأخرى، الولايات المتحدة وروسيا والمملكة المتحدة، وهو ما يفسر جزئياً لماذا كانت الأولوية بالنسبة لها النتائج، وليس القلق حول التأثير البيئي أو الأضرار الجانبية التي قد تلحق بالسكان.

وبالقرب من رقان، على بعد 1800 كيلومتر جنوب العاصمة الجزائر، جرى إجراء أول تجربة نووية فرنسية عام 1960 باسم “الجربوع الأزرق”، والتي من المقرر أن يحيي البرلمان الجزائري الذكرى 65 للتفجير الذري في يوم 13 فبراير (شباط) الجاري، ويعقد بحضور مسؤولين محليين وأجانب يوم دراسي يحمل اسم “التفجيرات النووية في الجزائر… جريمة ضد الإنسان والبيئة”، لتسليط الضوء على جزء منسي من التاريخ تتجاهله الحكومات الفرنسية المتعاقبة وترفض تولي المسؤولية النهائية عن عمليات إعادة تنظيف المواقع وتوفير الخرائط الطبوغرافية لتحديد مناطق التخلص من النفايات النووية.

تداعيات التفجيرات

وكشف وزير المجاهدين الجزائري العيد ربيقة أول من أمس الأحد، خلال اجتماع محلي، أن الجهات المعنية أحصت قائمة تضم لحد الآن “أزيد من 26 مرضاً مترتباً مباشرة عن تداعيات التفجيرات النووية”، مذكراً في الوقت نفسه بأن الاستعمار الفرنسي “نفذ 57 تفجيراً كان أولها (اليربوع الأزرق) برقان يوم 13 فبراير 1960 وكانت قوته تعادل من 60 إلى 70 ألف طن من المتفجرات أي خمسة أضعاف قنبلة هيروشيما باليابان”.

واعتبر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، التعويضات المتعلقة بالتفجيرات النووية وباستخدام الأسلحة الكيماوية من طرف فرنسا في جنوب بلاده مسألة ضرورية لاستئناف التعاون الثنائي. وقال في حوار مع صحيفة “لوبينيون” الفرنسية، إن ملف تنظيف “مواقع التجارب النووية ضروري وواجب إنساني وأخلاقي وسياسي وعسكري”.

 

 

وأوضح الباحث والمؤرخ الجزائري محمد أرزقي فراد في حديث لـ”اندبندنت عربية”، أن الدولة تسعى خلال المرحلة المقبلة في الأقل إلى انتزاع مطلب تطهير المنطقة الملوثة من فرنسا والحصول على خرائط تحدد مواقع دفن المعدات والآليات المستعملة في تجاربها.

ولإظهار خطر تلك التجارب، كشف الباحث أن “السحب النووية” وصلت إلى دول أفريقية منها تشاد والنيجر وفي أوروبا حتى سواحل البرتغال وصقلية، إذ سيستمر الإشعاع لآلاف السنين، داعياً المجتمع الدولي للمساهمة في مساعدة الجزائر على تطهير المنطقة.

ولا يزال – وفق فراد – أطفال يولدون مشوهين نتيجة تجارب الستينيات التي تنشر الأوبئة والأمراض ولها آثار كارثية على المياه الجوفية، وهو ما تؤكده أيضاً جمعية تاوريرت لضحايا التجارب النووية بالهقار جنوب البلاد عن وفاة العديد من الأشخاص نتيجة حالات مشبوهة، في حين انتشر السرطان بسبب الكارثة. ومن بين عشر حالات ولادة جديدة تسجل حالات لمواليد معاقين، بسبب الانتشار الواسع للإشعاعات النووية بالمنطقة، في محيط أجري فيه 13 تفجيراً نووياً، وتحتفظ الجمعية بشهادات عدة لعمال جزائريين كانوا قريبين من موقع التفجير، بأن دوي القنبلة النووية سُمع على بعد 300 كلم.

كما أظهرت دراسة أجراها الباحث النووي العراقي الذي كان يقيم في الجزائر كاظم العبودي، وجود 42 ألف ضحية ممن تسببت الإشعاعات في إصابتهم بالسرطان والتشوهات الخلقية وأمراض العيون والشلل وغيرها.

وللمرة الأولى طالب مجلس الأمة الجزائري خلال موافقته على قانون إدارة النفايات ومراقبتها والقضاء عليها، فرنسا بتحمل “كامل مسؤولياتها التاريخية والأخلاقية والقانونية في القضاء على هذه النفايات المشعة، والاعتراف بالضرر الهائل الذي تسببه للبلاد ولسكان أدرار ورقان وعين إكر ومناطق أخرى”، بحسب تصريحات وزيرة البيئة وجودة الحياة، نجيبة جيلالي أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي عام 2010، مهد قانون مورين الصادر في فرنسا الطريق للاعتراف بتضرر سكان المناطق القريبة من التجارب النووية الذين أصيبوا بأنواع معينة من السرطان وتعويضهم.

ومن المفارقات أن فرنسا وافقت على تعويض سكان بولينيزيا الفرنسية، حيث استمرت التجارب حتى عام 1996، أما الضحايا في الجزائر فما زالوا ينتظرون تحقق العدالة. وبحسب منظمة “إيكان فرنسا” فقد تم التعرف إلى 1026 شخصاً فقط حتى أغسطس (آب) 2024 كضحايا للتفجيرات النووية التي نفذتها فرنسا في الجزائر وبولينيزيا بين عامي 1960 و1996. وهو رقم أقل بكثير من الواقع، وفقاً للمنظمة غير الحكومية التي تُعنى بالقضاء على الأسلحة النووية لكن لم يكن من بين هؤلاء جزائريون.

وتحدث الباحث في تاريخ الثورة الجزائرية منتصر أوبترون عن رفض فرنسي لتسليم البيانات للجنة من وكالة الطاقة الذرية قبل نحو ثلاثة عقود حين انتقل أعضاؤها إلى مناطق التفجيرات النووية وعلى وجه التحديد “النقاط صفر”، وأخذوا 12 عينة وعينات أخرى لإجراء التحاليل عليها، وهو ما أخر إصدار تقرير اللجنة لسنوات بسبب تعنت باريس.

وبين أوبترون في تصريح خاص، أن الفرنسيين لم تكن توقعاتهم تشير إلى القوة التفجيرية الرهيبة في الجزائر مقابل قنبلة هيروشيما، نافياً تضمن اتفاقيات إيفيان التي مهدت لاستقلال الجزائر السماح لباريس بإجراء التجارب النووية بعد عام 1962 حيث استمرت أربعة أعوام أخرى لاحقاً.

ويعتقد الباحث الجزائري أن موضوع تطهير المواقع الملوثة سهل لو كانت لدى فرنسا النية، مقدراً فاتورة تنظيفها من الإشعاعات المكلفة بنحو 500 مليار دولار في الأقل. واستحضر ما فعلته بريطانيا في أستراليا التي مرت تقريباً بالتجربة نفسها، حين شيدت بنايات تتكيف مع الظروف البيئية كلفت مليارات الدولارات.

ويُفضل متخصصون ممارسة ضغط دولي على فرنسا للتوقيع على معاهدة حظر الأسلحة النووية لعام 2021، وتتضمن مادتان مهمتان في شأن مساعدة الضحايا وإعادة التأهيل البيئي، لكن فرنسا تعرقل كل ما يتعلق بهذه المعاهدة انطلاقاً من رفضها الاعتراف بأن الأسلحة النووية تشكل خطراً على السكان والبيئة. ففي عام 2023، صوتت 171 دولة لمصلحة قرار مساعدة الضحايا المعنون “الإرث الثقيل للأسلحة النووية”، رفضته أربع دول هي فرنسا وكوريا الشمالية وروسيا والمملكة المتحدة.

ولم تستجب الحكومة الفرنسية لحد اليوم لرسالة وصلتها في 13 سبتمبر (أيلول) 2024 من ثلاثة مقررين أممين في شأن تنظيف مناطق التجارب النووية الفرنسية في صحراء الجزائر من الآثار النووية، وتحمل مسؤولية الآثار المترتبة على حقوق الإنسان والبيئة في هذه المناطق. كما طالب المقررون الأمميون بموجب التفويضات الممنوحة لهم والمهام المكلفين بها من قبل مجلس حقوق الإنسان، باريس بتقديم إيضاحات كافية حول كيفية إبلاغ ضحايا التجارب النووية بحقوقهم، وإجراءات طلب التعويض من قبل فرنسا، متسائلين عن مدى استعدادها لتقديم اعتذار رسمي للجزائر والأشخاص والمجتمعات المتضررة من هذه التجارب.

 

 

في المقابل، رأى نواب جزائريون أن الظروف السياسية والاقتصادية الحالية في ظل حالة التوتر مع فرنسا باتت مواتية لإقرار قانون شامل لتجريم الاستعمار واسترجاع حقوق الضحايا.

وجاء على لسان رئيس المجلس الشعبي الوطني الجزائري (الغرفة الأولى للبرلمان) إبراهيم بوغالي في مقابلة تلفزيونية، أن الوقت حان لتمرير مشروع قانون لتجريم الاستعمار الفرنسي لبلاده. وتابع “أظن أن الأمور تجبرنا على وضع الملف فوق الطاولة”، في إشارة إلى تزايد هجمات النخب السياسية الفرنسية ضد الجزائر.

وهذه أول مرة يتحدث فيها مسؤول جزائري رفيع المستوى عن ضرورة تمرير مشروع قانون يجرم استعمار فرنسا للجزائر لنحو 132 سنة (1830-1962).

وأكد أزرقي فراد وهو نائب برلماني سابق، أنه كان من أوائل من اقترح بتاريخ فبراير 2001 قانون تجريم الاستعمار ووقع عليه 50 نائباً، وفي عام 2005 صدر قانون تمجيد الاستعمار في فرنسا ليحاول أعضاء من الهيئة التشريعية بالجزائر الرد عليه في عام 2006، لكن مساعيهم لم تكلل بالنجاح لأسباب سياسية آنذاك.

وفي الوثيقة التي عرضها المؤرخ، تضمن مقترح القانون ثلاثة مواد، تنصّ الأولى على أن العمليات العسكرية الفرنسية التي استهدفت الشعب الجزائري في حياته وسيادته وكرامته وحريته تُعد جرائم ضد الإنسانية. أما مادته الثانية، فاعتبرت أن هذه الجرائم لا تخضع لمبدأ التقادم. ونصت المادة الثالثة على أن المطالبة بالتعويضات عن الأضرار المادية والمعنوية الناجمة عن هذه الجرائم تُعد حقاً للدولة الجزائرية والجمعيات والأفراد.

وحول فرص نجاح التحرك البرلماني والقانوني الأخير، لفت الأستاذ بالمدرسة الجزائرية العليا للعلوم السياسية هشام داود الغنجة إلى “مطالبة الجزائر منذ مدة طويلة الحكومة الفرنسية، بتقديم إشارات ملموسة في مصلحة تحسين العلاقات، بخاصة ما تعلق بتنظيف مواقع التجارب النووية في الصحراء الجزائرية”. غير أن باريس تحت قيادة الرئيس إيمانويل ماكرون دائماً ما كانت تتهرب من الاعتراف بجرائمها الاستعمارية، وتقديم تنازلات فعلية وملموسة. بل إنه قد خضع لإملاءات الدولة العميقة في فرنسا، لا سيما الاتجاه اليميني المتطرف الآخذ في الصعود في الأعوام الأخيرة. فصار ماكرون يتبنى خطاب اليمينيين، متجاهلاً تماماً وجود قوى سياسية في فرنسا، على شاكلة الأحزاب اليسارية، لا تزال تشكل قوة لا يستهان بها.

 

 

وأكد هشام داود، انهيار شعبية الرئيس الفرنسي بشدة، والذي رضخ تماماً لسيطرة اليمين، وبالتالي يرى أن أفق العلاقات بين الطرفين في طريق مسدود.

بدوره، اعتبر الباحث الجزائري والمهتم بالشؤون الوطنية والدولية عبد الرحمن بوثلجة، قضية تجريم الاستعمار وتنظيف مواقع التجارب النووية من الملفات الحساسة بين البلدين، التي لطالما تم تجميدها لغاية إيجاد حل لها، و”اشتد الصراع أخيراً بسبب التصرفات الفرنسية من خلال عدم احترامها لمواقف الجزائر، ومصالحها سواء على خلفية تصريحات بعض الساسة الفرنسيين أو التعامل مع المواطنين والتهديدات غير المسؤولة التي أطلقها بعض المسؤولين من الضفة الأخرى”.

وقال إن “التجارب النووية، هي مسؤولية تاريخية وسياسية لأن ما أقدمت عليه فرنسا يعتبر جريمة ضد الإنسانية بعدما جربت أسلحة محرمة دولية في أراضي ليست بأراضيها”.

وفي ما يخص قانون تجريم الاستعمار، أضاف بوثلجة أن ذلك أقل ما يمكن المطالبة به، إذ عدم مصادقة البرلمان الجزائري على هذا المشروع كان الغرض منه تخفيف التوتر وعدم التصعيد ومحاولة حل الموضوع بالمفاوضات.

نقلاً عن : اندبندنت عربية