توفر الهيئات والمصالح العامة في تونس المياه الصالحة للشرب عبر الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه (حكومية) من خلال شبكة من القنوات يتجاوز طولها 50 ألف كيلومتر.

وأعلنت الشركة أن طول قنوات الشبكة بلغ48241 كيلومتر عام 2023 وتعتمد 1412 خزاناً بمختلف الأحجام، ووزعت في العام نفسه 667.9 مليون متر مكعب من المياه أشرف 40 إقليماً موزعاً بمختلف مناطق الجمهورية التونسية على التصرف في توزيعها.

في المقابل تشكو مناطق عدة من عدم ربطها بشبكة توزيع المياه وتتركز في محافظات الشمال والوسط الغربي الحدودية وكذلك محافظات الوسط،

مما دفع المنتقدين إلى الحديث عن مناطق معطشة، ومن بين الأسباب التي أججت الاحتجاجات في عدد من الأرياف والقرى ثراء مناطقها بالموارد المائية على امتداد العام، علاوة على إشكالات مستجدة خلال الأعوام الأخيرة بسبب اضطرابات التزويد بسبب الجفاف المستمر سبعة أعوام.

من جانبه اعتبر المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية تونس خامس دولة في العالم ضمن قائمة الدول الأكثر عرضة لخطر الجفاف ونقص المياه وذلك خلال تقريره عن مارس (آذار) 2024.

وكشف المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (منظمة مستقلة) أن الاحتجاجات الخاصة بانقطاعات المياه شهدت ذروتها صيف عام 2024 مع تسجيل 121 تحركاً ندد فيها التونسيون بتواصل أزمة العطش والانقطاعات المتكررة لمياه الشرب، شملت نداءات استغاثة أطلقها الأهالي والمزارعون والنشطاء البيئيون للمطالبة بالربط بشبكة الشركة الوطنية لتوزيع واستغلال المياه أو الجمعيات المائية.

ومثلت الانقطاعات المتكررة للماء الصالح للشرب وتردي البنية التحتية لشبكة الشركة العمومية أحد أبرز أسباب هذه التحركات، إذ سُجل191 تحركاً يعادل 76 في المئة من إجمال التحركات المطالبة بالحق في الماء، وسجل أبرزها في محافظات القيروان بـ 78 تحركاً وجندوبة بالشمال الغربي 28 تحركاً ومحافظة قفصة الجنوب الغربي 26 تحركاً ونابل الشمال الشرقي25 تحركاً، في حين أعلن المرصد التونسي للمياه (منظمة مستقلة) أنه رصد 2693 بلاغاً يخص اضطرابات في توفير المياه عام 2024 منها 2153 بلاغاً غير معلن واضطراب في التوزيع.

وتصدرت محافظة صفاقس بالجنوب الشرقي 338 بلاغاً و276 في محافظة قفصة بالجنوب الغربي و207 بلاغاً في محافظة سوسة، واللافت أن تلك

المحافظات لم تكن معنية في السابق بمثل هذه الاضطرابات إذ تتمتع الغالبية القصوى من مدنها وأريافها بالربط بشبكة توزيع المياه العامة، خلافاً للإشكالات المزمنة التي تعانيها قرى وأرياف محافظات الشمال الغربي جندوبة والكاف ومحافظات الوسط الغربي القيروان والقصرين وسيدي بوزيد والتي ظلت نسبة التزود بالماء فيها ضعيفة، ويبلغ نقص التزود بالماء الصالح للشرب في هذه الأرياف مستويات مرتفعة ومتفاوتة.

وضع مائي هشة لـ 1.5 مليون ساكن

ولا يتمتع المرتبطون بالشبكة بالضرورة  بالتزويد المتواصل ويعانون التذبذب نتيجة البنية التحتية السيئة للشبكة وفق رئيس الجمعية التونسية للمياه والغابات (مستقلة) جمال العبيدي الذي قال لـ “اندبندنت عربية” إن “التزود الماء الصالح للشرب في أرياف وقرى هذه المحافظات يجري عبر شبكتين تعودان للشركة الوطنية لتوزيع واستغلال المياه وإدارة الهندسة والتنمية الريفية التابعة لوزارة الفلاحة (الزراعة)، إذ مدت إدارة الهندسة الريفية قنوات شبكات التزود بالقرى وبالمناطق الريفية التي لم تبلغها شبكة الشركة الوطنية لتوزيع واستغلال المياه”.

وأضاف، “تكلف الجمعيات المائية بالمكان بعملية توزيع المياه مستغلة الشبكات المتوافرة، وهي جمعيات مائية محلية بهذه الأرياف تقوم بالتصرف التقني والمالي في الموارد المائية الموفرة لها من قبل الشركة الوطنية لتوزيع واستغلال المياه أو تعمد إلى البحث على موارد مختلفة مثل الآبار”، مشيراً إلى أن عدد سكان الأرياف في تونس 3.7 مليون ساكن أي ما يعادل 32 في المئة من إجمال السكان، وتصل نسبة التزود بالماء في الأرياف 95 في المئة، إذ تنقسم إلى 53 في المئة مزودة من قبل الشركة الوطنية لتوزيع واستغلال المياه، أي 1.9 مليون ساكن و42 في المئة مزودة من قبل الجمعيات المائية المذكورة وهو ما يساوي 1.5 مليون ساكن، لافتاً إلى أن نسبة السكان العديمي التزود بالماء من غير المرتبطين بشبكات التزويد بأنواعها هم خمسة في المئة وحسب، ويبلغ عددهم 260 ألف شخص.

وتابع العبيدي “تعاني هذه الجمعيات التي بلغ عددها 1500 جمعية من ظروف عمل معقدة على خلفية المناطق الجبلية التي تعمل فيها”، موضحاً أن “الأزمة الأولى تتمثل في البحث عن موارد للمياه من طريق حفر الآبار في حال عدم مدها بالمياه من قبل الشركة العامة وما يترتب عن ذلك من انعكاسات بيئية ومناخية مختلفة تنتج منها الانقطاعات المتواترة للمياه، بينما الأزمة الثانية والأساس

تتمثل في كلف الضخ المرتفعة نتيجة وجود السكان في المرتفعات مما يستدعي تركيز محطات ضخ كبيرة مستهلكة لكميات كبيرة من الطاقة، وهو ما ينعكس على كلفة الاستغلال للمتر مكعب من المياه، إذ تتراوح كلف المتر مكعب الواحد من المياه الموفر لديها ما بين 0.8 دينار (0.25 دولار) و1.6 دينار (0.5 دولار)، مما تترتب عليه أسعار مرتفعة للغاية مقارنة بنظيرتها الموفرة من قبل

الشركة العامة وهي لا تزيد على 0.2 دينار (0.06 دولار) للمتر مكعب الواحد للمستهلك في حال عدم تجاوز استهلاكه لـ20 متراً مكعب للمياه، وترتب عن تضاعف السعر أربع مرات مديونية خانقة لدى الجمعيات نتج منها قطع المياه من الشركة في حال تزويدها بالماء من دون الآبار، علاوة على انقطاعات الكهرباء المتكررة من الشركة التونسية للكهرباء والغاز على خلفية تراكم الفواتير

غير المسددة، وهو ما تشكو منه معظم الجمعيات إلا عدداً ضئيلاً منها يغنيها نسق ضخ المياه الموفر من قبل الشركة العامة الاستغناء عن اعتماد المضخات بالتالي كلف الطاقة”.

وعن تصنيف السكان من حيث خريطة التزود قال رئيس الجمعية التونسية للمياه والغابات إن “كل مواطن تبعد نقطة تزود بالمياه عن مقر سكنه أكثر من 500 متر يعتبر غير مزود”.

وفي شأن سكان الشمال الغربي التونسي الذين يبلغ عددهم 1.2 مليون ساكن، أوضح العبيدي أن “650 ألفاً منهم يقطنون في الأرياف، وينخفض تدخل الشركة العامة للتزويد إلى 40 في المئة وحسب، ويرتفع التزود من طريق الجمعيات المائية إلى 55 في المئة ويظل خمسة في المئة من سكانه من دون مياه ويبلغ عددهم 50 ألف ساكن، أي ما يساوي 12 ألف عائلة تعتمد على العيون الطبيعية،

بينما تلتحق نسبة كبيرة من السكان المرتبطين بشبكات التزويد المذكورة بقائمة غير المزودين بسبب الانقطاعات المستمرة نتيجة تهالك الشبكات”.

وأضاف، “لا تمتلك الجمعيات المائية الموارد المالية اللازمة لإعادة تهيئة وصيانة القنوات لتحسين الشبكات”، مشيراً إلى أن الأمر يتفاقم في الصيف ويرتفع عدد غير المزودين على خلفية سوء خدمات الجمعيات إلى ما لا يمكن حصره، إذ تتواتر الانقطاعات لدى الجمعيات المستغلة لآبار محلية وغير المستفيدة من مد قناة من الشبكة الوطنية بسبب انخفاض مستوى المياه أو نضوب هذه الآبار”.

قلعة المياه المعطشة

بينما تتمثل المفارقة في الطبيعة المناخية لمحافظات الشمال الغربي الذي تتعمق لديه إشكالات التزود بالماء، إذ يتميز مناخه بالرطوبة ووفرة المياه ونزول الأمطار وارتفاع منسوب المياه في الأودية والسدود بفضل مناطقه الغابية الرطبة، وهو الملقب بقلعة المياه التونسية، إذ تستمد الشركة العامة نحو 52 في المئة من مواردها من الشمال الغربي في حين يتحصل على النسبة الدنيا من التزود

بالمياه بالجمهورية التونسية بـ 40 في المئة من إمدادات المؤسسة، وفقاً للعبيدي.

وأشار إلى أن وزارة الفلاحة والموارد المائية تبحث عن الحلول اللازمة لمياه الشرب لدى المناطق الريفية في هذه المناطق، ومن بين الحلول المقترحة إلحاق الجمعيات المائية بالشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، وقد قدم نواب في البرلمان التونسي مبادرة لتأسيس صندوق وطني للمياه والغابات وتمكينه من صلاحيات التدخل في الحالات العاجلة بحكم أن الإشكال الأساس يتمثل في كلفة التصرف في المياه.

وفي السياق نفسه وصف عضو المكتب الجهوي للاتحاد العام التونسي للشغل بمحافظة جندوبة رمزي الزغدودي الأرياف والقرى في المنطقة بالمعطشة، قائلاً إن “السكان يعتمدون على مياه العيون والبرك والبحيرات الجبلية، وهي مياه غير معتمدة وليست ذات جودة ولا تتوافر فيها شروط الصحة والسلامة”، موضحاً أن “نسبة عدد سكان الأرياف في المناطق الداخلية في تونس تتجاوز 70 في المئة وترتفع في محافظة جندوبة إلى 75 في المئة من إجمال السكان، وقرابة 300 ألف ساكن يعيشون في الريف ويعانون نقص المياه الصالحة للشرب، ومن بين الـ 300 ألف هؤلاء يوجد نحو 40 في المئة من السكان يعيشون في المناطق الجبلية والغابية مما يحوّل الحصول على المياه الصالحة للشراب إلى مهمة صعبة في ظل ظروف العيش القاسية جداً.

واعتبر الزغدودي أن اعتمادات الدولة ضعيفة للتدخل ومد شبكة المياه لإيصال الماء الصالح للشرب، داعياً إلى برنامج متكامل لتمتيع الناس بالمياه الصالحة للشرب بهدف تجنب الأمراض المنتقلة من خلال مياه العيون السائبة ومياه البرك والبحيرات الجبلية وخصوصاً في الصيف، وأضاف أن “المعاناة تتعمق بسبب صعوبة التنقل من مكان مصدر المياه إلى أماكن سكناهم على الدواب والقدمين لكيلومترات عدة في كل الفصول، مع ظروف معيشة صعبة جداً بحكم أن المسالك المؤدية لهم متهاوية أو منعدمة وقد أضحى فك العزلة عنهم بمد شبكة طرقات في أهمية شبكة المياه نفسها”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية