تجلس النيجيرية سكسوس على حافة رصيف في منطقة البحيرة الراقية بالعاصمة تونس فيما يظهر الانكسار والحزن على عينيها ووجهها، وتقول السيدة الثلاثينية باللغة الإنجليزية بينما تحمل ابنتها ذات السنة الواحدة “ابنتي تونسية لأنها ولدت هنا”.
وتضيف سكسوس أن زوجها ذهب إلى ليبيا في محاولة للعمل من أجل تحسين وضعهم ولا تستطيع اللحاق به لأن الأوضاع الأمنية في تونس أفضل لها ولابنتها أيضاً، كما أنها لا تستطيع العودة إلى نيجيريا حيث فقدت كل عائلتها، فاضطرت إلى التسول إذ منعتها رعايتها للابنة من العمل كعادتها في المقاهي والمطاعم، وهي لا تعرف محاضن أطفال يمكن أن تقبل بهذا الوضع.
أما فاطمة، وهي من سيراليون، فتجلس في المكان نفسه قريباً من المفوضية الأوروبية للهجرة بتونس وتحمل طفلها ذي السنتين الذي يبدو أنه مريض وعيناه زائغتان، وتقول إنها حملته إلى المستشفى لكنها لا تملك المال لتشتري له الدواء.
وتضيف فاطمة بحزن وصوت خافت أن زوجها مسجون في ليبيا بسبب الدخول بطرق غير قانونية، وبخصوص الهجرة إلى أوروبا تقول إن عدم امتلاكها المبلغ المطلوب جعلها لا تستطيع الهجرة، أما عن طفلها فقالت إنه إذا تطلب الأمر البقاء في تونس فستدخله إلى المدرسة في انتظار تغير الأوضاع إلى الأفضل.
جمع الفقر والعوز المرأتين وجعلاهما تتسولان في شوارع العاصمة تونس، فبسبب الأطفال لا تستطيعان العمل في أي مكان وبالتالي فإن الطريق الوحيد للعيش هو التسول.
مشهد معتاد
يشار إلى أن عدد أطفال مهاجري أفريقيا جنوب الصحراء في تونس الذين دخلوا بطرق غير نظامية من الحدود الليبية والجزائرية تزايد بصورة مقلقة في تونس، مما جعل أوضاعهم الإنسانية صعبة، فعلى رغم التشريعات التي وضعتها السلطات التونسية من أجل رعايتهم اجتماعياً وصحياً لكن أولياؤهم رفضوا تمتع الأطفال بهذه الحقوق في انتظار فرصة العبور إلى أوروبا، مما جعلهم في وضع الأطفال المجهولين.
وأصبح مشهد نساء مهاجرات يحملن أطفالهن في الشوارع معتاداً وبخاصة في المدن الكبرى مثل العاصمة تونس، ففي ساحة برشالونة بوسط العاصمة اعترضتنا سيدة ثلاثينية تحمل طفلاً فوق كتفها تاركة الآخر ذا السنوات الخمس يوقف السيارات من أجل التسول، ولدى سؤالنا إياها عن عدم إلحاق ابنها بالمدارس قالت بلكنة فرنسية – أفريقية إنها لا تعرف الإجراءات اللازمة لذلك، أما ابنها فقال إنه يريد الذهاب إلى المدرسة للتعرف إلى أصدقاء جدد واللعب معهم، لكن السيدة لم ترد إكمال الحديث ربما خوفاً من عناصر الأمن القريبين منا إذ يمنع القانون استغلال الأطفال بقصد التسول.
وفي مكان آخر غير بعيد تعيش أكوبا (29 سنة) من كوت ديفوار مع زوجها وابنتها زولا (أربع سنوات) في مسكن صغير بمنطقة شعبية، وتقول أكوبا إن وجودها في تونس منذ ستة أعوام هو للعمل وانتظار فرصة للذهاب إلى أوروبا من أجل تحسين وضعهم والعيش هناك، وبخصوص وضع ابنتها تقول إنها لا يمكن لها دخول المدرسة لأنها لا تملك أوراقاً ثبوتية.
ويبلغ عدد الأطفال المهاجرين الموجودين في تونس 1816 طفلاً يمثلون 22 في المئة من مجموع المهاجرين الذين توافدوا إلى الأراضي التونسية والمقدر عددهم بأكثر من 8 آلاف شخص، وفق آخر إحصاء رسمي عام 2022، ليصل العدد الإجمالي إلى 20 ألفاً خلال العام الماضي.
ويؤكد رئيس “المرصد التونسي لحقوق الإنسان” مصطفى عبدالكبير أن “عدد أطفال المهاجرين تزايد بصورة كبيرة ولا يمكن حصره”، موضحاً أن “الولادات تضاعفت خلال عامي 2023 و2024 باعتبار أن المهاجرات يتعمدن الحمل سواء في إطار الزواج أو خارجه من أجل الاستعداد للهجرة نحو أوروبا، لأن وصولهن حوامل أو مع أطفال يجعل فرصة إيوائهن أكبر”، لافتاً إلى أن “الأحداث الأخيرة في السودان جعلت أعداد الأطفال غير المصحوبين والذين تتراوح أعمارهم ما بين 10 و 16 سنة تتزايد بصورة كبيرة، إذ تصل نسبة هذه الفئة العمرية إلى 30 في المئة من نسبة الوافدين إلى تونس، ويعتبر وضع هؤلاء الأطفال صعباً جداً وبخاصة بعد الاتفاق التونسي – الإيطالي لمقاومة الهجرة غير النظامية وتشديد الرقابة على المهاجرين عبر البحر، إذ أغلقت معظم المنافذ مما أجبرهم على البقاء في تونس وغالبيتهم في حال سيئة جداً من دون رعاية صحية أو اجتماعية على رغم التشريعات التي تجعلهم يتمتعون مجاناً بهذه الرعاية”.
ويؤكد عبدالكبير أن صعوبة حصر عدد هؤلاء الأطفال يجعل مهمة متابعتهم اجتماعياً من طرف السلطات التونسية صعبة جداً، مما جعل ظاهرة التسول من قبلهم وأمهاتهم تنتشر بصورة كبيرة في الشوارع التونسية وغالبية المدن الكبرى”.
وفي السياق ذاته يقول رئيس المرصد التونسي لحقوق الانسان إن “تونس تعرف ظاهرة كثرة الأطفال المهاجرين، وعلى رغم تدخل بعض الأطراف والمنظمات والسلطات المعنية من أجل رعايتهم ووجود تشريعات تسمح لهم بتلقي الرعاية الصحية والاندماج في المدارس التونسية، فإنهم يرفضون ذلك خشية منعهم من مغادرة تونس باتجاه أوروبا”.
ويواصل، “تحدثنا مراراً حول أن هذه الفئة العمرية الهشة ما بين 10 و 15 سنة ستكون مسؤولية ثقيلة على تونس، بخاصة إذا توالت الأعوام وبقوا في تونس من دون دراسة ورعاية اجتماعية وثقافية، فهذا الوضع ستكون له تأثيرات كبيرة في المجتمع التونسي والدولي”.
وطالب عبدالكبير السلطات التونسية بمتابعة هذا الملف بكل دقة ووضع إستراتيجية شاملة من أجل إدماجهم في المجتمع التونسي”، محذراً من تزايد ولادات المهاجرات في إطار عشوائي من دون تسجيلهم في المستشفيات التونسية.
من لهؤلاء؟
من جهته قال المتحدث الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر إن الموضوع متشعب جداً بالنسبة إلى الأطفال الذين يعيشون في وضع غير نظامي، وخصوصاً الذين يعيشون في غابات الزيتون بمحافظة صفاقس من دون مأوى وهم نسبة مهمة، إضافة إلى الموجودين في المدن الكبرى على غرار العاصمة تونس”.
أما بالنسبة إلى الأطفال غير المصحوبين فأكد أن “مؤسسات الدولة تقوم بالإحاطة الاجتماعية لهم، لكن الوضع الأصعب هو لمن يعيشون مع عائلاتهم ويعانون وضعاً معيشياً صعباً جداً”.
وتابع بن عمر أنه “وفق تعاملنا مع الملف كمنظمات لم نلاحظ إقدام هؤلاء المهاجرين على طلب الجنسية التونسية بل يحتاجون إلى بعض الوثائق تثبت الهوية من أجل حقهم في الصحة والتعليم”، مواصلاً أن “الدولة التونسية والمنظمات الدولية فقط تستطيعان إيجاد حلول لهؤلاء الأطفال”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفق آخر إحصاءات رسمية تعود لعام 2022 فإن السلطات التونسية والمنظمة الدولية للهجرة ومكونات من المجتمع المدني تمكنوا من التكفل بنحو 400 طفل من بين هؤلاء الأطفال المهاجرين عبر تقديم المعونة والإحاطة الاجتماعية لهم، كما جرى اتخاذ اجراءات عاجلة لحماية 39 طفلاً مهاجراً وإدراج 30 آخرين في برنامج الطفولة الباكرة الذي يقر صرف كلف ارتياد الطفل المهاجر لرياض الأطفال.
وأكد المندوب العام لحماية الطفولة مهيار حمادي في وقت سابق على ضرورة تحديد ملامح الأطفال المهاجرين الذين ينقسمون بين أطفال مصحوبين بعائلاتهم وآخرين غير مصحوبين، مبيناً أن التدابير الخاصة بحمايتهم مستمدة من تشريعات مجلة “حماية الطفولة”، وتأخذ بعين الاعتبار الجوانب الصحية والتربوية والإقامة وتأمين كرامة هؤلاء الأطفال بالنظر إلى كونهم فئة هشة.
وبيّن مندوب حماية الطفولة أن جل الخدمات المسداة للأطفال المهاجرين فور وصولهم إلى تونس تنحصر في الإيواء والمساعدة في توفير متطلبات العيش، وذكر أن حزمة الإجراءات للتكفل بالأطفال المهاجرين تشمل التأهيل المهني الذي تمكن بموجبه وزارة الشؤون الاجتماعية هؤلاء الأطفال من الالتحاق بمراكز الدفاع والتوجيه الاجتماعي لتؤهلهم حتى يحصل إدماجهم لاحقاً بمراكز التكوين المهني، مؤكداً أن باقي الفئات من الأطفال المهاجرين دون سن السادسة ينتفعون من برنامج الطفولة الباكرة عبر الإلحاق برياض الأطفال، كما يمكن أن يحصل جزء آخر منهم على التسجيل في المؤسسات التربوية.
من جهة أخرى يرى الناشط السياسي رمزي عطوي أن “موضوع أطفال المهاجرين سيتسبب بأزمة اجتماعية كبيرة داخلية”، موضحاً في تصريح خاص أن “الإحصاءات تقول إن أعدادهم تتزايد بين ولادات داخل المستشفيات وخارجها لمهاجرات أفريقيا جنوب الصحراء، وبين وافدين من الأطفال غير مصحوبين بآبائهم”، مضيفاً “نحن أمام أزمة كبيرة تتحمل مسؤوليتها وتبعاتها تونس بمفردها”، ومعتبراً أن “التوطين الحقيقي ليس في كبار أفارقة جنوب الصحراء بل في المواليد الجدد الذين سيسهمون في تغيير التركيبة الديموغرافية لتونس”، داعياً الدولة إلى إيجاد حل سريع وترحيل كل مهاجر غير نظامي على الأراضي التونسية.
وتابع عطوي أن “رئيس الجمهورية قيس سعيد يبحث عن حلول إنسانية لهذه الإشكالات التي تسببت فيها الهجرة غير الشرعية، وفي المقابل تكيل بلدان غربية ومنظمات دولية اتهامات زائفة لتونس مفادها أن السلطات تقمع المهاجرين، وذلك في إطار رمي المسؤولية على تونس وتركها وحيدة تحمل وزر هذه القنبلة الموقوتة”.
ومن الجانب القانوني وبمقتضى “مجلة الجنسية” فإن بإمكان أبناء الأشخاص عديمي الجنسية المقيمين في تونس لأكثر من خمسة أعوام الحصول على الجنسية التونسية، إذ ينص القانون على أن الحصول على الجنسية التونسية يكون وفقاً لأربعة شروط، وهي بموجب النسب، أي أن يكون المولود من أبوين تونسيين، أو بموجب الولادة في تونس، أو بمقتضى القانون، أو بموجب الإقامة، إذ تمنح الجنسية لكل شخص أجنبي أقام في تونس لأكثر من خمسة أعوام.
الأمر الواقع
النائبة عن جهة صفاقس في مجلس نواب الشعب فاطمة مسدي رفضت وضع تونس أمام الأمر الواقع بخصوص أطفال المهاجرين، وقالت إن “حقوق هؤلاء الأطفال محفوظة في تونس ولكن يجب على السلطات إيجاد حل جذري لإيقاف نزف الولادات في صفوف الأمهات المهاجرات غير النظاميات”، مؤكدة أنه في محافظة صفاقس وحدها جرى تسجيل خمس ولادات يومية في المستشفيات العمومية من دون احتساب الولادات خارجها.
وأردفت المسدي أن تونس ترحب بكل المهاجرين القانونيين وترفض أية هجرة بطرق غير شرعية، وبخصوص أرقام المهاجرين غير الشرعيين قالت إنها “متضاربة وربما تصل إلى 60 ألف مهاجر، وهذا الوضع غير طبيعي ويجب معرفة كل شخص يدخل الحدود التونسية، وأيضاً على الدولة ترحيل من يوجد على الأراضي التونسية بطرق غير شرعية”.
وأضافت أن تزايد الولادات في تونس مع تزايد المهاجرين يهدد مستقبلاً بتغيير التركيبة الاجتماعية للتونسيين، قائلة إنه “ربما بعد 20 عاماً نجد نائباً في مجلس نواب الشعب من أفريقيا جنوب الصحراء”، معتبرة أن هذا الأمر مخطط يهدد المجتمع التونسي.
وخلال كلمة ألقاها أمام مجلس النواب ذكر كاتب الدولة لدى وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين في الخارج محمد بن عياد أن بلاده وبالتعاون مع المنظمة الدولية للهجرة أعادت 7250 مهاجراً غير نظامي لبلادهم خلال عام 2024، مؤكداً أن موقف تونس هو رفضها التام لأن تكون بلد عبور أو استقبال أو استقرار للمهاجرين.
وأعلنت السلطات التونسية أنها أتمت العودة الطوعية لـ 7250 مهاجراً غير نظامي خلال العام الماضي، فيما أشار محمد بن عياد إلى أن هؤلاء المهاجرين يتحدرون من دول جنوب الصحراء الكبرى وجرت إعادتهم لبلدانهم بالتعاون مع كل من المنظمة الدولية للهجرة ودول المنشأ، إضافة إلى الجارتين الجزائر وليبيا.
وفي هذا السياق أكد بن عياد أن تزايد أعداد المهاجرين غير النظاميين في تونس يزيد الضغوط على الجهد الوطني، ليس على المستوى الأمني وحسب بل وفي المجالات كافة، مضيفاً أن “النهج الأمني في التعامل مع هذه الظاهرة أثبت عدم فعاليته خلال الأعوام الأخيرة مما أدى إلى تحويل دول العبور إلى أماكن تجمع للمهاجرين غير النظاميين”.
يشار إلى أنه جرى الإعلان عن اتفاق ثلاثي يشمل مكافحة عواقب الهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة وجرائم الاتجار بالبشر فضلاً عن تأمين الحدود المشتركة، وذلك في أعقاب اجتماع تشاوري عقد في أبريل (نيسان) الماضي بين تونس وليبيا والجزائر، وأكد البيان الختامي المشترك للاجتماع تمسك الدول الثلاث باستقلال القرار الوطني النابع من إرادة شعوبها، والحرص على إقامة علاقات مع الدول والمجموعات الإقليمية والدولية في إطار الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
ووصل وفد أوروبي في الـ 28 يناير (كانون الثاني) 2024 إلى الحدود الليبية مع تونس لتركيز منظومة مراقبة حدودية يشرف عليها مهندسون فرنسيون في كل من منطقة العسة والشرف وراس جدير لتأمين الحدود المشتركة مع تونس ومراقبتها، تنفيذاً لاتفاقات سابقة واجتماعات عام 2023 وقرارات تنفيذية عام 2024 جرى إبرامها مع حكومة طرابلس.
لكن التشدد الأمني والتعاون الدولي للحد من الهجرة غير النظامية أجبر آلاف المهاجرين وبينهم آلاف الأطفال على البقاء في تونس وربما الاستقرار فيها، فكيف ستتعامل السلطات التونسية مع هذا الوضع الجديد؟
نقلاً عن : اندبندنت عربية