من بين كثير من الوزارات والوكالات الأميركية التي يشن إيلون ماسك حرباً ضد البيروقراطية الحكومية فيها، كانت “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” (USAID) في الواجهة، ليس فقط لأن الرئيس دونالد ترمب قرر ضمها إلى وزارة الخارجية، ولكن أيضاً بسبب تجميد نشاطاتها وإلغاء المئات من عقود المنح والمساعدات العالمية وخفض عدد العاملين في الوكالة من 14 ألف موظف ومتعاقد إلى نحو 294 فحسب، منهم 21 في الشرق الأوسط، مما ينذر بتدهور خطر لدورها حول العالم، فما السبب وراء هذه الضجة؟ وما أهمية الوكالة وأهدافها وطبيعة دورها العالمي؟ وكيف يمكن أن تتأثر بتقليص قوتها العاملة بصورة دراماتيكية؟ وهل تنجح الدعاوى القضائية في وقف تفكيك الوكالة؟
سرعة متناهية
في تسارع لم تشهده الحكومات الأميركية من قبل، تحرك إيلون ماسك الذي عينه ترمب كموظف حكومي خاص وأسند إليه ما يسمى “إدارة الكفاءة الحكومية” (وهي ليست وزارة فيدرالية)، وسعى “أغنى رجل في العالم” إلى استهداف عدد من الوزارات والوكالات الفيدرالية بهدف مراجعة هياكلها الإدارية والمالية من أجل تقليصها وخفض موازناتها ووقف ما يوصف بالبيروقراطية التي تهدر أموال دافعي الضرائب الأميركيين في برامج غير مفيدة من وجهة نظر الجمهوريين والمحافظين الذين يسيطرون الآن على فروع الحكم الثلاثة، البيت الأبيض ومجلسي الكونغرس والمحكمة العليا الأميركية.
غير أن “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” التي ظلت تقدم مساعدات إنسانية لغالبية دول العالم النامي ودول أوروبا الشرقية على مدى عقود طويلة، وشكلت واجهة للعمل الخيري ولقوة أميركا الناعمة، كانت هدفاً مباشراً للرئيس ترمب وفريق ماسك الذين سارعوا إلى اتخاذ خطوات إجرائية لإغلاقها، وواجهوا مقاومة من موظفي الوكالة لأنهم حاولوا الوصول إلى ملفات سرية من دون أن يكون لديهم التصريحات الأمنية اللازمة لذلك، وهو ما اعتبره وزير الخارجية ماركو روبيو نوعاً من العصيان الذي عجل اتخاذ خطوات دراماتيكية للسيطرة على الوكالة.
نهاية مفاجئة
وبعد أن أصبح روبيو القائم بأعمال الوكالة، وفوض إدارتها اليومية إلى مدير المساعدات الخارجية في الوزارة بيت ماروكو، أُبلغ رؤساء مكاتب الوكالة في رسالة عبر البريد الإلكتروني بتشغيل أقل عدد ممكن من الموظفين الأساسيين لتوفير الخدمات الضرورية جداً فحسب، لكن في الأيام التي تلت ذلك، أنهيت خدمات جميع موظفي الوكالة الآخرين تقريباً في الولايات المتحدة أو جرى وضعهم في إجازة إدارية، في حين أُخبرت القوة العاملة للوكالة حول العالم بتوقع مصير مماثل بحلول نهاية الجمعة السابع من فبراير (شباط) الجاري.
ومما جعل المخاوف تتفاقم هو أن الصحف الأميركية نقلت عن مصادر رسمية قولها إن إدارة ترمب قررت تقليص عدد العاملين في “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” من 14 ألفاً إلى نحو 294 وظيفة من المتخصصين في الصحة والمساعدات الإنسانية، 12 شخصاً منهم فقط يركزون على أفريقيا، وثمانية على أميركا اللاتينية، و21 في الشرق الأوسط وثمانية في آسيا، كما أُلغيت 800 من المنح والعقود التي تديرها الوكالة وهو ما شكل صدمة هائلة، ليس فقط للعاملين في الوكالة وإنما أيضاً في الدوائر السياسية في واشنطن وبخاصة بين أعضاء الكونغرس الديمقراطيين الذين تظاهروا جنباً إلى جنب مع موظفي الوكالة.
نزاع قضائي
وتزامنت الاحتجاجات مع رفع دعاوى قضائية من نقابتين تمثلان موظفي الوكالة ضد الرئيس ترمب، وروبيو، ووزير الخزانة سكوت بيسنت بدعوى أن خفض عدد الموظفين بالوكالة وإلغاء عقود المساعدات العالمية غير دستوريين وينتهكان الفصل بين السلطات.
وتسعى الدعوى إلى استصدار أمر قضائي لوقف فصل الموظفين وإجازتهم وتفكيك الوكالة على اعتبار أن “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” لا يمكن حلها من دون موافقة مسبقة من الكونغرس، الذي أقر تشريعاً لإنشاء الوكالة ككيان مستقل عام 1961 خلال عهد الرئيس جون كينيدي، واستمر الكونغرس في تمويلها ككيان فريد من نوعه، ومن ثم يجب على الكونغرس وحده الذي يخصص الأموال للحكومة الفيدرالية ويحدد كيفية إنفاقها، أن يحسم مصير الوكالة وليس الرئيس وإدارته.
ومع ذلك فإن النزاع القضائي قد يستغرق أعواماً حتى يصل إلى حكم نهائي، بينما سيكون العاملون قد شغلوا وظائف في أماكن أخرى ويكون دور الوكالة قد تأثر إلى حد بعيد حول العالم.
ماذا تفعل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية؟
يتسع نطاق عمل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية إلى مجالات عدة، فهو يشمل إغاثة الحرب في أوكرانيا، وبناء السلام في الصومال، ومراقبة الأمراض في كمبوديا، وجهود التطعيم في نيجيريا، ومساعدة صحة الأم في زامبيا، كذلك فإن بعض الاستثمارات تنقذ الأرواح على الفور تقريباً مثل الأدوية التي تُوزع على 500 ألف طفل مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية، أو الأغذية الغنية بالمغذيات التي تنتشل الأطفال الجائعين من حافة الموت في أفريقيا وحول العالم، كذلك ساعدت الوكالة في احتواء تفشي مرض فيروس الـ”إيبولا” والحمى النزفية في الأعوام الأخيرة.
وتساعد الوكالة في استقرار المناطق التي مزقتها الحرب مثل مساعدة المجتمعات على إعادة البناء بعد هزيمة “داعش” في سوريا والعراق، كما تقدم الوكالة مساعدات أقل وضوحاً، ولكنها تؤتي ثمارها على المدى الطويل، مثل إعطاء الفتيات فرصة للحصول على التعليم ودخول قوة العمل أو تنمية الاقتصادات المحلية.
ومع توقف عمل الوكالة الآن، لم تعد تراقب إنفلونزا الطيور في 49 دولة كما كانت قبل ثلاثة أسابيع، وتوقفت عن العمل مع الشباب المعرضين للخطر في أميركا الوسطى لمنع عنف العصابات الذي يحفز الهجرة، وتوقفت كذلك عن مكافحة مرض شلل الأطفال، ولم تعد تتعاون مع المجتمعات في بلدان مثل سوريا والمغرب وكازاخستان للحد من التعرض للتطرف، مما يعني أن الأجيال القادمة ستشعر بكلف تفكيك هذه البرامج بعد ظهور الأضرار، وفقاً لما تقوله سامانتا باور التي كانت تتولى مسؤولية “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” حتى الـ20 من يناير (كانون الثاني) الماضي حينما تولت إدارة ترمب السلطة في البيت الأبيض.
وإضافة إلى ذلك ساعدت الوكالة على استعادة الشعاب المرجانية في جزر سيشيل، وفي إنشاء حديقة وطنية في فيتنام، وحولت رجال حرب العصابات السابقين إلى مرشدين سياحيين في كولومبيا، وبعد أن قضت الحرب الأهلية التي استمرت 16 عاماً في موزمبيق على أكثر من 95 في المئة من الثدييات الكبيرة في البلاد، قدمت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية الدعم للحياة البرية واستعادة الموائل لمتنزه وطني تبلغ مساحته 1.6 مليون فدان، ويؤوي الآن أكثر من 100 ألف حيوان من الفيلة والأسود وأفراس النهر والظباء والذئاب والضباع والفهود وغيرها.
وبحسب أحد كبار المسؤولين في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في إدارة الرئيس السابق جو بايدن، الدكتور أتول جواواندي، فقد بنت الوكالة شبكة تضم أكثر من 50 دولة في كل قارة، لتطوير ما يسمى “نظام المناعة العالمي”، وهي قدرة متسارعة على منع واكتشاف والاستجابة بصورة أسرع للتهديدات الوبائية، مما أدى إلى خفض معدلات الوفيات في البلدان التي تساعدها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بصورة أسرع من الأماكن الأخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خلاف حول الدور
في حين يقول متخصصو الصحة العالمية إن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية مارست شكلاً من صور القوة الناعمة في جميع أنحاء العالم، مما سمح للولايات المتحدة بالحفاظ على وجود ودي في الدول النامية وكذلك مع حلفاء استراتيجيين رئيسين، لكن الوكالة شكلت منذ فترة طويلة هدفاً للمنتقدين المحافظين الذين يقولون إنها تنفق بإسراف وتروج لأفكار تقدمية تتعارض مع المصالح الأميركية، وهو ما حاولت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت تسليط الضوء عليه بصورة لافتة، لتبرير سبب تقليص حجم الوكالة بشدة، إذ قالت إن الوكالة أنفقت رسمياً وبحسب الأوراق أموالاً في برامج لا يريدها الشعب الأميركي، مثل إنفاق 1.5 مليون دولار لدعم برامج التنوع في صربيا، و70 ألف دولار على برامج مماثلة في إيرلندا، و47 ألف دولار لدعم برامج التحول الجنسي في كولومبيا، و32 ألف دولار لإنتاج كتاب حول التحول الجنسي في البيرو.
غير أن سامانتا باور قللت من أهمية برامج التنوع والمساواة في عمل الوكالة، وتشير بدلاً من ذلك إلى أدوار أهم مثل استثمار المال السياسي في أكثر من 100 دولة تعمل فيها الوكالة، مما يزيد من احتمال استجابة قادة هذه الدول لطلبات صعبة من الولايات المتحدة، مثل إرسال قوات حفظ سلام إلى منطقة حرب أو مساعدة شركة أميركية على دخول سوق جديدة أو تسليم مجرم إلى الولايات المتحدة.
معركة دولية
وحذرت باور من ارتفاع الهجمات التي شنتها الصين وروسيا على الوكالة وبخاصة في أبريل (نيسان) 2024، إذ وثقت الوكالة أكثر من 80 حملة دعائية أجنبية تستهدف عمل “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” باللغات المحلية في كل منطقة من مناطق العالم وتضمنت قائمة طويلة من الادعاءات الكاذبة حول كيف تصرفت الولايات المتحدة بتهور، وارتكبت كثيراً من الأفعال السيئة وارتكبت كثيراً من الجرائم.
وبعد أن وسعت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية شراكاتها في جزر المحيط الهادئ عام 2023، نشرت وسائل الإعلام المدعومة من الصين وروسيا معلومات مضللة قبل الانتخابات العامة عام 2024 في جزر سليمان، حيث أشارت الادعاءات إلى أن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية خططت للتحريض على أعمال الشغب وتنظيم انقلاب، بينما استخدمت الاستخبارات الروسية منفذاً إعلامياً جديداً يسمى “المبادرة الأفريقية” من أجل تشويه سمعة برامج الصحة الأميركية في أفريقيا.
ما نفقات الوكالة؟
وفي حين أن برامج المساعدات الخارجية للوكالة واسعة النطاق، إلا أن كلفتها لا تشكل سوى جزء ضئيل من الموازنة الفيدرالية يمثل واحداً في المئة فحسب، وهو ما يعادل نحو 38.1 مليار دولار أنفقتها الوكالة في السنة المالية 2023، وهذا يجعلها هدفاً متواضعاً نسبياً إذا كان فريق عمل إيلون ماسك لخفض الكلف يسعى إلى توفير الأموال ضمن ما يسمى إدارة كفاءة الحكومة.
لكن ماسك، الذي يعد أغنى رجل في العالم، يواصل تحقيق هدفه في أروقة الحكومة الفيدرالية التي يجتاحها كقوة منفردة، مما يخلق اضطرابات كبرى، وهو يتطلع إلى وضع طابع أيديولوجي على البيروقراطية وتخليص النظام من الذين يسخر منهم مع الرئيس باعتبارهم “الدولة العميقة”.
ومع ذلك لا توجد سابقة لمسؤول حكومي يتمتع بمستوى ماسك من تضارب المصالح، الذي يشمل الحيازات المحلية والاتصالات الأجنبية مثل العلاقات التجارية في الصين، كما لا توجد سابقة لشخص ليس موظفاً بدوام كامل يتمتع بمثل هذه القدرة على إعادة تشكيل القوة العاملة الفيدرالية، ولهذا وصف المؤرخ دوغلاس برينكلي، الملياردير ماسك بأنه “يتمتع بمساحة تشغيل لا حدود لها، إذ يعمل خارج نطاق التدقيق”، محذراً من عدم وجود جهة واحدة تحاسب ماسك، ولهذا يرى أن هذا نذير بتدمير مؤسسات الولايات المتحدة الأساس.
ومع ذلك لا يوجد ما يشير إلى أن وتيرة عمل ماسك ورجاله في مواجهة “الدولة العميقة” يمكن أن تفتر، كما لا يتوافر دليل واضح على عزم ماسك تطوير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أو غيرها من الوكالات الحكومية، وعلى رغم انزعاج ترمب من بعض دوافع ماسك السريعة، فإنه أشاد به علناً، وقال ترمب للصحافيين أخيراً “إنه (ماسك) من كبار صناع خفض الكلف، في بعض الأحيان لا نتفق معه ولن نذهب إلى حيث يريد أن يذهب، لكنني أعتقد أنه يقوم بعمل رائع، إنه رجل ذكي”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية