بعد مرور ما يناهز 60 يوماً على بدء الحقبة الجديدة أصبح لسوريا رئيس جديد، واستأنفت شركات الطيران هبوطها في مطار دمشق وعزفت سيمفونية بيتهوفن في دار الأوبرا فيما يبدو رفع العقوبات أمراً حتمياً وإن كان بطيئاً، وباتت الأعلام القديمة مغطاة بألوان جديدة، بينما لا شك في أن عملة جديدة ستطبع وتستبدل العملات التي لا تزال تحمل صور عائلة الأسد.

“لكن…”، هي الكلمة التي تتردد على ألسنة الجميع. يسهل دائماً التشاؤم في شأن احتمالات السلام في سوريا. تعهد الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع “ملاحقة المجرمين الذين يريقون الدم السوري ومن ارتكبوا مجازر وجرائم” في أول خطاب وجهه للأمة منذ سقوط الزعيم السوري المخلوع بشار الأسد.

لا شك في أن الزعيم السوري الجديد نجح في تغيير القيادة في البلاد فيما عجزت الحكومات الدولية عن ذلك، وهو ما يجعل الشارع السوري يوليه قدراً كبيراً من الفضل والتأييد. ستحتاج الحكومة السورية الانتقالية إلى هذا الدعم في مواجهة التحديات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية الضخمة التي تقابلها. ونحن مدينون للمدنيين السوريين بعدم نبذها قبل أن تبدأ العمل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

زرت سوريا هذا الشهر للمرة الأولى منذ 12 عاماً. تغلغل البلد في قلبي عند زيارتي الأولى لمدينة أعزاز التي دمرتها الحرب برفقة الجيش السوري الحر في 2012. شعرت برابط ومودة قويين تجاه الأشخاص الذين التقيتهم هناك، وهذا دفعني لأن أشكل مع ثلاثة من أصدقائي منظمة “العمل من أجل سوريا” Action Syria التي جمعت تبرعات بقيمة 9 ملايين جنيه استرليني (11.4 مليون دولار) للعمل الإنساني في المناطق التي لم يقدم فيها النظام أي مساعدات.

في شوارع دمشق وحلب وحمص لمست مشاعر الحماسة والأمل الحذر. تلخص هديل علي، طبيبة الأسنان الدمشقية ذات الـ26 سنة، هذا الشعور بقولها، “لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة”، في اقتباس لما قاله ناشط تونسي احتفالاً بسقوط الرئيس زين العابدين بن علي عام 2011. وتتابع، “ينتابني الشعور نفسه. أنا أرتعش فرحاً. أشعر بالحزن لكل من فقد حياته بلا معنى… لكننا تحررنا بعد طول انتظار”.

وترافقت مشاهد الفرح تلك التي شهدها شهر ديسمبر (كانون الأول) لـ”سوريا الحرة” مع صدمات وآلام كثيرة لم تحل. فالآن فحسب، أصبح بإمكان السوريين أن يخبروا قصصهم للمرة الأولى، بعد عقود من القمع. ومقابل كل حكاية سمعتها عن السجناء والمختفين قسراً والقتلى، والذين أسكتت أصواتهم، هناك 100 ألف قصة أخرى. إليكم شهادات قليلة عما تحمله الشعب السوري، والأهم، عن آماله للمستقبل.

هذا العمل مدعوم من مركز بوليتزر

صلاح الدين العيسى (31 سنة)

لاعب كرة قدم وسجين وابن شرق دمشق

ظهر العرج في مشية صلاح الدين الذي ملأت الندوب مفاصل يديه وشعره، وقد كسرت بعض أسنانه وبدت عيناه الواسعتان غارقتين في محجريهما كما لو أنهما لم تعتادا بعد على الضوء، فيما بدت بشرته أشد شحوباً من بشرة والده وشقيقه اللذين استقبلاني في منزلهم.

أطلق سراح الشاب من سجن صيدنايا في 8 ديسمبر الماضي. في السابق، كان يحلم بأن يصبح لاعب كرة قدم، لكن وقت قضاه في السجن والإصابات التي تعرض لها جراء التعذيب تجعل من تحقيق هذا الحلم أمراً مستحيلاً.

هذه هي قصته: في 2013، انشق صلاح عن الجيش السوري وفر إلى إدلب، حيث قاتل لمدة سنتين إلى جانب مجموعات عدة من الثوار ضد زملائه السابقين، لكن حلمه كان كرة القدم، فشق طريقه إلى تركيا، حيث حاول الالتحاق بنادي قونيا سبور، ثم بشكتاش، لكن مسيرته المهنية لم تستمر طويلاً، إذ باعتباره منشقاً عن الجيش السوري، لم يكن يملك أية أوراق ثبوتية، وقد قوبل بالرفض.

خلال السنتين التاليتين عاد إلى حلب وصدر عفو رئاسي عن كل المنشقين عن الجيش يسمح له بالعودة إلى دمشق، لكن خطته أرجئت عندما انفجر فيه لغم أدخله المستشفى، فيما كان هو يتكلم وأنا أرسم، تكشف لي شيئاً فشيئاً سبب كل تشويه في جسده، هذه الإصابات المتنوعة التي تراها في وجهه.

لدى عودته إلى دمشق، أعيد تعيينه في الجيش فوراً دون معاقبته، لكن قبض عليه بعد سبعة أيام وهو يتسلل خلسة كي يزور أهله واعتقله فرع فلسطين سيئ السمعة.

“خضعت لجلسة تحقيق واحدة… سألني المحقق ’هل ستتكلم؟ أين كنت السنوات السبع الماضية؟‘، أجبته بأنني كنت في الجيش. خرج بعدها وعاد وهو يحمل ماسورة خضراء. ضربني مرة واحدة على ظهري. كنت أسمع صراخ امرأة تتعرض للتعذيب في الغرفة المجاورة وشعرت بالخوف، كما أن شخصين كانا معلقين على الجدران إلى جانبي، فعرفت أن مصيري سيكون مثل مصيرهما أو أسوأ، لذلك قلت له ’لا بأس، سأخبرك بكل شيء‘، فكف عن ضربي”.

في يناير (كانون الثاني) 2020 نقل إلى سجن صيدنايا، “وهنا بدأت حياة التعذيب… لن أنسى أبداً ذلك اليوم، ولن تغلق تلك الجراح أبداً. عندما دخلنا إلى صيدنايا، طلبوا منا التعري كاملاً. ثم أرسلونا إلى الزنازين تحت الأرض”. كانت مساحة الزنزانة مترين ونصف المتر، فيما علق في سلسلة الجنزير التي قيد إليها 24 شخصاً.

توقفنا عن الحديث قليلاً ريثما يجلب والد صلاح بطانية حرصاً منه على أن أشعر بالدفء – فالكهرباء في دمشق لا تتوفر بصورة دائمة والشتاء قد حل. ثم شرح صلاح أنهم ظلوا جالسين لمدة ثلاثة أيام في مستنقع من فضلات المراحيض عمقه قدم، قبل أن يقتادوهم في اليوم الرابع إلى زنازين سجن صيدنايا العادية. وشرح له أحد السجناء “إن مهمتك الوحيدة هنا هي تناول الطعام والتعرض للضرب – ليس مسموحاً لك أن تتكلم مع أي أحد في السياسة، بل أن تتعرض للضرب وتأكل فقط”، لكن الطعام كان أيضاً أحد أساليب التعذيب، فالحارس وحده يقرر من يحق له الأكل، “في إحدى المرات لم نحصل على أي طعام لثمانية أيام، وبدأ البعض يبكون من شدة الجوع. أحد الحراس الآخرين كان يعذبنا كثيراً، وإن سمع الحراس صوتاً من الزنازين يطلبون من المساجين أن يمدوا أيديهم من الطاقة الصغيرة في الباب، ثم يضربونهم بالعصا”. ويشرح قائلاً، “على يدي ندوب جراء الضرب في صيدنايا، حيث كانوا يأتون حاملين كابلات طائرات وعصياً ويضربوننا في كل مكان. في مرة من المرات، قطعوا لسان سجين اسمه أبو علي بالطريقة نفسها، لكنه نجا بأعجوبة من صيدنايا”.

فيما تحلقت عائلته حوله أخذ صلاح يسرد لمدة ساعتين أهوال ذلك السجن، وقال إنهم كانوا يجمعون أشخاصاً في جنزير واحد كل شهرين تمهيداً لإعدامهم جميعاً. كانوا يتركونهم عراة ويحرمونهم الطعام لمدة ثلاثة أيام، “كنا نسمع صوت ’المكبس‘ عند حصول إعدامات، وعندما يتناهى إلينا الصوت نقول ’الله يرحمه‘- لأننا نعرف عندها أنه توفي”.

كنت أرسم أسنان صلاح المكسورة عندما أخذ يصف آخر أيام نظام الأسد. خلال الأسبوعين الأخيرين، عمل الحراس نوبات مزدوجة، وسمعوا أصوات سجناء يقتادون بعيداً في شاحنات، فافترضوا أنهم سجناء مهمون بالنسبة إلى النظام، لكنهم لا يعرفون أين أخدوهم.

ثم أتى ذلك اليوم، ولم يعرفوا عندها أنه الأحد الموافق الثامن من ديسمبر، وسمعوا صراخ الحراس “أيقظوا الجميع واستعدوا، على الجميع الاستيقاظ”. عندما سمعوا أصوات إطلاق نيران، وهبوط مروحياًت، ارتعبوا ظناً منهم أنها النهاية، “اعتقدنا أنه صدر قرار بتصفية كل سجناء صيدنايا، وأخذ الجميع بالبكاء وترديد الدعاء الأخير”، ثم خيم الصمت.

“بعد فرار الحراس سمعنا أصوات أقدام في الرواق، وفجأة فتحت طاقة الباب وسألنا صوت ’من أنتم؟‘، فأجبنا ’نحن سجناء هنا‘، وعندما سألناهم ’من أنتم؟‘ أجابونا ’نحن سكان قرية تلفيتا الأحرار‘ وهي قريبة من السجن. بعدها أطلق رجل النار من مسدسه على القفل… وفتح لنا الأبواب وقال ’سوريا حرة الآن وأنت أحرار – فاخرجوا‘”.

توفيق علي دياب (45 سنة)

ميكانيكي، دوما، شرق دمشق

في تمام الساعة السابعة صباحاً من يوم السبت الـ18 من أبريل (نيسان) 2018، انفجر صاروخ في دوما البلدة الصغيرة الواقعة شرق دمشق التي سرعان ما أصبح اسمها بعدها معروفاً للجميع. كان هجوماً كيماوياً اعتبرت روسيا أنه تمثيلية قبل أن تستخدم حق النقض لتمنع إرسال بعثة أممية من أجل التحقيق في الحادثة. لكنه كان حدثاً ضخماً أدى إلى إطلاق الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا صواريخ “كروز” على أربعة أهداف حكومية سورية. وبالنسبة إلى سكان المنطقة كان جحيماً.

في الشارع القريب من ساحة الشهداء اجتمع أشخاص كثر ليشاركوني قصصهم فتحلقوا قرب غطاء السيارة الذي وقفت بجواره، لكن قصة توفيق علي دياب برزت بصورة خاصة تلك الليلة.

عندما سمعوا أصوات أولى الضربات الجوية ذلك اليوم منذ ست سنوات، التجأوا كعادتهم إلى الملجأ تحت الأرض، لكن غاز الكلور تسرب إلى كل زوايا المبنى من الأسطوانة التي رمتها المروحية. وفقد علي دياب شقيقه وأطفاله الأربعة وزوجته هنادي، “كنت معهم تحت الأرض، لم يكن بوسعي أن أشهق، بل إن أزفر فحسب، وخرجت عيناي من مقلتيهما وأصبحت أحمر اللون. في اليوم التالي، وجدت ثلاث جثث أمام بابي وكان في المركز الصحي 42 آخرون. حاولنا تنظيفهم، لكن الماء كان مقطوعاً”. تتفق التقارير بصورة عامة حول وقوع 43 وفاة بالإجمال جراء الضربة، “لم يهب أحد لمساعدتنا لأن خوفهم الشديد منعهم، حتى المركز الصحي لم يعرف كيف يتصرف”.

انضم رجل آخر من تجمعنا الصغير في الشارع إلى الحديث. وفي أثناء تصفح صور العائلة على هاتفه الذكي، وصف علي دياب كيف وصل جنود النظام في اليوم التالي بصحبة الإعلام الروسي وأمروه بأن يحمل الميكروفون ويقول أمام الكاميرا إن “الإرهابيين” نفذوا الضربة. هذا هو الخطاب المضاد الذي أصبح مألوفاً جداً في هذه الحرب.

عندما اشتد الظلام وما عاد بإمكاني الكتابة، دعاني علي دياب إلى منزله، حيث انضمت إليه ابنته الصغيرة جودي وهي تلبس رداء أحمر قان. تزوج الرجل ثانية بعد الهجوم وأنجب ثلاثة أطفال آخرين – ووصف لي شعور الوحدة القاتل الذي كان يحسه، “كنت وحيداً، ليس معي أحد يشاركني الطعام ولا الصيام ولا الإفطار، وليس لديَّ أحد أشتري له ثياباً جديدة… خضعت لجراحة في القلب – بسبب الضغط النفسي والحزن”. أشحت في نظري لحظة كي أرسم وعندما عدت لأنظر إليه وجدت الدموع تسيل على خديه. وقال، “أشعر بألم في قلبي، حتى الآن في الليل، ولا أريد أن ترى زوجتي الجديدة ألمي فأغطي نفسي وأبكي”.

أفسح لي الرسم المجال كي أستمع إلى علي دياب. من السهل تصور آليات سير الحرب والإحصاءات المخيفة، لكن من الأصعب بمكان تخيل الكلفة الإنسانية للحرب. وقال لي باكياً “كنت أحضر ستة أكواب قهوة في الصباح، والآن لا أحضر سوى كوب واحد”.

أبو أحمد (55 سنة)

ميكانيكي، والد، مربي حمام، حي السكري، جنوب حلب

لاحظت مرآب أبو أحمد لتصليح السيارات قبل أن ألاحظ صاحبه. كان منظر المكان عادياً، وفيه مفكات مصفوفة بصورة مرتبة ومقعد للعمل، لكن وسط عتم المكان تبرز طيور حمام، تجلس على ملزمة التثبيت وعلى المحركات التي كان يصلحها. بعض هذه الطيور كانت ريشها ملوناً بألوان زاهية فيما كانت طيور أخرى تبدو عادية الشكل. وأخذت الطيور تتحرك بهدوء. كما علقت على الجدران أقفاص عصافير صغيرة فيها طيور الكنار والحسون.

وقال أبو أحمد، وهو في أواخر الخمسينيات من عمره “لا أحب الحديث مع الناس كثيراً لذلك أربي الطيور”. وللمفارقة، بالنسبة إلى رجل لا يروق له الناس، كان من اللافت عدد الأشخاص الذين يحبونه في الشارع الصغير في حي السكري، جنوب حلب. كان يتكلم باستمرار ويعرض كرسياً على أي شخص يبدو عليه التردد. حتى أنا.

لقد اكتشفت أن الأشخاص طيبي القلب أو الذين تعرضوا لمعاناة غالباً ما يربون حيوانات أليفة أو يزرعون حدائق، ولا سيما على هامش الفظائع. لم أتمكن من مقاومة القيام برسم.

ربما تكون كنية أبو أحمد (بالثقافة العربية تعني والد أحمد) من الأشهر والأكثر شيوعاً في سوريا، لكن طريقة ترديده للاسم بداية جعلتني ألتفت إلى الحزن الذي يحمله داخله. لكن في البداية، وكما هي العادة عند إجراء مقابلة مع غرباء، أخدنا نتحدث عن الأمور العادية مثل كلفة الحرب وأسعار البيض.

كانت هذه أموراً تمس حياة أحمد كثيراً، “كنت أدخر المال لبناء غرفة ثانية في منزلي منذ 10 سنوات، ولم أفعل ذلك بعد، لكن أسعار البيض تراجعت حتى 35 ألف ليرة سورية للعلبة بدل 75 ألف ليرة، وارتفعت الليرة السورية مقابل الدولار هذا الصباح. أحياناً يمر عليَّ خمسة أيام دون عمل”. هذا واقع يعيشه كثر في سوريا حالياً، يقبع 90 في المئة منهم تحت خط الفقر [سعر الدولار الأميركي الواحد وقت النشر بلغ 9000 ليرة سورية].

“لديَّ ست بنات وولد ميت. كان بعمر الـ14 واسمه أحمد أسامة. قتلته قذيفة هاون في 2012 – منذ 12 عاماً في منطقة اسمها الحمدانية في حلب، هل تود أن أعطيك العنوان؟”. شرح لي بأن الهاون أطلقه الجيش السوري، لكنهم ظلوا ينفون ذلك ويقولون إنهم “الإرهابيين” – ذلك المصطلح الفضفاض الذي أطلقوه على أي شخص يتصدى لنظام الأسد. وقال، “جاء هذا الأسبوع ليشكل راحة للروح”، كما قال وهو يومئ بيده ليفسر أن عبئاً أزيح عن صدره وقلبه. وللمرة الأولى، سيتسنى له زيارة أحفاده الخمسة الذين يسكنون في مكان قريب، لكن الحرب فرقتهم، “لم أتعرف عليهم حتى اليوم”. إنها قصة شائعة في سوريا، حيث يعيد الآلاف التواصل بأحبتهم بعد سنوات انقطاع طويلة. يعيش البعض في أماكن قريبة، بينما أصبح آخرون على بعد أميال بعيدة، حيث يعيشون كلاجئين أو كنازحين.

يعاود أبو أحمد الحديث عن ابنه “كان (أحمد) الوحيد الذي يمكنه أن يدعمني ويساعدني. كان أحمد جناحاي”.

في تلك اللحظة، رفرفت حمامة بجناحيها بذعر داخل المحل ووصل رجل على متن شاحنة، حاملاً معه محركاً كهربائياً للتصليح. نهض أبو أحمد من مكانه وابتسم وواصل يومه.

انقر هنا لمعرفة المزيد عن “العمل من أجل سوريا”

نقلاً عن : اندبندنت عربية