وقعت هذه الصفقة الغريبة بعد الساعة التاسعة مساء بقليل في الـ 17 من يناير (كانون الثاني) الماضي، إذ أجري رهان مالي ضخم بعد أقل من دقيقتين من نشر الرئيس الأميركي دونالد ترمب على حسابه في وسائل التواصل الاجتماعي إعلاناً عن إطلاق عائلته عملة مشفرة جديدة تحت اسم “$Trump”.
وخلال تلك الدقائق حصلت محفظة مشفرة برمز تعريف فريد يبدأ بـ (QSc2Cx6) على كمية ضخمة من هذه الرموز الجديدة، إذ اشترت 5.971.750 ملايين رمز بسعر الافتتاح البالغ 18 سنتاً لكل منها، مما دفع سعر العمل الجديدة نحو الارتفاع ليصل إلى 75 دولاراً للرمز.
ووفقاً لتحليل أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” فقد حقق هذا المتداول الذي لم تُكشف هويته أرباحاً بقيمة 109 ملايين دولار خلال يومين فقط، ومع ذلك فإن الأرباح السريعة للمتداولين الأوائل الذين يبدو أن بعضهم يقيم في الصين، أجريت على حساب عدد أكبر بكثير من المستثمرين الأبطأ الذين تكبدوا خسائر تراكمية تزيد على ملياري دولار بعد انهيار سعر الرمز.
وحتى منتصف هذا الأسبوع أفاد فحص أجرته شركة التحليلات الجنائية للعملات المشفرة “تشيناليسيس” بأن أكثر من 810 آلاف محفظة فقدت أموالها في هذه الصفقة، ومن المرجح أن الخسائر الإجمالية أكبر بكثير، إذ لا تشمل البيانات التعاملات التي تمت على سلسلة من أسواق العملات المشفرة الشهيرة التي بدأت في عرض العملة فقط بعد أن ارتفع سعرها بالفعل، فيما استقر سعر عملة ترمب حول 17 دولاراً هذا الأسبوع، أي أقل من ربع قيمته القصوى البالغة 75 دولاراً.
تجارة ممتازة
وسواء ربح الناس أو خسروا المال فقد كانت تجارة ممتازة لعائلة ترمب، إذ تدفق نحو 100 مليون دولار من رسوم التداول إلى العائلة وشركائها على رغم أن معظم ذلك لم يصرف بعد، وفقاً للبيانات، وأشعل الرئيس ترمب هذا الصراع قبل ثلاثة أيام من تنصيبه مما أدى إلى سلسلة من الازدهار والكساد السريع الذي أثار الآن أسئلة أوسع نطاقاً حول الأخطار المضاربية لما يسمى عملات الـ “ميم”.
وروج ترمب للعملة على منصة التواصل الاجتماعي الخاصة به “تروث سوشيال”، إضافة إلى منصة إيلون ماسك “إكس” قائلاً “انضم إلى مجتمع ترمب الخاص بي واحصل على $TRUMP الخاص بك الآن”.
وقال عدد من المنظمين الماليين السابقين على مستوى الولاية والحكومة الفيدرالية إن سلسلة الأحداث المتعلقة بالعملات المشفرة ليست مفاجئة على الإطلاق، ووفقاً لبعض المحللين فإن هذا الاتجاه جزء من تصميم صناعة العملات المشفرة التي تعد قانونية لكنها تظل غير منظمة إلى حد كبير، ويعتمد التداول في هذه العملات بشكل أساس على عمليات شراء باكرة من قبل المتداولين المتمرسين الذين يرفعون السعر، ثم يبيعون ممتلكاتهم بينما يتبعهم المستثمرون الأقل خبرة والذين غالباً ما ينتهي بهم الأمر بخسائر فادحة.
وما يجعل هذا الوضع مقلقاً بالنسبة إلى المراقبين الحكوميين والمنظمين السابقين هو أن عائلة ترمب تستفيد من هذا النمط الاستغلالي في الوقت نفسه الذي يسعى فيه الرئيس ترمب إلى إنهاء حملة تنظيمية صارمة على العملات المشفرة التي ينفذها عدد من الوكالات الحكومية.
وأشار كوري فراير الذي ترك أخيراً منصبه كمستشار للعملات المشفرة لدى لجنة الأوراق المالية والبورصة إلى أن “الرئيس يشارك في مخططات مشبوهة للعملات المشفرة التي تضر بالمستثمرين، وفي الوقت نفسه يعين منظمين ماليين سيعملون على إلغاء الحماية للضحايا مما قد يعزل عائلته عن إنفاذ القانون”.
خسائر تكبدها المستثمرون
وكانت الخسائر التي تكبدها المستثمرون على رهان ترمب حقيقية للغاية بالنسبة إلى مئات آلاف المستثمرين، بما في ذلك بعض المؤيدين الصريحين لترمب، وخلال الأيام التي سبقت أداءه القسم احتفل شون إم ويتسون (40 سنة) وهو مالك شركة صغيرة لإصلاح أجهزة الكمبيوتر، بعودة ترمب للبيت الأبيض، وكتب مع صورة له في يوم التنصيب “اليوم نستعيد بلادنا!”، معرباً عن أمله في ارتفاع سعر عملة ترمب.
لكن بحلول نهاية يناير الماضي سئم ويتسون وكتب في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي “انتهينا من هذا الهراء الذي يتعلق بترمب”، معرباً عن خيبة أمله وقائلاً “هذه العملة هي مزحة”.
وعلى مدى الأشهر الستة الماضية خطا الرئيس ترمب وأبناؤه خطوات سريعة في صناعة التشفير، وبينما كان ترمب يروج للعملات المشفرة خلال حملته الانتخابية فقد ساعد أيضاً في تأسيس شركة تُدعى “وورلد ليبرتي فايننشال” عرضت عملة رقمية تُدعى $WLFI لبعض المستثمرين الأثرياء ذوي الخبرة في الأسواق المالية.
والأسبوع الماضي أعلنت مجموعة ترمب للإعلام والتكنولوجيا، الشركة الأم لمنصة التواصل الاجتماعي الخاصة بترمب “تروث سوشيال”، أنها ستنتقل إلى صناعة الخدمات المالية من خلال إنشاء علامة تجارية تُعرف باسم تروث في (TruthFi) والتي ستقدم منتجات استثمارية مرتبطة بـ “بيتكوين”.
ووصف الرئيس التنفيذي لشركة ترمب للإعلام ديفين نونيس العروض بأنها “بديل تنافسي لصناديق الاستيقاظ ومشكلات إلغاء البنوك التي تجدها في جميع أنحاء السوق”.
وبناء على طلب الصحيفة فقد أعاد محللو العملات المشفرة بناء بعض من أوائل التداولات التي قام بها المشترون لرمز ترمب، وفحصوا عمليات تحقيق الأرباح وكيف أن السعر انهار بعدما بدأ المشترون الأوائل في التخلص من ممتلكاتهم مما ألحق الضرر بالمستثمرين الآخرين، وقالوا إن “المبدعين أو شركاءهم يضخمون سعر العملات بصورة مصطنعة ثم يبيعون عملاتهم بسرعة بأسعار مرتفعة مما يجعلهم يحققون أرباحاً كبيرة ويتسببون في انهيار السعر”.
ووصف المنظمون في نيويورك هذه المناورات بأنها “مخططات ضخّ وتفريغ”، وحذروا من أنها قد تترك المشترين الذين يدخلون في وقت متأخر بخسائر كبيرة، في حين لم تظهر أية أدلة على أن ترمب أو شركاءه ضخموا سعر العملة بصورة مصطنعة أو شاركوا في التداول الداخلي، وعندما سُئل عن التداولات الباكرة لعملة ترمب وتحقيق الأرباح، امتنع إريك ترمب، الابن الأوسط للرئيس، من التعليق.
معلومات داخلية
وفي عالم العملات المشفرة تسجل كل معاملة على سجل عام يمكن رؤيته ويعرف بالـ “بلوك تشين”، وعادة ما تظل أسماء الأشخاص الذين ينفذون التداولات مخفية إذ يجرى تعريف كل حساب فقط بواسطة سلسلة طويلة من الحروف والأرقام، كما يتيح الـ “بلوك تشين” للمحللين العودة والنظر في العروض الجديدة وفك تشفير ما فعلته كل محفظة، ومتى استثمرت للمرة الأولى ومتى نقلت أي رموز أو باعتها، وما هي الأرباح والخسائر النهائية الناتجة من كل صفقة، ويمكن لهذا التحليل أيضاً أن يشير إلى أي شذوذ في التداولات التي تثير تساؤلات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن الحساب الذي وراء أول عملية شراء عامة كبيرة والرهان البالغ 1.096.109 مليون دولار أنشئ قبل ثلاث ساعات من إطلاق ترمب للعملة، وفقاً لتحليل سجلات التعاملات العامة للعملات المشفرة، ومُوّل في تلك الليلة بالعملات الافتراضية مما بدا أنه جاهز للاستفادة من العرض الجديد.
وأثارت التداولات المتوقعة بصورة جيدة وحقيقة أن المحفظة تلقت تمويلها قبل إطلاق عملة ترمب مباشرة على الفور الشكوك من قبل محللي العملات المشفرة الذين تكهنوا بأن المتداول كان يتصرف بناء على معلومات داخلية، وفي عالم العملات المشفرة قد يكون من المستحيل تحديد الشخص المتداول، ومن الشائع أن ينشر الأشخاص مطالبات كبيرة وأحياناً غير قابلة للتحقق على وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن يختفوا فجأة، مما يجعل من الصعب على المستثمرين الهواة التمييز بين الاستثمارات المشروعة والاحتيالية.
لاعب كبير
وما هو واضح بناء على سجلات الـ “بلوك تشين” أن الشخص وراء صفقة الـ 1.1 مليون دولار يعد لاعباً كبيراً بين الحشود من المتداولين المحترفين الذين يشترون بسرعة ثم يبيعون عملات “الميم” الجديدة، محاولين الاستفادة من الارتفاعات المضاربية التي تحدث عند إصدار العملات، وبعد إجراء الشراء انتقل صاحب الحساب بسرعة لبيع العملات محققاً ربحاً لا يقل عن 50 مليون دولار، وفقاً لتحليل المعاملة بواسطة “أوريل بارثير” من نانسين، وقد أدت المبيعات اللاحقة إلى تحقيق أرباح إجمالية بلغت 109 ملايين دولار، وفقاً للمراجعة التي أجرتها “مولي وايت”، ثم قام المتداول ببيع تلك الرموز خلال أقل من نصف ساعة محققاً ربحاً صافياً بلغ 2.7 مليون دولار، كما تظهر سجلات الـ “بلوك تشين”.
لكن من بين كل فائز كان هناك مزيد من الخاسرين، فعلى مدى الأيام الـ 19 الأولى من التداول سجل ما مجموعه 813294 محفظة خسائر، إما من طريق بيع الرموز بخسارة أو الاحتفاظ بالعملات التي انخفضت قيمتها بصورة كبيرة، وهذه ظاهرة مألوفة لمتداولي العملات المشفرة، فقبل بضعة أسابيع من إطلاق عملة ترمب كانت بعض المحافظ نفسها التي اشترت رمز الرئيس قد تداولت أيضاً عملة ميم تُدعى “هوك توه” التي روجت لها المؤثرة في وسائل التواصل الاجتماعي هالي ويلش، وقال نائب المشرف السابق في إدارة الخدمات المالية بولاية نيويورك، غاريث رودس، وهي إدارة تساعد في تنظيم صناعة العملات المشفرة والشركات المالية الأخرى، “هذا مشابه للمراهنات الرياضية أو القمار، فعميل التجزئة الذي يضع أمواله يفعل ذلك وهو معرض لخطر فقدان معظمها أو حتى كلها على أمل الحصول على مكافأة ضخمة”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية