“مدينة النساء” كتاب حطم كل الأرقام القياسية، ولا سيما بالنسبة إلى كونه الكتاب الذي انتظر أكثر من نصف ألفية من السنين قبل أن يطبع للمرة الأولى في التاريخ. وهو طوال تلك السنوات اكتفى بأن يعيش منزوياً مخبوءاً عبر 27 مخطوطة توزعت على قصور وأديرة أوروبية، بالكاد يلتفت إليه أحد، بل حتى حين اكتشف الكتاب، وهو لم يكن ضائعاً أبداً على أية حال، وطبع عند نهايات القرن الـ20 مترجماً إلى الفرنسية والإيطالية والإنجليزية بين الأعوام 1986 و1997 و1999 تباعاً، لم يلفت نظر كثر من الناس خارج الأطر الأكاديمية التي لم تهمله على أية حال منذ عام 1980، حين راح يدخل في الأطروحات الجامعية، وراحت مؤلفته كريستين دي بيزان التي عاشت بين 1364 و1430 تقريباً، تتحول تدريجاً إلى أيقونة حقيقية من أيقونات الكتابة النسوية التي كانت قد بدأت تروج منذ سبعينيات القرن الـ20 منافحة عن قضية المرأة ودورها في المجتمع.
إذاً تأخر ذلك الرواج والاهتمام قروناً طويلة من الزمن، وتأخرت كريستين في الحصول على مكانة تستحقها. بل حتى اليوم لا تزال قليلة المراجع والموسوعات التي تتحدث عن تلك الكاتبة الفذة وتستشهد بحضورها الطاغي في زمنها، متسائلة عما جعلها تغيب كل ذلك الغياب. فمن هي تلك الكاتبة؟ وما حكاية كتابها؟ ولِمَ تراها غابت طوال كل ذلك الزمن قبل أن تظهر فجأة في زمن كانت فيه أفكارها قد انتشرت دون أن يعرف أحد كيف ولماذا وهل لها هي علاقة بالأمر برمته؟
معركة شرسة ضد الرجال
الواقع أن الوصول إلى إجابات ولو مجتزأة عن هذه الأسئلة، احتاج أول الأمر إلى ترجمة الكتاب إلى الفرنسية مع أن مؤلفته كتبته بالفرنسية، لكنها كانت فرنسية ما قبل مونتاني التي لم يعد أحد اليوم قادراً على فهمها، ولكن منذ صدرت تلك الترجمة وقُرئ “مدينة النساء” على نطاق لابأس به، حتى أصابت الدهشة قارئيه.
فخارج الإطار اللغوي الذي يعود إلى زمن ما قبل الطباعة، اتسم الكتاب بحمله فكراً عميقاً يكاد يكون حديثاً، أي يبدو وكأنه كتب في زمن شديد القرب منا. فلقد بدا مدهشاً فيه الوعي والبصيرة اللذان حكماً فكرانيته، ولا سيما من ناحية قدرة الكاتبة على إماطة اللثام عن الأحكام المسبقة التي يحملها الرجال عن النساء، وكذلك من ناحية تمكن الكاتبة من التنديد الصريح بالعنف الذي يمارسه الرجال تجاه النساء.
ومن بينه العنف الجنسي الذي يبدو متوافقاً مع قوانين تلك المراحل الزمنية ولا تدينه لا القوانين الوضعية ولا القوانين الكنسية. ولعل ما هو أكثر غرابة من ذلك هو الكيفية التي تدين بها تلك الكاتبة الشابة، الغموض الذي يحيطه الرجال بكل ما يتعلق بحياة المرأة وشؤونها، مصرين على إبعادها عن كل ما يتعلق بأعمالهم وحياتهم الاجتماعية مهما كن قريبات منهم. وتلفت الكاتبة التي من الواضح أنها هي كانت في منأى عن تلك المعاملة على أية حال، وسنشير بعد قليل لماذا، إلى أن تلك الوضعية كانت مسؤولة أساساً عن الحيف الذي يلحق بحياة المرأة حين تجعلها الظروف أرملة أو مطلقة أو أي شيء من هذا القبيل.
أب متسامح وكريم
أما بالنسبة إلى ما نؤكده هنا من أن كريستين كانت في منأى عن ذلك كله، فما ذلك إلا لأنها هي نفسها كانت امرأة عاملة امتلكت وبتشجيع مبكر من أبيها مؤسسة لنشر الكتب ونسخها وبيعها، ولا سيما كتبها هي التي كانت تنتشر في عدد من المنسوخات وتباع لدى كبار القوم، وحتى يشتريها الملوك والأمراء الذين كانوا يعرفونها من كثب ويكنون لها احتراماً كبيراً، وذلك كما أشرنا قبل ولادة الطباعة مباشرة. وكريستين تؤكد هنا أن الرجال “سواسية في تلك التصرفات المقيتة”، لكنها تستثني أباها الذي تفيدنا بكل وضوح أنه كان شيئاً آخر تماماً “فلقد كان هو من كشف لي عن روعة الآداب والفنون الجميلة منذ نعومة أظافري وأدخلني عوالم الفلسفة والتاريخ، وأطلعني على غوامض العلوم والتقنيات القديمة، مما أتاح لي حين كبرت أن أنفق على نفسي من تعبي دون أن أحتاج إلى أحد”، مما يعني طبعاً أن كريستين دي بيزان كانت أول أديبة تعيش من قلمها وعملها في التاريخ لحد علمنا حتى الآن في الأقل، أو بالأحرى أنها كانت أول ناشرة مبدعة أوروبية، وهي على أية حال كانت فخورة بكونها أوروبية ولو من خلال الشهرة التي اكتسبتها، بحسب ما تقول مؤرخة حياتها المعاصرة لنا كريستيان كلابيش تسوبر، لدى الأوساط الحاكمة في عدد كبير من البلاطات الأوروبية ولدى أكثر الملوك والأمراء إيماناً بالثقافة والتنوير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن هنا ما يذكره مؤرخو سيرة كريستين هذه من أن ملوكاً من طينة هنري الرابع في إنجلترا، وأمراء من طينة آل فيسكونتي في ميلانو، كانوا يتسابقون إلى دعوتها لزيارتهم والإقامة في قصورهم. أما هي فإنها، وعلى رغم الثروات الموعودة مقابل استجابتها، فكانت ترفض أن تنفي نفسها على تلك الشاكلة مفضلة أن تمضي أيامها هادئة مناضلة محاطة بسيدات الأعمال اللاتي جمعتهن من حولها وكن يشاركن قراءة وكتابة النصوص التي تجمعها على شكل كتب ينسخنها ويوزعنها كجزء من معركة فكرية يؤمن بها ويعتبرنها مبرر وجودها.
كتاب مغاير للكتب
وضمن هذا السياق يأتي بالطبع كتابها “مدينة النساء” الذي أنجزته في عام 1405. وهو كما قد لا يوحي عنوانه، لا يخترع مدينة نسائية طوباوية ليصف الحياة فيها، بل يعتبر العالم كله مدينة للنساء انطلاقاً من اهتمامه بالحديث عن عدد لا بأس به من النساء اللاتي عرفهن التاريخ وكانت حكايات حياتهن وأفعالهن متفرقة في الكتب والمكتبات، ولكن ها هي كاتبنا – ذات الأصل البندقي، حيث هي ولدت في البندقية الإيطالية، لكنها اختارت لاحقاً أن تعيش وتعمل في باريس، حيث رحابة العلم وازدهار الحرية الفكرية كان مغرياً وملائماً لها – ها هي تجمع تلك الحكايات على اعتبارها أمثولات في قدرة المرأة عبر التاريخ على خلق المعجزات وتوليد الأفكار والمساهمة، كما تقول هي نفسها، “في جعل العالم أفضل”.
وهكذا تتتابع أمام أعين القارئ المدهوش غالباً، أسماء وحكايات الشاعرة سافو ومقاتلات الأمازون، وأوروبا ابنة ملك صور التي سميت القارة الأوروبية على اسمها، وصولاً إلى السيدة مريم العذراء والأميرة المقدامة بلانش دي كاستيلا، وغيرهن الكثيرات. ومن الواضح، على أية حال، أن الطريقة التي سجلت بها كريستين تلك الحكايات لم تكن تستهدف التسرية عن القراء أو حتى إثبات وجودها هي نفسها ككاتبة، بل كان القصد الجلي هو تمكين القارئ وربما القارئة خصوصاً – مع شكنا في أن الزمن كان يتيح كتاباً من هذا النوع لقارئات نساء. بالتالي ربما كان الرجل هو المستهدف ضمن إطار معركة تود فيها الكاتبة أن تسجل عليه نقاطاً في معركة تسعى إلى أن تنتصر فيها – تمكينهما من التعرف على التاريخ الحقيقي للقول إنه إذا كانت المرأة تبدو مستضعفة اليوم، فما هذا إلا بسبب الرجل بعدما عرف التاريخ نساءً تفوقن عليه بصورة حاسمة. بالتالي يبدو الكتاب أقرب إلى أن يكون إنذاراً وخريطة طريق لمعارك مقبلة.
وطبعاً لم يكن “مدينة النساء” الكتاب الوحيد الذي خلفته كريستين دي بيزان، بل هي تركت كتباً عدة منها واحد يمكن اعتباره جزءاً ثانياً له عنوانه “كنوز مدينة النساء”، وكذلك “كتاب الفضائل الثلاث”. ولقد ازداد الاهتمام بكريستين وحياتها وكتاباتها، منذ اكتشاف كتابها الأشهر “مدينة النساء” الذي يعد اليوم، ولو في أوساط محدودة، الأم الشرعية للأدب النسوي على مجرى التاريخ.
نقلاً عن : اندبندنت عربية