في الـ26 من فبراير (شباط) عام 2022، بعد يومين من إطلاق روسيا هجومها الكامل لأوكرانيا، وجه ميخائيلو فدوروف، وزير التحول الرقمي الأوكراني، نداءً عاجلاً إلى إيلون ماسك كي يعطي بلاده منفذاً إلى الإنترنت عبر نظام “ستارلينك” Starlink، وهو شبكة أقمار اصطناعية للاتصال بالشبكة العنكبوتية. وآنذاك، أدى الغزو الذي مهدت له روسيا بحملة من الهجمات السيبرانية إلى إحداث اضطراب واسع في الشبكات الرقمية الأوكرانية. ومع حلول اليوم التالي، أجاب ماسك أن “ستارلينك” تعمل بنشاط في أوكرانيا، وأن الشركة ستزودها بسرعة بمجموعة من المحطات الأرضية لاستقبال البث من تلك الشبكة.

وتعتبر “ستارلينك” شركة متفرعة من شركة “سبايس إكس” SpaceX التي يملكها ماسك. ولم تكُن الشركة التكنولوجية الغربية الوحيدة التي بادرت آنذاك إلى مد يد العون إلى أوكرانيا. وبفضل تقصي نماذج من برمجيات رقمية خبيثة روسية المنشأ، أنذرت “مايكروسوفت” أوكرانيا قبل بداية الحرب، عن الكيفية التي قد يؤثر بها النزاع الموشك الاندلاع حينها، في أنظمة المعلوماتية في تلك البلاد. وآنذاك، عملت “مايكروسوفت” وشركة “أمازون ويب سيرفسز” التي تُعرف باسمها المختصر “أي دبليو أس” AWS على ترحيل بيانات حكومية [أوكرانية]حساسة إلى خوادمهما المتخصصة في تقنية حوسبة السحاب بغية الحفاظ عليها. وعقب اندلاع الحرب، قدمت شركتا “غوغل” و”مايكروسوفت” خدمات متواصلة إلى أوكرانيا في مجال الأمن السيبراني. وبالمثل، تعاونت مجموعة “إيرباص” الأوروبية للصناعات الفضائية، وشركة “آي سي إي واي إي” ICEYE لصناعة الأقمار الاصطناعية ومقرها أميركا، إضافة إلى شركات تكنولوجيا الفضاء “كابيلا سبايس” Capella Space، و”هوك آي 360″ HawkEye 360 و”ماكسار تكنولوجيز” Maxar Technologies على تقديم بيانات وصور حيوية لسير المعارك على الأرض. وكذلك عمدت شركة “بالانتير” Palantir المتخصصة في تحليل البيانات، إلى تجميع هذه المعلومات، لتوفير صورة أوضح عن مجريات الحرب على الأرض.

كثيراً ما دخلت الشركات في الحروب الحديثة، لكن دورها كان يقتصر في الماضي إلى حد كبير على إنتاج المعدات والسلع بموجب عقود حكومية. أما الحرب في أوكرانيا، فدشّنت حقبة جديدة من الصراعات، فباتت شركات تجارية، معظمها أميركية، تتولى بنفسها توفير بنية تحتية رقمية وتأمينها—بل تتصرف وفق تقديرها الخاص ومن دون أي كلفة تذكر. فعلى سبيل المثال، بفضل جهود “AWS” و”مايكروسوفت” في حماية بيانات الحكومة الأوكرانية، لم ينجح استهداف روسيا لمراكز البيانات خارج كييف في تعطيل الخدمات الحكومية الأساسية. كما أن محاولات روسيا لنشر البرمجيات الخبيثة باءت بالفشل بفضل تدخل “مايكروسوفت”. وبينما نجحت روسيا في اختراق “فياسات” Viasat، وهي شركة أميركية قامت أقمارها الاصطناعية بدور أساس في الاتصالات المدنية والعسكرية الأوكرانية، استطاعت أوكرانيا التحوّل سريعاً إلى “ستارلينك” التي اعتمد عليها الرئيس فولوديمير زيلينسكي في خطاباته اليومية المصورة لطمأنة الأوكرانيين بأنه لا يزال في كييف، وتفنيد الدعاية الروسية التي زعمت فراره. ولولا هذه المساعدات من الشركات الغربية، لربما انهارت الحكومة الأوكرانية سريعاً. وعلى رغم أن أياً من هذه الشركات لا تصنّع أسلحة، فإن قدرتها على تقديم خدمات رقمية حيوية جعلتها جزءاً مما يمكن تسميته اليوم “الجبهة التجارية”: قدرات قتالية أساسية تتحكم فيها شركات التكنولوجيا المدنية وتعمل على إدارتها وتعزيزها.

ولأن القطاع الخاص يقود الابتكار ضمن حقول عدة في تلك التقنيات الرقمية، ويستطيع نشرها بمرونة تفوق قدرة الحكومات، فمن المرجح أن تقوم شركات التكنولوجيا بدور متزايد في حروب المستقبل. والتحدي يكمن في ضمان توافق مصالح هذه الشركات مع المصالح الوطنية. ففي أوكرانيا، تحقق هذا التوافق إلى حد كبير عن طريق الصدفة، إذ طوّر القادة الأوكرانيون علاقات شخصية وثيقة مع بعض الشركات التي قدمت لاحقاً المساعدة للبلاد. علاوة على ذلك، شعرت الدول الغربية بحاجة ملحة للدفاع عن أوكرانيا، وتوقعت أن الحرب لن تطول، مما دفع الشركات إلى تقديم خدماتها مجاناً في معظم الأحيان، بافتراض أن الكلف ستكون منخفضة.

لكن الظروف في الصراعات المستقبلية ربما تكون أكثر تعقيداً. ومن بين أبرز القضايا الجيوسياسية اليوم، يظل السؤال حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان في حال وقوع غزو صيني بلا إجابة حاسمة، وهو سؤال لا يعود للحكومة الأميركية وحدها أن تجيب عنه. فمن شبه المؤكد أن أي هجوم صيني سيشمل استهداف البنية التحتية الرقمية لتايوان، وهو سيناريو سبق أن اختبرته بكين عبر شن هجمات سيبرانية وقطع كابلات الإنترنت. وستكون هناك حاجة إلى كثير من الشركات التي دعمت أوكرانيا لتوفير الحماية لتايوان. لكن شركات التكنولوجيا الأميركية لديها اليوم مصالح اقتصادية في الصين تفوق بكثير تلك التي كانت لها في روسيا عام 2022، مما يجعل دعمها لتايوان أمراً غير مؤكد. كما أن تزايد دخول قادة الشركات في السياسة العالمية سيزيد من حال الغموض وعدم اليقين.

ومثلاً، في أكتوبر (تشرين أول) عام 2024، أفادت صحيفة “وول ستريت جورنال” بأن إيلون ماسك كان على تواصل منتظم مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ عام 2022، وأن بوتين طلب منه في إحدى المرات تقييد وصول خدمة “ستارلينك” إلى تايوان كخدمة لمصلحة الرئيس الصيني شي جينبينغ. (لم ترِد تقارير تؤكد ما إذا كان ماسك استجاب للطلب أو لا). وزاد الأمر تعقيداً عندما أصبح ماسك مستشاراً مقرباً للرئيس دونالد ترمب، وتولى قيادة جهود الإدارة لتعزيز كفاءة الحكومة. كما انضم عدد من كبار قادة صناعة التكنولوجيا إلى ماسك خلال حفل تنصيب ترمب. وفي سياق سعيها إلى الحصول على علاقات أوثق مع الإدارة الرئاسية، من الممكن أن تدخل أضخم الشركات الأميركية في محاولة التقريب بين مصالحها والمصالح الوطنية، مما قد يؤدي إلى تغليب قيمة أسهمها على حساب الأمن القومي.

والطريقة الوحيدة لضمان تقدم المصالح الحكومية في ساحة الحرب التجارية هي أن تسيطر الحكومة على تلك الجبهة بنفسها. ولتحقيق ذلك، يجب أن تدرك الحكومة القدرات المطلوبة لحماية البنية التحتية الرقمية لحلفائها أثناء الصراعات، وأن تتولى إدارة استخدامها من خلال التعاقد مع الشركات المناسبة لتقديم هذه الخدمات تحت إشرافها المباشر. كما ينبغي إتمام هذه التعاقدات قبل اندلاع أي صراع، ونشر الموارد المادية في المناطق الجغرافية التي يُتوقع أن تتحول إلى بؤر توتر، واعتبار الشركات التي تقدم هذه الخدمات حلفاء إستراتيجيين. عندها فقط، ستتمكن الولايات المتحدة من حماية بنيتها التحتية الرقمية الحساسة خلال الحروب، سواء كانت مشاركتها مباشرة أو غير مباشرة.

تجنيد الشركات

أثناء الأيام الأولى للحرب في أوكرانيا، لم يتسنَّ لشركات مثل “أي دبليو أس” ومايكروسوفت و”سبايس إكس” الاستناد إلى أي خبرة سابقة من الدخول في الصراعات الدولية. وفي النهاية، لم تنبع أفعالها من إستراتيجيات كبرى أو توجيهات حكومية. واتخذت كلها قرارات سريعة اتّكلت في غالبيتها على اتصالات مباشرة مع كييف أو واشنطن، واستفادت من ظروف مواتية.

وفي الأسابيع التي سبقت الحرب، ناقش فاديم بريستايكو، السفير الأوكراني آنذاك في المملكة المتحدة، مع ليام ماكسويل، المدير في “أي دبليو أس” فكرة نقل بيانات أوكرانيا إلى السحب الإلكترونية في إطار التحول الرقمي الحكومي. وكان بريستايكو، المتخصص في علوم الكمبيوتر، كوّن سابقاً صداقة مع ماكسويل الذي شغل منصب كبير مسؤولي التكنولوجيا في الحكومة البريطانية. ويوم الغزو، جلس الاثنان معاً وكتبا بالورقة والقلم قائمة بالبيانات الأساسية التي يجب نقلها من خوادم الحكومة إلى السحب الرقمية على غرار السجلات المتعلقة بملكية الأراضي والضرائب والمعاملات المصرفية. وحدث ذلك الانتقال الكثيف قبل لحظات من استهداف روسيا لمناطق حول كييف تضم مراكز بيانات حساسة.

واعتمدت أوكرانيا على علاقاتها مع مسؤولين أميركيين. فقبل ساعات من بدء الحرب، كشفت “مايكروسوفت” عن هجوم روسي ببرمجيات خبيثة استهدف وزارات ومؤسسات مالية أوكرانية. وخلال حوادث سابقة، تواصل توم بيرت، أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في مجال الأمن لدى “مايكروسوفت”، مع آن نوبرغر، كبيرة مسؤولي الأمن السيبراني في البيت الأبيض، طالباً منها أن تصله بمسؤولين أوكرانيين موثوقين. وعندما وقع الهجوم الإلكتروني الواسع، كان لدى “مايكروسوفت” خط اتصال مباشر مع السلطات الأوكرانية، مما مكّنها من تنبيه أعلى هيئة للأمن السيبراني في البلاد بسرعة.

وخلقت حال الطوارئ التي فرضها الهجوم الروسي الشامل حاجة ملحة لدخول القطاع الخاص الذي كان أكثر قدرة من الحكومة الأميركية على الاستجابة في الوقت الفعلي. وتمكنت شركات التكنولوجيا الكبرى من نقل كميات هائلة من البيانات الحكومية الأوكرانية الحساسة بسرعة شبه فورية، حتى إن “أي دبليو أس” قامت بشحن وحدات تخزين مادية تُعرف باسم “سنوبولز” Snowballs، إلى أوكرانيا لتسهيل نقل البيانات التي كان من الممكن أن يستغرق نقلها عبر الإنترنت وقتاً طويلاً. كذلك، قامت “سبايس إكس” بتفعيل خدمة “ستارلينك” في أوكرانيا قبل يومين فقط من اندلاع الحرب، ولم تكتفِ بتغطية جميع الكلف الأولية، بل تكفلت أيضاً بشحن عدد كافٍ من المحطات الأرضية لتلبية حاجات أوكرانيا، حيث أُرسلت من مقر الشركة في جنوب كاليفورنيا. ولاحقاً، أفاد مسؤول في “سبايس إكس” بأن “الناس كانت تموت، ورأينا أننا قادرون على تقديم المساعدة في تلك المرحلة الحرجة من الصراع”.

في المقابل، احتاج الجيش الأميركي إلى أسبوعين قبل أن يوصل مساعداته الأولى إلى أوكرانيا، بينما استغرقت أشكال أخرى من الدعم العسكري وقتاً أطول. ووفقاً للجنرال ستيفن بوتاو، مدير حقيبة الفضاء في “وحدة الابتكار العسكري” التابعة لوزارة الدفاع الأميركية، “حينما تمكّنا من تسليم 25 وحدة، كانت أكثر من 1000 محطة أرضية لـ ’ستارلينك’ قيد الاستخدام بالفعل يومياً”. ووصفت ستارلينك بأنها “العمود الفقري الأساسي” لاتصالات أوكرانيا في ساحة المعركة.

حتى الآن، تجاوزت قيمة دعم “مايكروسوفت” لأوكرانيا 500 مليون دولار، بما في ذلك استضافة البيانات الحكومية مجاناً على السحب المعلوماتية. كما أنفقت “سبايس إكس” أكثر من 80 مليون دولار على محطات “ستارلينك” الأرضية وخدماتها. وبينما أنكرت الشركات أن قراراتها تأثرت باعتبارات مالية، فإنها لم تكُن تتوقع استمرار دخولها في الحرب لهذه المدة الطويلة. ففي البداية، سادت قناعة لدى صانعي السياسات في واشنطن بأن أوكرانيا ستخسر الحرب بسرعة، وهو ما كانت تعتقده تلك الشركات أيضاً. لكن مع تغير مسار الحرب، بدأ بعضها بتقليص دعمه. فعلى سبيل المثال، لا تزال “مايكروسوفت” توفر خدمات التخزين السحابي للحكومة الأوكرانية مجاناً، لكن “سبايس إكس” نقلت كلفة وصول أوكرانيا إلى “ستارلينك” إلى الحكومة الأميركية أواخر عام 2022، فأصبح النظام جزءاً من حزمة المساعدات الأميركية. كما قدم بعض الحلفاء الأوروبيين محطات أرضية مماثلة.

نيران الحرب في المرة المقبلة

إذا كانت الحرب في أوكرانيا هي المحطة الأولى لصناعة التكنولوجيا في ميدان الصراعات، فلن تكون الأخيرة. ومع ذلك، من الممكن أن تختلف الظروف التي دفعت الشركات الكبرى إلى تقديم دعم هائل لأوكرانيا في الحروب المستقبلية. فمن ناحية، ربما لا تكون هناك العلاقات الشخصية نفسها التي سهلت التواصل المباشر والسريع بين الحكومة الأوكرانية والشركات الأميركية الكبرى القادرة على تقديم المساعدة. كما أن الشركات التي حشدت جهودها لدعم أوكرانيا اتخذت قرارات لم تكُن تتوقع اتخاذها من قبل. وهي الآن أكثر إدراكاً للأخطار، مثل احتمال استمرار الصراعات لفترة أطول من المتوقع، وتراكم الكلف إلى مستويات كبيرة، بل حتى تراجع الدعم الشعبي الجارف لمساعدة دولة في حال حرب مع مرور الوقت. وبحلول ديسمبر (كانون أول) 2024، أظهرت استطلاعات الرأي أنه للمرة الأولى عبرت غالبية من الأميركيين عن الرغبة في إنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة، حتى لو تضمن ذلك تخلي أوكرانيا عن بعض أراضيها.

وستؤثر تلك العوامل كلها في الكيفية التي ستغدو عليها الجبهة التجارية خلال ما قد يشكل الصراع الكبير المقبل، أي تايوان. ومن شأن غزو صيني لتلك الجزيرة أن يبدأ على الأرجح بحملة لتفكيك البنية الرقمية التحتية للحكومة التايوانية. واستباقاً لذلك، ناقشت تايوان مع شركة “سبايس إكس” ومسؤولين حكوميين أميركيين، مسألة الوصول إلى نظام “ستارلينك”. وفي المقابل، لا يملك ماسك سوى قدر ضئيل من الحماسة لدعم تايوان بواسطة “ستارلينك”، إذ صرّح عام 2023 بأن علاقة الصين بتايوان تشبه علاقة الولايات المتحدة بهاواي، وأكد أن الجزيرة “جزء لا يتجزأ من الصين”. كما أن تايوان نفسها مترددة في الاعتماد على “ستارلينك”، بسبب علاقات ماسك التجارية مع الصين التي تحتضن مجموعة من المصانع الكبرى لشركة “تيسلا”، وهناك بدأت أخيراً بإرساء أول محطاتها لتخزين الطاقة خارج الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، قررت تايوان التعاون مع شركة “يوتلسات وان ويب” Eutelsat OneWeb، المقدم الأوروبي لخدمات الاتصال بالإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية، وكذلك ناقشت شراكة مماثلة مع “مشروع كيبور” Project Kuiper التابع لشركة “أمازون” الذي يقدم خدمات فضائية مماثلة. ومع ذلك، فإن أياً من هاتين الشركتين لا تمتلك عدد الأقمار الاصطناعية ذاته أو مستوى المرونة المثبت الذي تتمتع به “ستارلينك”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على صعيد آخر، بدأت تايوان ببناء شبكتها الخاصة من الأقمار الاصطناعية، لكن وفقاً لتقديراتها، لن يكون لديها قمر اصطناعي للاتصالات في مدار الأرض قبل عام 2026 في الأقل، وسيتطلب الأمر وقتاً أطول بكثير لنشر مجموعة من الأقمار الاصطناعية اللازمة لتشغيل نظام فاعل.

لكن “سبايس إكس” ليست الشركة الوحيدة التي تحيط الشكوك بدعمها لتايوان. فعلى رغم أن “أي دبليو أس” و”غوغل” و”مايكروسوفت” قلصت عملياتها بصورة كبيرة في الصين، فإنها لا تزال تعتمد على التصنيع الصيني وتبيع منتجاتها في السوق الصينية. وهذا يسلط الضوء على احتمال وجود تضارب في المصالح، مما يؤكد ضرورة تطوير إستراتيجية أميركية للقطاع التجاري، تركز على ضمان توافر القدرات التكنولوجية الأساسية للحلفاء، مثل تايوان، قبل وقوع أي مواجهة عسكرية. ويمكن أن يحقق ذلك تقارباً أكبر بين المصالح الحكومية والشركات في الحروب المستقبلية، كما سيساعد في إقامة العلاقات الضرورية مسبقاً، وإشراك الشركات الناشئة في الصناعات الجديدة، مثل الذكاء الاصطناعي و”شبكات الاتصال الشبكي” mesh communications، وهي تقنيات من المحتمل أن تصبح حاسمة يوماً ما في ساحة المعركة.

 إن نشر هذه القدرات الآن يعطي أفضلية جيوسياسية أيضاً. ففي حالة تايوان، إن أي جهد تقوده الحكومة الأميركية لتعزيز البنية التحتية الرقمية للجزيرة لن يدعمها في مواجهة الغزو الصيني المحتمل فحسب، بل يساعد كذلك في ردع الغزو من الأساس لأن الصين ستشعر بقدر أقل من اليقين حول قدرتها على شل تايوان من دون اللجوء إلى الصراع المسلح.

استعد… تأهب

على الحكومة الأميركية، من خلال وزارة الدفاع، وضع إستراتيجيات لحماية البنية التحتية الرقمية لحلفائها قبل نشوب أي صراعات محتملة. أولاً، يجب على الوزارة أن تفهم تماماً حاحات كل دولة. ثم عليها التعاقد مع الشركات المناسبة، مثل تلك التي دعمت أوكرانيا، لضمان توفير خدماتها فوراً في حال اندلاع نزاع. كما ينبغي أن تكون الأصول المادية، مثل محطات “ستارلينك” الأرضية ومراكز بيانات “سنوبولز” التي صنعتها “أي دبليو أس”، متاحة مسبقاً. أما القدرات التي لا تتطلب نشراً مادياً مسبقاً، مثل تراخيص الحوسبة السحابية من “أي دبليو أس” واتصالات الأقمار الاصطناعية بترددات الراديو، فلا يتعين على الحكومة الأميركية حتى إنفاق الأموال عليها اليوم، بل يمكنها توقيع عقود مسبقة لهذه الخدمات بحيث يتم تحديد الأسعار ومتطلبات التوريد مسبقاً، مما يضمن استعداد الشركات لتقديم الدعم فور الحاجة إليه.

أثبتت الحرب في أوكرانيا أن شركات القطاع الخاص يمكنها نشر التكنولوجيا على نحو أسرع بكثير من الحكومات. لذا، يجب على الولايات المتحدة تقديم عقود مسبقة إلى الشركات القادرة على توفير دعم لوجستي فوري للحلفاء في حال الغزو.

وإشراف وزارة الدفاع الأميركية على استخدام هذه القدرات لن يضمن وصول التكنولوجيا المناسبة إلى الحلفاء في وقت الحاجة فحسب، بل سيساعد كذلك في تجاوز بعض العقبات التنظيمية. على سبيل المثال، أثار استخدام أوكرانيا لخدمة “ستارلينك”، أسئلة عن إمكان تعارضها مع “تشريعات التجارة العالمية للأسلحة” التي تضبط قدرة الشركات الأميركية في تقديم تقنيات عسكرية إلى بلدان أخرى. وكذلك من شأن تولي وزارة الدفاع إدارة القدرات التكنولوجية سيُفضي إلى توجيه عملية إدخال تقنيات جديدة إلى وسائل الحرب في الجبهة الاقتصادية. وتوخياً للتعرف إلى أطراف فاعلة جديدة وتحديد القدرات الضرورية، يجب على وزارة الدفاع  أن تؤسس مجموعة استشارية مكونة من رسميين يأتون من “مجلس الأمن القومي” ووكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية (CISA) التابعة لوزارة الأمن الداخلي، إضافة إلى مسؤولين تنفيذيين من الشركات التي ساندت أوكرانيا، وخبراء في السياسة ممن شاركوا في وضع سيناريوهات حرب محتملة في تايوان.

واستكمالاً، يمتلك “البنتاغون” أدوات تمكنه من تقليص مدة الحصول على قدرات جديدة إلى بضعة أعوام فقط، أو نشر حلول قيد التطوير بصورة عاجلة حتى إن كانت جاهزيتها تبلغ 80 في المئة. وكذلك تستطيع وزارة الدفاع تنفيذ عمليات شراء فورية عبر “سلطة الشراء السريع” التي تعمل بموازنة مقدارها 800 مليون دولار.

واستطراداً، يجب على الحكومة الأميركية إدارة الشراكات بين القطاعين العام والخاص من خلال دبلوماسية نشطة، والتعامل مع الشركات وقادتها كما تتعامل مع الحلفاء. وهذا يتطلب الاستعداد لمحاسبة الشركات التكنولوجية إذا اتخذت إجراءات قد تضر بالمصلحة الوطنية، لكنه يعني أيضاً إشراكها في مناقشات الأمن القومي ومنح بعض موظفيها تصاريح أمنية ومشاركة معلومات حول التهديدات التي يمكن لتقنياتها الإسهام في التصدي لها.

إضافة إلى ذلك، ينبغي على الحكومة الإشادة بالشركات التي تعمل من أجل المصلحة الوطنية، مستغلة رغبتها في الحفاظ على سمعة إيجابية. فعلى سبيل المثال، منحت أوكرانيا “جوائز السلام” لشركات “أي دبليو أس” و”غوغل” و”مايكروسوفت”. كما أشاد المسؤولون الأوكرانيون علناً وسراً بإيلون ماسك و”سبايس إكس”، تقديراً لدورهما.

من ناحية أخرى، أخفقت الحكومة الأميركية في استغلال فرص حاسمة للاعتراف بدور هذه الشركات في أوكرانيا. فعلى سبيل المثال، في سبتمبر (أيلول) عام 2022، عندما حاولت “سبايس إكس” تحميل “البنتاغون” عبء كلف خدمات “ستارلينك” في أوكرانيا، بعد أشهر من تحملها معظم تلك الكلفة بنفسها، صورت وسائل الإعلام الشركة على أنها غير متعاونة، وهو انطباع لم تحاول الحكومة الأميركية تصحيحه. وبعد عام، تعرض إيلون ماسك لانتقادات شديدة عندما رفض تفعيل “ستارلينك” لدعم عملية أوكرانية بطائرات مسيّرة في البحر الأسود، خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى تصعيد الصراع. ومن المرجح أن الحكومة الأميركية كانت تشعر بالقلق نفسه—ففي ذلك الوقت، كانت تحظر على أوكرانيا استخدام الأسلحة الأميركية في العمليات الهجومية—لكنها التزمت الصمت [في شأن الانتقادات التي وُجّهت إلى ماسك]. وراقب قادة التكنولوجيا الآخرون كيف واجه ماسك تعقيدات الحرب من دون دعم واضح من الحكومة الأميركية، وربما تدفعهم هذه التجربة إلى التردد في تقديم حلولهم الخاصة في المستقبل.

في الأيام الحاسمة الأولى لأي صراع في تايوان، قد تثبت البنية التحتية الرقمية المرنة أنها ضرورية مرة أخرى، كما كانت الحال في أوكرانيا. وضمان حماية هذه البنية للمستقبل يتطلب من الحكومة الأميركية التحرك الآن. يجب على القادة في واشنطن أن يدركوا أنه، على رغم أن المصالح التجارية والوطنية لن تتطابق دائماً، فإن القدرات التي يوفرها القطاع الخاص قد تكون حيوية لتحقيق أهداف الأمن القومي. لذلك، يجب على الحكومة تطوير إطار عمل يسمح لهذه المصالح بالتكامل بدلاً من التعارض. فقد تعتمد قدرة الولايات المتحدة على حماية حلفائها وشركائها في المستقبل على مدى نجاحها في توظيف القوة المتزايدة لشركات التكنولوجيا الأميركية.

                                       

مات كابلان، محلل في “شيلد كابيتال” Shield Capital

مايكل براون، شريك في “شيلد كابيتال”، وزميل متقدم مميز في “معهد الأمن والتكنولوجيا”، ومدير سابق في “وحدة الابتكار الدفاعي” في وزارة الدفاع الأميركية

مترجم عن “فورين أفيرز” يناير (كانون ثاني)/ فبراير (شباط) 2025

نقلاً عن : اندبندنت عربية