على مدار الدورة الـ47 التي اختتمت قبل أيام، اكتظت القاعات بالجمهور المتلهف لاستكشاف تجارب سينمائية فريدة تحمله بعيداً من واقعه اليومي الرتيب، بينما عرض المخرجون ثمار خطواتهم الأولى داخل الفن السابع، وكلهم ثقة. لكن، الثقة إذا كانت حاضرة على الشاشة، فنجدها أيضاً عند الجمهور المتابع، وهي ثقة في أعمال سينمائية تأتي من بعيد وترتبط بالجمهور بروابط الحب والاطلاع والرغبة في الاكتشاف. هذه الثقة التي ربطت طرفاً بآخر أنتج منه أكثر من 170 ألف مشاهد في الدورة هذه، وأعلن رئيس المهرجان إريك رو هذا الرقم خلال حفلة الختام بفخر وسط تصفيق حاد، مشدداً على أن الإقبال هذا العام تجاوز ما كان عليه سابقاً. 

من خلال الإبحار داخل كم كبير من الأفلام المعروضة، لا بد من أن نلمس روح التجديد والابتكار الطاغية على البرنامج، لا سيما المسابقة الدولية التي انطوت هذا العام على 64 فيلماً فيها قليل من كل شيء. هناك الغث والسمين، وكل ما يتراوح بين هذين المستويين. عدد الأفلام الذي وصل إلى الإدارة بلغ هذا العام 6368 فيلماً، مما يجعل نسبة الأفلام المختارة تقل عن واحد في المئة، تأكيداً للمعايير الفنية العالية التي يشتهر بها كليرمون، على رغم أن كثيراً من الخيارات محل انتقاد في السنوات الماضية، خصوصاً بعدما دخلت اعتبارات غير فنية على شروط الاختيار. عند تقييم المستوى العام لدورة هذه السنة، أقله في ما يتعلق بأفلام المسابقة الدولية، فالأداء تراجع، ويرى بعضهم أن ذلك يعود لتغيير الإدارة التي تركز على قضايا راهنة على حساب الجوانب الفنية الأصيلة. 

على مدى تسعة أيام متتالية، شرع المهرجان أبوابه لعالم الأفلام القصيرة، وهو فعلاً عالم. في خضم هذه التظاهرة المبهجة، ظهرت رؤى فنية جريئة كسرت الحواجز المعتادة، لعلها تتعايش مع أعمال أخرى اتبعت نماذج أكثر تقليدية وبدت محدودة الخيال. تابعنا أعمالاً من دول ذات تاريخ سينمائي طويل، إلى جانب إبداعات من مناطق أقل حضوراً على الخريطة السينمائية. 

عند معاينة هذا العدد من الأفلام القصيرة دفعة واحدة وعلى مدار أيام معدودة، تنبثق أسئلة حول ماهية هذا النوع السينمائي وصفاته. يتردد في الذهن سؤال أساس يتمحور حول: هل الفيلم القصير لغة في ذاتها؟ وما ينسحب عليه، هل ينسحب بالضرورة على الفيلم الطويل؟ ويبرز التساؤل حول ما إذا كان الفيلم القصير مجرد خطوة انتقالية نحو السينما الروائية، أم أنه شكل فني مستقل يحمل بين طياته إمكانات كبيرة للتعبير؟ هذه التساؤلات وغيرها، هي التي برزت خلال متابعتي لعدد من الأفلام القصيرة التي تراوحت بين تجارب نابضة بالحياة وأخرى تبدو كأنها تقف مكتوفة الأيدي أمام التحديات الفكرية. 

بيد أن أكثر ما لفتني هو حضور نمطين من الأفلام القصيرة، وتكريس هذه الحالة إلى درجة تحولها ظاهرة. من جهة نجد أفلاماً تشعرنا بأنها مجرد لمحة أو مشهد عابر من فيلم روائي طويل أو إطلالة مختصرة كانت لتستمر طويلاً لو سمح لها بذلك. وفي الجهة الأخرى، تظهر أعمال قصيرة تسجل حالة سينمائية متكاملة، مما يجعل الإطالة غير ضرورية ولا تتناسب مع طبيعة الفكرة.

اختتمت الدورة بفوز الفيلم الأسترالي “مسكوت عنه” لداميان والش هولينغ بالجائزة الكبرى، على رغم أنه لم يكن الأفضل من بين الأفلام الـ64 المشاركة. تجري الأحداث في سيدني نهاية السبعينيات في لحظة تاريخية صعبة وجد فيها بعض المهاجرين من أصول كرواتية أنفسهم داخل عاصفة سياسية، بعدما اتهم ستة أشخاص أستراليين من أصول كرواتية بالتخطيط لأعمال إرهابية تستهدف مصالح صربية في سيدني. ولكن بعد إدانتهم وسجنهم، تبين أن الشرطة فبركت الدلائل التي دانت الكرواتيين الستة. في هذا الجو المتوتر، نتعرف على مارينا (كات دومينيس)، فتاة عشرينية من مواليد كرواتيا، تخرج بالسر، بعيداً من أعين والدها المتسلط، مع شاب من أصول أسترالية (ماثيو ألكسندر) يأخذها للعشاء عند والديه، وهناك ينشب خلاف بينها وبين والده على خلفية الأحداث الدائرة في البلاد. بالعودة للبيت، نكتشف أن أخا مارينا أصيب في الحوادث ويحتاج إلى علاج، ولكن كيف وأين… وماذا لو علمت الشرطة بمشاركته في الاحتجاجات؟ وهكذا شيئاً فشيئاً، يمتد العنف السياسي إلى داخل بيت العائلة بعدما كان يقتصر إلى الآن على الشارع. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يموضعنا الفيلم في حالتين نفسيتين، واحدة عاطفية وأخرى سياسية تتقاطعان من دون أن تحدث بينهما أية شرارة أو تواصل يبرر هذا التعايش المفتعل. نخرج بإحساس أن الفيلم غير مكتمل، مع أداء ممثلين يحمل مبالغات وأحداثاً مضخمة لا نفهم الغاية من رميها هكذا في وجوهنا، من دون أية معلومات حول ما يجري في الخلفية. لحظة دهم الشرطة المنزل لاعتقال الأخ المصاب، يقرر المخرج التقاطها بالحركة السينمائية البطيئة، مقفلاً المشهد على وجه مارينا، تماماً كما افتتح الفيلم على وجهها وهي تستحم. هذه النهاية “الملفلفة” تضعنا أمام تساؤلات عدة، من بينها: ما الذي حصل قبل بداية الفيلم وما الذي سيحدث من بعد الخاتمة؟ فبعض الأفلام لا يكفي معها القطع الحاد، و”مسكوت عنه” من هذه الأفلام. 

مخرح الفيلم، داميان والش هولينغ، ليس مبتدئاً في هذا المجال، فهو ممثل أسترالي شهير ذو 54 سنة، ذاع صيته مع مسلسل “تحت الزنار”، و”مسكوت عنه” هو رابع أفلامه القصيرة كمخرج. أما ما الذي دفعه إلى إنجاز فيلم عن هذا الفصل المنسي من التاريخ، ففي الحقيقة بعد مرور أكثر من أربعة عقود على هذه الحوادث، لا تزال القضية في المحاكم، خصوصاً بعدما أمر قاضي المحكمة العليا بفتح تحقيق في الأحكام بسبب الشكوك حول شهادة الشاهد الرئيس. إنه، إذاً، نوع من إعادة اعتبار للضحايا في محاولة لإنصافهم سينمائياً بعدما ظلمهم العدل. 

نقلاً عن : اندبندنت عربية