تدور أحداث رواية “النشيد الأولمبي” في مدينة اللاذقية السورية، بعد تسع سنوات من اندلاع الحرب. ويشكل البيت والمقهى والبوتيك والفيلا والقاعدة العسكرية والكورنيش البحري، الأماكن الروائية المدينية التي تحتضن الأحداث. وتنخرط فيها مجموعة من الشخوص المنطوية على أعطابها الناجمة من الحرب، وتعاني الوحدة القاتلة والفراغ الكبير، وتروح تبحث عن سبل الخلاص مما تعانيه، وهي سبل فردية في معظم الأحيان، تختلف من شخص إلى آخر، وقد تتقاطع في ما بينها، في بعض الأحيان. على أن القاسم المشترك بينها هو بقاؤها في المنطقة الوسطى معلقة بين ماض تولى ما ينفك يطاردها ولا تستطيع التحرر منه، ومستقبل تطارده لا يجيء ولا تستطيع بلوغه. وعليه، يجتمع في الرواية: المدرسة والمترجمة علياء، والأب المريض أبو رواد، والممثل الفاشل بديع، وصاحب الكشك أبو ريحانة، وضابط الأمن صفوان، والضابط الروسي لوكاس، وغيرهم. ولكل منهم عطبه الناجم عن الحرب، ووسيلته الفردية للخلاص، من دون أن ينفي ذلك إمكان تقاطع الوسائل في ما بينهم.

على أن الشخصية المحورية الناظمة للعلاقات بين سائر الشخوص هي علياء التي تتعالق مع الجميع بصورة أو بأخرى، فهي ابنة أبي رواد، وصديقة بديع، والحادبة على أبي ريحانة، وغريمة صفوان، وحبيبة لوكاس. وهذا التعالق يتبلور في بيتها، وفي مقهى “زهرة عباد الشمس”، وفي البوتيك، وفي فيلا صلنفة، وفي الكورنيش البحري، وفي القاعدة الروسية. وعلى محورية علياء في التعالقات المختلفة، فإن ثمة علاقات عمل أو سلطة أو صداقة أو حب بين الشخوص، خارج هذه المحورية. وهذه التعالقات، حول المحور أو خارجه، تتمخض عن الأعطاب التي تعانيها وسبل الخلاص التي تجترحها.

 مشهد سوريالي

على أن الدخول إلى الأعطاب وسبل الخلاص منها، لا بد أن يمر عبر المشهد العام في سوريا، في تلك اللحظة الروائية، وهو سوريالي، غرائبي، إلى حد كبير. يجمع بين المتناقضات، ويشكل الخلفية العامة للمشاهد الروائية المختلفة، وهو ما يصفه الراوي بالقول: “كان المشهد غريباً، موسيقى شوبرت في مقهى “زهرة عباد الشمس”، والعاصمة على صفيح ساخن في ما يتعلق بشؤون البلاد السياسية، الخراب والدمار في شمال البلاد، وقاعدة عسكرية للروس على مسافة قريبة من اللاذقية، وشابة في عمر الورود قتلها أحدهم ورماها على أطراف المقبرة التي استقبلت رواد بالبشاعة ذاتها التي مات بها هو الآخر، والناس ينامون ويستيقظون كما لو أنهم غرقى بكحول منتهية الصلاحية.” (ص 86). ومن الطبيعي أن يشكل هذا المشهد العام الذي تتجاور فيه الموسيقى والخراب والدمار والاحتلال والقتل والغرق، حاضنة مناسبة للمشاهد الروائية التي تتمخض عن مجموعة من الأعطاب الفردية التي تلقي بوطأتها على شخوص الرواية، وعن محاولاتهم الفردية للخلاص. 

 أعطاب مختلفة   

تختلف الأعطاب من شخصية إلى أخرى، وتتفاوت في الدرجة والنوع. وتتعدد سبل الخلاص الفردي وتتنوع بدورها، فعلياء شابة في الـ29 من العمر، تتقلب في عملها بين التدريس والترجمة والعمل الإنساني. تعاني موت الأم، ومقتل الأخ الأكبر، وهجرة الأخ الأصغر، ومرض الأب المزمن، مما يثقل كاهلها، ويجعلها تتردى بين وحدة منجزة وأنوثة مؤجلة. وفي مواجهة هذه الأعطاب تجترح لعبة “عجن الكلام” لتؤنس وحشة الأب، وتفتح بيتها لإجراء بروفة مسرحية لصديقيها بديع وسوسن، حتى إذا ما التقت بالضابط لوكاس من قاعدة حميميم الروسية، يشكل اللقاء بداية علاقة بينهما، تروح تتبلور شيئاً فشيئاً، وتنمو في لقاءات أخرى، وتتحول إلى علاقة حب مفتوحة على خلاص ما.

والأب متقاعد عجوز، ومريض بداء السكري، يعيش وحدته التي تخفف علياء من حدتها ما استطاعت، ويعيش فراغاً عاطفياً بعد موت زوجته ومقتل ابنه وهجرة الآخر، ويمني النفس بعلاقة حب تملأ ذاك الفراغ، ولكن من دون تحقيق أمنيته عقبات، مما يجعله معلقاً بين أعطابه الجسدية والنفسية وأمنيته العصية على التحقق. وبديع شاب يرزح تحت فشله في أن يصبح ممثلاً مسرحياً، ويحب علياء من طرف واحد، ويعيش علاقة مشحونة مع أبيه الذي يطرده من البيت والمطعم، حين يضاجع امرأة فيه، في غفلة من الأب، مما يجعله معلقاً بين واقع ينوء عليه بكلكله وحلم يتطلع إلى تحقيقه، غير أن تعرفه إلى سوسن، وانجذاب أحدهما إلى الآخر، وقيامهما بالتدرب على تمثيل مسرحية، بتشجيع من علياء، تشكل بداية خلاص من أعطابه. وأبو ريحانة صاحب الكشك الصغير الذي تقتل ابنته في ظروف غامضة، ويخضع لمزاجية ضابط الأمن ومضايقاته، يعاني أعطاب الفقد والوحدة والقمع، ويواجهها بوضع نبتة ريحان عند مدخل الكشك تذكره بابنته، ويزور قبرها دورياً، ويجد في علياء مشكى ضيم له.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ضابط الأمن صفوان ينطوي على هشاشة داخلية يحاول إخفاءها باستعراض سلطوي فارغ، ويراقب الناس ويتدخل في شؤونهم مستغلاً صفته الأمنية، ويعيش ازدواجية بين هشاشته الداخلية وعنجهيته الخارجية، مما يجعله موضع إشفاق الآخرين بقدر نفورهم منه. غير أن علياء تضعه أمام نفسه وجهاً لوجه، لا سيما من خلال حضوره “البروفة” المسرحية في بيتها، فيرى نفسه في مرآة الممثل، ويتأثر بما شاهد، مما يشكل بداية تعديل في سلوكه. أما الضابط الروسي لوكاس، الطيار في قاعدة حميميم، فيعاني فقد الأم وجرح علاقتها بديمتري والبعد من الوطن وفراغ الوحدة، حتى إذا ما التقى بعلياء التي تعاني بدورها الوحدة والفراغ والأنوثة المؤجلة، وانجذب أحدهما إلى الآخر، يشكل اللقاء وما تلاه إطاراً لعلاقة بينهما، راحت تنمو حتى مرحلة متقدمة من الحب والغرام، مما يوفر فرصة مشتركة لهما للخلاص من أعطابهما.

 منظور إيجابي

هكذا تتوزع الأعطاب الناجمة عن الحرب في الرواية على: الوحدة، والفراغ، والقتل، والخراب، والدمار، والهجرة، والقمع، وغيرها، وتتراوح سبل الخلاص الفردي منها بين: الصداقة، والحب، والتمثيل، والسفر، ومواجهة الذات، وغيرها. ولعل المصائر التي آلت إليها الشخوص، في نهاية المطاف، تفتح الأبواب التي أوصدتها الحرب على حلول ممكنة، وتبشر بحتمية الخلاص، ذلك أن علاقة الحب بين علياء ولوكاس، وعلاقة العمل والحب بين بديع وسوسن، ووضع أبي ريحانة نبتة الريحان عند مدخل الكشك، ووضع صفوان أمام نفسه وجهاً لوجه، هي نهايات مفتوحة على إمكانات الخلاص الفردي، في الرواية. وبذلك، نكون أمام منظور روائي يجترح الإيجابيات من السلبيات، ويقول باستمرار الحياة، وبأن الحرب ليست قدراً، وهو ما جاءت الأحداث الأخيرة في سوريا لتثبت صحته.        

نقلاً عن : اندبندنت عربية