يعيدنا الإرث المديد الذي تركه لنا المترجم السوري أسامة منزلجي إلى “ربيع أسود” أول رواية ترجمها لهنري ميللر، وقد جاء في مطلعها: “أنا إنسان من الحي الرابع عشر في بروكلين، وهناك نشأت، بقية الولايات المتحدة لا وجود لها بالنسبة إليَّ، إلا كفكرة أو كتاريخ أو كأدب. في سن العاشرة انتزعت من تربتي الأصلية ونُقلت إلى مقبرة، مقبرة لوثرية، حيث الشواهد دائماً منظمة والأكاليل لا تذبل أبداً”.
ولعل هذا المطلع مغرٍ بالمحاكاة ووضعه في سياق حياة مترجمه، فيمسي: أنا إنسان من مدينة اللاذقية، وهناك نشأت ولم أفارقها إلا للدراسة وخدمة العَلَم. بالكاد قصدت دمشق بعد دراستي الأدب الإنجليزي في جامعتها، ثم أصبحت بقية سوريا لا وجود لها بالنسبة إليَّ، لا بل لا وجود للعالم إلا كفكرة أو كتاريخ أو كأدب، منذ لازمت غرفتي وطاولتي ومكتبتي في مدينتي لم أتوقف عن الترجمة حتى آخر يوم في حياتي.
هذا حقيقي جداً عن أسامة، وهو الذي كرّس حياته كاملة للترجمة فقط، لدرجة اعتبار حياته على شيء من “الرهبنة” في سبيل الترجمة، الوصف الذي لا يحبذه ويستعيض عنه بالقول “أسلوب حياة محسوب بدقة” مكرّس للترجمة، التي أغنته عن مجرد التفكير بأن يؤلف حرفاً واحداً، ما دام وجد في ما ترجم لكتّاب وكاتبات كل ما يريد قوله، وحسب تعبيره “يقولونه بأفضل بكثير مما سأفعل”.
ما تقدّم جوهري جداً في مشروع ترجمة أسامة منزلجي، وله أن يضيء على فرادته الماثلة في اختياراته، أي أولئك الذين يقولون ما يريد قوله فيجعلهم يفعلون ذلك بالعربية، وما نقله إليها كان شديد التمرد، صادماً، صارخاً، تدميرياً، مغايراً تماماً للسائد، وهو بصورة أو أخرى مغيب ومهمّش باللغة الإنجليزية، يُهمس بأهميته همساً، كما هو هنري ميللر، الذي يكتفي عزرا باوند بالقول عن روايته “مدار السرطان” (طبعت في باريس عام 1934 ومنعت في الولايات المتحدة): “هاكم كتاب قذر يستحق القراءة”، بينما يبدي إليوت إعجابه الشديد بالرواية برسالة إلى ميللر من دون أن يصرح بذلك، وهو الذي كان يعتبر شيلي شاعراً شيطانياً، فكيف بكتابة هنري ميللر، التي “تشعرنا بالرعب ونحن نقرأها”، على رأي نورمان ميللر في كتابه عنه “العبقرية والشبق”، مضيفاً “والرعب يمكن أن يكون رفيقاً مناسـباً للفن العظيم”.
ثمن الخيارات ووقعها
دفع أسامة منزلجي ثمن اختياراته أيضاً، ففي بداياته كان يترجم من دون ناشر تقريباً، نجح في نشر بضع روايات هنا وهناك “ربيع أسود” في دار ابن رشد عام 1983، و”مدار السرطان” في دار الكنوز الأدبية عام 1997، إلا أن أغلب ما عرضه على الناشرين كان يقابل بالاعتذار عن نشره جراء جرأته الشديدة، وهكذا فإن أسامة أمضى نصف حياته المهنية يترجم ولا ينشر أو ينشر القليل، من دون أن يثنيه ذلك عن المواصلة، منكباً على دفاتر مدرسية صغيرة يترجم على أوراقها بقلم رصاص، فعلى سبيل المثال قرأتُ ترجمته لثلاثية “الصلب الوردي” كمخطوط في أواسط التسعينيات ولم تنشر إلا عام 2002 في دار المدى، ومثلها “مذكرات تينسي ويليامز” وكتب كثيرة أخرى.
لكن المدهش كان مع رواية رالف إليسون “اللا مرئي” التي قرأتها مخطوطاً في التسعينيات أيضاً، ولأجدها منشورة في دار المدى عام 2022، وهذا يقودني للقول إن علاقته مع “المدى” شكّلت منعطفاً في مسيرته، وتحديداً بعد إصدارها ترجمته لرواية نيكوس كازانتزاكس “الإغواء الأخير للمسيح” عام 1995، ومن بعدها توالت إصداراته من خلالها، وعلى نحو متوالٍ وقد تراكمت لديه كثير من الترجمات، وصولاً إلى مشاريع مثل ترجمة روايات فيليب روث الكاملة، وأعمال لتيري إيغلتون ابتداءً من سيرته الذاتية “حارس البوابة” و”العقل والإيمان والثورة” و”الثقافة وموت الإله”، وثلاثية إريكا يونغ (النسخة النسائية من هنري ميللر) “الخوف من الطيران” و”الخوف من الخمسين” و”الخوف من الموت”، والأعمال الكاملة لسالينجر “الحارس في حقل الجودار” و”تسع قصص” و”فراني وزوي”، وصولاً إلى أخطر أعمال برنادر شو “العودة إلى متوشالح” الذي كان آخر ترجماته وقد صدر عن “محترف أوكسجين للنشر”.
وهنا انتقل إلى ملمح آخر من مشروع أسامة منزلجي في الترجمة، ألا وهو وقعها، فقد أحدثت ترجماته هزة كبيرة في الثقافة العربية، ولي أن أتكلّم عن نفسي وعن جيلي، فمع قراءة “مدار السرطان” و”مدار الجدي” و”عملاق ماروسي” وثلاثيته “الصلب الوردي” وكل أعمال ميللر التي ترجمها، وجدنا حليفاً استثنائياً لتمردنا، عزز من هوسنا بالكتابة بحرية، ومناهضة الوصفات الجاهزة، مع إيلاء الهامش الأهمية الكبرى في الفعل الإبداعي، بوصفه النطاق الحيوي المختلف تماماً عن زيف السائد والمصادق عليه والمكلل بالجوائز، فعلى رأي ميللر”إنَّ الذي لا يحدث في عراء الشارع المفتوح زائف”، وإن أضيف إلى ميللر ترجمته لـ”شعائر الجنازة” لجان جينه (هذه الرواية وروايات هرمن هسه هي الوحيدة التي ترجمها عن لغة وسيطة) ومعها “الإغواء الأخير للمسيح” و”مذكرات تينسي ويليامز” وثلاثية إريكا يونغ وبالتأكيد سالينجر، فأي أثر ستحدثه هذه الأعمال، أية نافذة ستفتحها في ذهن قارئها، وأية روح متمردة ستوقظ؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا يعرف أسامة منزلجي عدد الكتب التي ترجمها، وحين قلت له منذ زمن قريب بصيغة سؤال إنها تتجاوز الـ100؟ لم ينف ولم يؤكد كما لو أنه غير معني بتاتاً بالأمر! وحين حاولت حصرها لم أنجح، ولعل الأمر يبدو مستحيلاً حالياً، وترجمات كثيرة أستدركها هنا وكلي يقين بأن كتباً كثيرة لم أوردها، كما هي ترجماته لغور فيدال “المدينة والعمود” و”جوليان” ورواية إيفليين و”حفنة من التراب”، وروايات سكوت فيتزجرالد “غاتسبي العظيم” و”والليل رقيق” و”هذا الجانب من الجنة” وغيرها من كتب وروايات لبول أوستر وآلي سميث ودون داليلو، ومذكرات الممثلة ليف أولمن “أتغير”.
مع رحيل أسامة منزلجي بدا جلياً مشروعه، وتدُوول تشبيه منجزه وأثره بمنجز مترجمين كبيرين راحلين هما سامي الدروبي وصالح علماني، وهذا صحيح على صعيد المشروع وسعته وتراميه وأثره، وارتباط ترجماتهم بأعمال كاملة لكتاب مفصليين في تاريخ الأدب، لكن يمكن إضافة شيء خاص بأسامة ألا وهو إشكال وتمرد اختياراته، وارتباط الجزء الأهم منها بأدب السيرة الذاتية، بالبوح المتخطي كل الحدود والعوائق، باليوميات بصورة أو أخرى، أو روايات يقول عنها رالف إمرسون إنها “تفسح الطريق، شيئاً فشيئاً، لليوميات أو السير الذاتية – الكتب الآسرة، هذا إن عرف الإنسان كيف ينتقي من بين ما يسمّيه تجاربه، وكيف لا يسجل إلا الحقيقة”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية