مستعيناً بمفهوم يعود إلى عالم الاجتماع الألماني نوربرت إلياس (1887-1990) ” تفكيك الحضارة وإزالتها”، يحاول الأكاديمي والمحلل النفسي الفرنسي رولان غوري (مواليد 1943) الإجابة عن هذه الأسئلة في كتاب صدر حديثاً في باريس يحمل عنوان “نقض الحضارة وتفكيكها، المنطق الجديد للهيمنة” (Dé-civilisation, Les liens qui libèrent, 2025).

ليس نقض الحضارة وتفكيكها بالنسبة إلى رولان غوري نتيجة فعل أفراد همجيين غارقين في غياهب التوحش والضلالة، أو نتيجة تهور “أولاد مدللين” استهتروا بإنجازات الأجداد واكتشافاتهم التنويرية. وليس هو كذلك من فعل سكان ضواحي المدن الأوروبية الكبرى العنيفين بطبعهم وعاداتهم وتقاليدهم المتأصلة في مجتمعات أخرى خارجة عن أصول التمدن الأوروبي، في إشارة إلى المهاجرين المغاربة والأفارقة ونموهم السكاني الذي يهدد الثقافة والحضارة الفرنسيتين، بل هو نتاج مجتمعات ضحّت بثقافة الحوار وعطلت عمليات التفكير لمصلحة مجتمع قائم على الأعراف، يحول الآخر إلى مجرد شريك في لعبة حروب اجتماعية يقاس فيها الفرد بمدى قوته. ولعل تفكيك الحضارة وإزالتها ليسا من مخلفات ماضٍ سحيق، بل ظاهرة تهدد كل حضارة لا تعترف بإنسانية الآخر وتعدد التعبيرات الثقافية.

هذه هي الأطروحة الأساسية التي يدافع عنها كتاب رولان غوري الجديد الساعي إلى فهم تزايد العنف الاجتماعي في العلاقات اليومية في أوروبا عموماً، وفرنسا خصوصاً، من خلال محاولته إعادة تأهيل المعنى الحقيقي للمفهوم الذي صاغه نوربرت إلياس، مواصلاً عمله السوسيولوجي والسيكوباثولوجي الذي بدأه في كتابه “مصنع عبوديتنا” (2022).

 ويشدد رولان غوري على غياب ثقافة الحوار وقواعد التعايش وتقبّل الآخر وأفكاره وثقافته واحترام معتقداته مهما كانت متناقضة مع أفكار الأوروبي ومعتقداته، محاولاً مساعدة قرائه على التخلص من العنصرية والخوف من الآخر ونشر الكراهية التي تؤدي إلى نعته بالبربرية واللاحضارة.

تصاعد العنصرية

وإحدى النقاط التي ينطلق منها الكتاب تتمثل في ملاحظة غوري عدم كفاية الفرضية الماركسية لشرح تصاعد العنصرية منذ سبعينيات القرن الماضي. فبينما يعترف المؤلف بأن “موجة كره الأجانب” ترتبط بتفكك العلاقات الاجتماعية التي أصبحت مسيّسة وغير متكافئة، نراه يحاول في الوقت عينه الاستدلال إلى المحددات التي تقود إلى هيمنة بعض الأفكار ورواجها، قائلاً، على سبيل المثال لا الحصر، إن الافتتان بدونالد ترمب أو بشريكه الفاشي التكنولوجي إيلون ماسك يستجيب لمحفزات نفسية دقيقة، لكنه ينبع أيضاً من أشكال جديدة لتزييف اللغة التي أطلق عليها أدورنو عبارة “بقاء النازية”.

مستنداً إذاً إلى مفهوم نوربرت إلياس وشروحاته المتعلقة بسيرورة الحضارة وتفكيكها، وإلى أعمال هانا آرندت وسيغموند فرويد، يلاحظ غوري في صعود ما يسميه “الفاشية التكنو-ليبرالية المعاصرة” وجود عناصر مماثلة لتلك التي رافقت في عشرينيات القرن الماضي صعود النازية. فيؤكد لنا أن الثقافة آنذاك كانت التربة الملائمة لنمو الأيديولوجيا القومية والعنصرية، لكنها كانت كذلك الملاذ الوحيد للرافضين لهيمنة النازية وفكرها وسيطرتها المطلقة على الدولة، مما جعلها رمزاً للمقاومة السرية.

وتشكل هذه الفكرة إلى جانب فكرة أن الحضارة هي انتصار حب الحياة على العدمية الخيط الناظم للكتاب بأكمله. فيه يقول لنا رولان غوري إن الهوياتيين وأفكارهم المروجة لكراهية الأجانب والعنصرية والمعارضة للاختلاط الثقافي والمدافعة عن الحفاظ على الكيانات العرقية والثقافية المتجانسة والذين يصفهم بالعدميين، يفعلون تفكيك الحضارة وتقويضها تماماً كما فعل مروّجو “صناعة الفراغ” وبضائعهم الرديئة أولئك الذين تحدث عنهم  كورنيليوس كاستورياديس عام 1979، حين ردّ على برنار-هنري ليفي، أو أولئك المدافعين الزائفين عن حضارة كونية.

عملية التقويض

جميعهم بحسب رولان غوري فاعلون في عملية “إزالة الحضارة وتقويضها” من خلال التفكيك التدريجي للرابط بين اللغة والواقع وبين اللغة ونوازع الحياة. وبغية توضيح أطروحته، يلجأ غوري إلى الاستشهاد بفرويد وقريبه إدوارد بيرنايز، ويبيّن لنا كيف أن فرويد عمل على تحرير الناس مما يثبط عزيمتهم، ليعيشوا ويحبوا تلبية لنداء “إيروس”، بينما عمل بيرنايز الذي يُعتبر الأب المؤسس للدعاية السياسية والتجارية ولصناعة العلاقات العامة التي أسهمت بصورة كبيرة في تطوير النزعة الاستهلاكية الأميركية، في خدمة نوازع الموت أو “ثاناتوس”، من خلال خداع الناس وحثهم على الاستهلاك. ولعل إدوارد بيرنايز لم يتبنَّ بحسب غوري العدمية فحسب، بل أسهم كذلك من خلال استخدام خاص للغة، في تفكيك الحضارة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأمام هذا الواقع الجديد، يدعو كتاب غوري إلى تبني قراءة نقدية جديدة لوظائف اللغة وإلى إعادة إحياء قوة الخيال اللغوي في قلب المجتمعات الديمقراطية، حيث تتعرض الوظيفة النقدية للغة اليوم للإفساد بفعل تدفق الأخبار الكاذبة والدعايات الجماهيرية للمحرضين السياسيين والخطابات التسويقية لصناعات الفراغ والتخمة المعلوماتية المنتشرة على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي. وهذه الانحرافات السياسية للغة جعلت القوة والسخرية والاستمتاع بالعدم تتفوق بعرف الكاتب على الرغبة في الحب والحياة. لذا بات من الضروري بحسبه تعلم كيفية التحرر من هذه الهيمنات الاجتماعية والنفسية من خلال إعادة ابتكار ظروف اجتماعية وثقافية جديدة تمكن الشعوب من التفكير وتبادل الإحساس المشترك.

 باختصار، يقدم رولان غوري إذاً فهماً للعالم من خلال نقده لـ”الفاشية التكنو-ليبرالية” والجذور الرمزية لصعودها، مركزاً على “المنطق الجديد للهيمنة” الذي يعتمد بصورة أساسية على الوظيفة الرمزية للغة التي تقوم بدور مهم في تشكيل الفرد “المتحضر” أو “غير المتحضر”. ففي مواجهة تدمير الحوار الديمقراطي والأضرار الناجمة عن السياسات الحكومية في أوروبا، يقف هذا الكتاب كمدافع عن اللغة والفكر النقدي. إنه نداء لاستعادة الكلمات والأفكار من خلال استعادة إنسانيتنا المصادرة.

رولان غوري هو باحث ومحلل نفسي وأستاذ فخري في علم الأمراض النفسية السريرية في جامعة إيكس-مارسيليا في فرنسا.

نقلاً عن : اندبندنت عربية