لا شك أن تحويل القبلة أحد أهم الأحداث فيِّ تاريخ الإنسانية، وعلامة فارقة فيِّ إظهار ثقة أصحاب سيدنا محمد (صليِّ الله عليه وسلم) فيِّ كل ما أتاهم به من عند الله (عز وجل)، إضافة إليِّ ما تضمنه هذا التحويل من ربط بين القبلتين، قبلتيِّ المسجدين: الحرام والأقصيِّ، ليظل أقصانا لنا ماثلا أمام أعيننا فهو أوليِّ القبلتين وثالث الحرمين وإليه كان مسريِّ نبينا صليِّ الله عليه وسلم ومنه كان معراجه، بما لا يمكن لمسلم أن يفرط فيِّ حقه أو يقصر فيِّ شأنه، ذلك أن نبينا محمد (صليِّ الله عليه وسلم) ظل ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا يصليِّ تجاه بيت المقدس، وكان (صليِّ الله عليه وسلم) يتطلع إليِّ أن يمن الله (عز وجل) عليه بتحويل قبلته إليِّ بيته الحرام بمكة المكرمة (أم القريِّ)، وهو ما عبر عنه الحق سبحانه وتعاليِّ فيِّ كتابه الكريم بقوله: «قَدْ نَرَيِّ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِيِّ السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» (البقرة: 144)، وما أن جاء الأمر وعلم به بعض أصحاب رسول الله (صليِّ الله عليه وسلم) وهم يصلون العصر فيِّ مسجد القبلتين تجاه المسجد الأقصيِّ، حتيِّ تحولوا موقنين طائعين غير مجادلين إليِّ بيت الله الحرام لإتمام صلاتهم، لذا عرف هذا المسجد بمسجد القبلتين، وصار أحد أهم المزارات التيِّ يستحب الذهاب إليها لكل من زار مسجد الحبيب محمد (صليِّ الله عليه وسلم) بالمدينة المنورة عليها وعليِّ ساكنها أفضل السلام، فلا تكاد تجد حاجًّا أو معتمرًا يذهب لأداء حجه أو عمرته دون أن يذهب إليِّ مسجد القبلتين، وإن فاته ذلك لم يعد إليِّ بلده قرير العين أو مستقر النفس لما فاته من الخير، فببركة امتثال أصحاب رسول الله (صليِّ الله عليه وسلم) للأمر الإلهيِّ بالتحول إليِّ بيت الله الحرام حلت البركة بالمكان وأهله إليِّ يوم الدين، وسيظل هذا المسجد فيِّ ذاكرة الأمة رمزا لسرعة الاستجابة لله ورسوله.
وقد تضمن هذا الحدث دروسًا عديدة من أهمها:
١- إبراز مكانة الحبيب (صليِّ الله عليه وسلم)، وبيان رفعة شأنه، وعظيم منزلته (صليِّ الله عليه وسلم) عند ربه، فإذا كان موسيِّ عليه السلام قد قال: «وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَيِّ»، فإن الحق سبحانه وتعاليِّ قد قال لنبينا (صليِّ الله عليه وسلم) «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَيِّ»، وقال سبحانه: «فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا».
٢- بيان مديِّ عمق العقيدة والإيمان والثقة فيِّ الله ورسوله، وقد تجليِّ ذلك واضحًا أشد الوضوح فيما كان من أهل مسجد قباء حين بلغهم أن النبيِّ (صليِّ الله عليه وسلم) قد أُمر بالتحول فيِّ قبلته إليِّ الكعبة المشرفة وصلّيِّ تجاهها فاستداروا إليها وهم فيِّ صلاتهم فجعلوها قبلتهم، مما يشهد بقوة إيمانهم، ويدل عليِّ ذلك ما رواه عبدالله بن عمر أنه قال «بينما الناس بقباء فيِّ صلاة الصبح إذ جاءهم آت وقال لهم إن رسول الله صليِّ الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إليِّ الشام فاستداروا إليِّ الكعبة»، ولهذا سميِّ مسجد القبلتين.
فالمؤمنون الصادقون فيِّ إيمانهم لم يرتابوا فيِّ أمر رسول الله (صليِّ الله عليه وسلم) لأنهم عليِّ يقين جازم بأن كل ما جاء به رسول الله حق لا مرية فيه، لذلك قالوا: سمعنا وأطعنا، وتحولوا فيِّ صلاتهم إليِّ الكعبة المشرفة دون تردد، استجابة لأمر الله (عز وجل)، ولم ينتظروا حتيِّ يُتموا صلاتهم!! وإنما تحولوا فيِّ الحال وهم فيِّ هيئة الركوع، حيث أراد الله لهم.
٣- لما قال بعض الناس ما بال من ماتوا قبل تحويل القبلة؟ وماذا عن صلاتهم إليِّ بيت المقدس؟، كانت الإجابة فيِّ قوله تعاليِّ: «وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ».
٤- تأكيدا عليِّ أهمية الصلاة ومنزلتها ومكانتها فيِّ الإسلام أرتبط أمرها باثنين من أهم الأحداث الفارقة فيِّ تاريخ الإسلام الإسراء والمعراج، حيث تم فرضها من فوق سبع سماوات، وتحويل القبلة بما تضمنه من دروس وعبر.
٥- بيان خيرية أمة محمد (صليِّ الله عليه وسلم) وشهادتها عليِّ سائر الأمم وهذه الشهادة تتطلب أن تكون أهلاً لهذه الشهادة، فعَنْ أَبِيِّ سَعِيدٍ الْخُدْرِيٍِِّّ (رضيِّ الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صليِّ الله عليه وسلم): يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ. فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيَقُولُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ)، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ (صليِّ الله عليه وسلم): «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَيِّ النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»، فأمة اختارها الله للشهادة عليِّ سائر الأمم يجب أن تأخذ بما يستوجب هذه الأهلية وأن تكون بحق صاحبة رسالة رحمة وسلام للعالمين.
٦- أن التحول فيِّ مسألة القبلة ليس مجرد تحول مكانيِّ فحسب، إنما هو دلالة عليِّ حسن الاتباع، والتحول الذيِّ نريده هو كل ما يغير حياتنا إليِّ الأفضل، من البطالة والكسل إليِّ مزيد من العمل والإنتاج، ومن أيِّ مظاهر للتشدد والغلو إليِّ السماحة واليسر، ومن الجمود والتقليد إليِّ التأمل والتفكير، ومن الهدم إليِّ البناء والتعمير، والعلم والتقدم والرقيِّ، فإذا أردنا أن يحول الله (عز وجل) أحوالنا إليِّ الأفضل والأصلح فيِّ كل مجالات الحياة فعلينا أن نغير من أنفسنا بحسن التوكل عليِّ الله (عز وجل) واللجوء إليه، وأن نعْمَل ونكِدّ آخذين بأقصيِّ الأسباب، لأن الله (عز وجل) يقول: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيٍِِّّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّيِّ يُغَيٍِِّّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ»، وهذا هو التحول الذيِّ يتطلبه واقعنا المعاصر.
الأستاذ بجامعة الأزهر
نقلاً عن : الوفد