أعادت اتهامات وزير العدل المغربي عبد اللطيف وهبي قبل أيام قليلة لعدد من الجمعيات المدافعة عن المال العام، بالثراء غير المشروع وتبييض الأموال، إلى الواجهة جدل تمويل جمعيات المجتمع المدني بالمغرب، ومدى تورط بعضها في أعمال غير مشروعة، أو متاجرتها بآلام الناس.

ويستعد وزير العدل المغربي لإعلان قائمة بالجمعيات التي قال إنه يشك بتورط المسؤولين عنها في جرائم تبييض الأموال، والثراء غير المشروع، كما يعتزم إحالة هذه اللائحة على النيابة العامة.

وتوعد المسؤول الحكومي المغربي نفسه العديد من الجمعيات، ومنها المدافعة عن المال العام، بالمحاسبة على مصادر أموال مسؤوليها، وامتلاكهم لإقامات سكنية وسيارات فاخرة، من دون التصريح بمصادر ممتلكاتهم، وفق ما يستوجبه القانون.

وتبعاً للوزير المغربي، الذي تحدث أخيراً في البرلمان “لا يتوافق التصريح الضريبي لبعض الجمعيات المغربية مع ممتلكاتها وأموالها، ما يدفع إلى تطبيق منطق الثراء غير المشروع على هذه الجمعيات”.

 الكم والتمويل

وعمد المغرب إلى دسترة عمل الجمعيات في الفصل الـ12 من الوثيقة الدستورية لعام 2011، والذي يقول إن “جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية تُؤسس وتمارس أنشطتها بحرية، في نطاق احترام الدستور والقانون”، وإنه “لا يمكن حل هذه الجمعيات والمنظمات أو توقيفها من لدن السلطات العمومية، إلا بمقتضى مقرر قضائي”.

ووفق الفصل الدستوري نفسه، تُسهم الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية، في إطار الديمقراطية التشاركية، في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها.

ويشهد المغرب طفرة كبيرة في عدد الجمعيات وتناسلها، والتي تتوزع في أنشطتها على قطاعات التنمية والمجتمع والرياضة والثقافة والفن، وغيرها من القطاعات المجتمعية.

وتفيد معطيات رسمية أن عدد الجمعيات في المغرب لعام 2023 يناهز 268 ألف جمعية تحظى باعتراف السلطات وتخضع للقوانين المؤطرة لعمل جمعيات المجتمع المدني، بينما سبق للمجلس الوطني لحقوق الإنسان أن رصد ما يربو على 259 ألف جمعية غير حكومية في عام 2022.

وتتوصل الجمعيات المشتغلة في المجتمع المدني بالمغرب بالتمويل من الجماعات المحلية، وهي إدارات محلية لتسيير المدن، ومن المؤسسات العمومية التي تعقد شراكات واتفاقات مع هذه الجمعيات.

وتتلقى عدد من الجمعيات غير الحكومية في المغرب أيضاً تمويلات أجنبية، بلغت وفق أرقام الأمانة العامة للحكومة 800 مليون درهم (80 مليون دولار) عام 2024، بزيادة لافتة تعزى إلى الإعانات الأجنبية لمواجهة تداعيات الزلزال الذي ضرب منطقة الحوز في سبتمبر (أيلول) 2023.

وتعتري اختلالات عدة تمويل العديد من الجمعيات المغربية، وأيضاً طريقة تدبيرها، وفق تقارير متوالية أصدرها المجلس الأعلى للحسابات، وهو مؤسسة دستورية تعنى بمحاسبة ومراقبة التدبير المالي للمؤسسات العمومية والجمعيات وغيرها.

وشملت تحقيقات قضاة المجلس الأعلى للحسابات أكثر من 750 جمعية بخصوص تدبير محاسبتها المالية، بعد تلقيها دعماً مالياً من إدارات ومؤسسات عمومية خلال أربعة سنوات، بهدف مراقبة استخدام هذه الأموال في الأهداف المسطرة من لدن الجمعيات.

اختلالات وإكراهات

يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة مراكش، الحبيب أستاتي زين الدين، إنه “على رغم المكتسبات التي راكمتها التجربة الجمعوية في المغرب، والتطور الذي طاول مجالات اشتغالها وعددها والإقرار الدستوري، فإن حالات عدة تبرز أن الشجرة لا ينبغي أن تخفي عن الغابة الكثيفة”، ويشرح زين الدين بالقول إن “التطور الكمي لعدد الجمعيات لا يفيد بالضرورة تنامي الوعي بدور العمل التطوعي وتزايد الثقة في قدرته على التأثير الفعلي في مسلسل اتخاذ القرار العمومي من منطلق كون العمل الجماعي هو، في الأصل، فعل مدني لا يتوخى توزيع الأرباح بين القائمين عليه”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي السياق يسجل أستاتي ملاحظتين رئيسيتين، الأولى تنوع التسميات وتباين الدوافع عند التأسيس، حيث قليلة هي الجمعيات التي تؤسس انطلاقاً من هواجس مدنية أو علمية بحتة أو ضرورات مجتمعية حقيقية، إذ يلاحظ أن فعل الإحداث إما يتم في ارتباط بالأحزاب السياسية التي سارعت إلى تأسيس الجمعيات من أجل الحصول على التمويل والحفاظ على علاقات الاستلزام والاستقطاب في مناطقها وفضاءات نشاطها، أو في سياق التحضير للانتخابات أو نتيجة لها، أو رغبة في الحصول على الدعم المادي بتشجيع مباشر أو غير مباشر من الجهات الممولة والراعية المحلية أو الخارجية.”

والملاحظة الثانية، وفق المتحدث، تتعلق بطغيان العمومية والرمزية على عمل العديد من الجمعيات والمنظمات غير الحكومية”، مؤكداً أن عدداً من تجار العمل الجمعوي حولوا الجمعيات إلى مشروع لجني الأرباح ومراكمة رأس المال المادي والرمزي، من دون أن يعود ذلك بالنفع على المجتمع الذي ينتمون إليه أو تحقيق الهدف الذي يفترض أن يقوموا به.

وأكمل أستاتي بأن هناك أيضاً مشكلة تشتت جمعيات المجتمع المدني ونقص الخبرة وهشاشة الشفافية، فعدد كبير من هذه الجمعيات لا يملك بنك معلومات خاص بالمجال الذي تشتغله فيه، ولا يتوافر على مقرات قائمة بذاتها.

ومن جهة أخرى شدد أستاتي على أنه يتعين إرساء يقظة قانونية للحيلولة دون السماح بتشويه أو تبخيس العمل الجمعوي، ومعاقبة كل من ثبت إخلاله بأخلاقيات التطوع المدني وتلاعبه بالمال العام أو مِنح الدعم الموجهة لخدمة مصلحة عامة.

ورهن الباحث نفسه قطع الطريق أمام “تجار الجمعيات” للإثراء غير المشروع، بضرورة تطبيق مبادئ الديمقراطية، وسيادة القانون، والتوزيع العادل للثروة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، والاستثمار الجيد في التعليم، وتوفير ضروريات الحياة الكريمة.

حملات تشويه

من جانبه، أفاد الناشط الجمعوي والحقوقي عبد الإله الخضري بأن الاتهامات الموجهة إلى عدد من الجمعيات بالاغتناء غير المشروع أو تبييض الأموال أو التربح من مآسي الناس، ليست جديدة، غير أنها تكرر بين الفينة والأخرى.

ويرى الخضري أن هذه الاتهامات، التي اكتست طابعاً رسمياً، تأتي غالباً من تقارير إعلامية أو من شهادات مواطنين، بينما قد تكون بعض الاتهامات الأخرى جزءاً من حملات تشويه تستهدف جمعيات ناشطة في مجالات حساسة مثل حقوق الإنسان أو محاربة الفساد.

واستطرد الناشط ذاته بأنه “لا يمكن إنكار أن هناك حالات لبعض الجمعيات استُخدمت كواجهة لعمليات غير مشروعة، كما أن هناك جمعيات تستغل القضايا الإنسانية مثل الفقر والهجرة والكوارث لجمع التبرعات من دون تحقيق أثر حقيقي في الواقع”.

وواصل الخضري حديثه انطلاقاً من خبرته الميدانية في العمل الجمعوي والحقوقي، بأن بعض جمعيات المجتمع المدني تستغل أموال “الإحسان العمومي” التي تجمعها لأغراض إنسانية واجتماعية.

واستدرك الخضري بأنه “لا ينبغي أن تُقلل هذه السلوكيات المنفردة من عزيمة النشطاء المدنيين والحقوقيين الجادين، ولا أن تُشكك في دور الجمعيات الجادة التي تسهم فعلياً في الترافع وتحسين أوضاع المواطنين”.

وخلص حديثه إلى أن “تبييض الأموال جريمة لم تستثنِ مجالاً من مجالات الحياة العامة، ولذلك يجب تطبيق القانون بحزم إزاء كل تجاوز، لكن لا ينبغي وسم العمل الجمعوي بهذه التهم بسبب سوء فعل قلة من الجمعيات”، وفق تعبيره.

نقلاً عن : اندبندنت عربية